الحروب الناعمة أشدُّ من القتل

أسامة العرب

في الحروب العسكرية يكون هدف العدوّ أن يبيد ويدمّر مواقع الطّرف المقابل أو البلد الذي يهاجمه، أما في الحروب الناعمة فيكون هدفه خطف قلوب الشباب وسلب عقولهم وخطف إراداتهم ضدّ العمل القومي النضالي والمقاوم، وإبداله بالكسب المادي الفردوي، أيّ أنّ العدوّ يهدف لتبديل إرادتهم الوطنية. وبالطبع، فإنّ هذه ليست أسراراً مخفيّة، ففي مرحلة من المراحل كان هنالك إجماع حول تحرير فلسطين من براثن الاحتلال الصهيوني ومحاربة الاستعمار الأجنبي وتحقيق أيّ نوع من أنواع الوحدة. ومن ثم تخلّى البعض عن كلّ هذه القضايا بذريعة واهية مفادها أنّ الهزيمة قد لحقت بالسابق بنا، وبأننا لن نتمكن من تحرير فلسطين مهما طال الزمن! في حين أنّ أخطر ما نواجهه اليوم هو قتل الأمل، والدعوة إلى إبدال المشروع الوطني المقاوم بمشروع الكانتونات الإثنية والطائفية والمذهبية الفتنوية، وهذا ما يُدخلنا إلى الاستراتيجيّة التي يجب أن نتّبعها لمواجهة الأفكار المنحرفة التي يصدّرها العدو لنا من خلال حروبه الناعمة.

ولكن بدايةً، ينبغي أن نفهم ماهية هذه الحروب، لكي نعرف هذا الخطر الذي يحتاج دَفعه إلى جهودٍ مضنية وجبارة، ولكي نستطيع أن ننبّه شعوبنا منه. وعموماً، فإنّ الحروب الناعمة ترفع شعارات ودعايات محقة بالظاهر ولكنها باطلة في الباطن، فتخلط الحق بالباطل، وتسعى لنشر مراكز الفساد والدعارة والقمار والترويج للمخدرات في البلاد المستضعفة لإفساد أجيالها الجديدة، ولإحباط عملها المقاوم، ولطوي صفحة قضاياها المحقة كقضية فلسطين وقضايا الوحدة، للدفع قدماً باتجاه تقسيم المقسّم والرضوخ للتطبيع، فيما تدعم أعداء هؤلاء كإسرائيل والمنظمات الإرهابية مالياً وعسكرياً لتساعدهم على شنّ مزيد من الحروب عليهم، بغية قضم المزيد من أراضيهم وسلبهم ثرواتهم الطبيعية. وإذا ما تحقق ذلك، فتكون الحروب الناعمة قد حققت أهداف الحروب العسكرية نفسها، وبأقلّ تكلفة. ولهذا، يقول مدير مجلس المخابرات الوطني الأميركي السابق جوزيف صموئيل ناي، والذي شكلت مؤلفاته مصدراً رئيسياً لتطوير السياسة الخارجية الأميركية في عهد باراك أوباما: «إنّ القوة الناعمة تعني القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الرشوة والخداع عوضاً عن القتال»، كتلفيق الأكاذيب ونعت المقاومات بصفة الإرهاب، وإسقاط الخيارات الحرة والممانعة، وتبنّي الازدواجية بالمعايير المطبقة دولياً، والادّعاء زوراً بالرغبة في نشر الحريات والديمقراطية في الدول الممانعة، وتأسيس المنظمات الإرهابية التكفيرية، وتوسّل النفاق والدجل الإعلامي للترويج للمخططات التقسيمية، ونشر المشاريع الفتنوية الإثنية والطائفية والمذهبية، وشراء النفوس والذمم بأبخس الأثمان.

وهنالك استراتيجيات عدة من الممكن اعتمادها للمواجهة، منها تعزيز الوعي والمعرفة، والتصدّي للمشاريع الفتنوية، وتنمية الثقة بالنفس، وإدارة المعركة المعرفيّة والثقافيّة والإعلاميّة والسياسيّة بطريقة متوائمة ومتناسبة مع طبيعة قضايانا المحقة التي تبذل الدماء من أجلها. فعلى سبيل المثال، قامت رئيسة لجنة «الدوما» الروسي لشؤون الأمن ومكافحة الفساد سابقاً إيرينا ياروفايا، بتنبيه مواطنيها من أنّ وكالة الاستخبارات الأميركية تسعى للقيام بعمليات اغتيال لهم في سورية، وشرحت لهم بالتفصيل كيف أنّ نائب رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية سابقاً مايكل موريل، والذي دعا علانيةً إلى قتل الروس والسوريين والإيرانيين في سورية، أفشى أسراراً أمنية خطيرة تفيد بأنّ القوات الأميركية تنوي التخفي مستقبلاً بأقنعة إرهابيين تكفيريين لتنفذ عمليات اغتيال سرية لتقسيم سورية. كما أنّ التطورات الأخيرة في الميدان تنبئ بأنّ أميركا عازمة على المضيّ قدماً بهذا المخطط. وعليه، فإنّ أحد أهمّ استراتيجيات مواجهة الحروب الناعمة تكمن بتوعية الشعوب وتنبيهها من مخططات الأعداء، وتدريبها على سبل المواجهة الصحيحة والمثمرة.

إلا أنّ المشكلة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أنها لم تستطع حتى الآن أن تبني استراتيجية شاملة لحماية مواطنيها من فخاخ الحروب الناعمة، لا سيما عندما تكون أذرعة الأخطبوط الأجنبي تتقن فنون التهديد والترغيب وتستهدف استغلال البسطاء. وللأسف فالعديد من مواطنينا ليس لديهم أدنى قدرة على التمييز بين ما يستجلب الخير لهم ولأوطانهم وما يوقعهم في معاظم الشرور. ومما تجدر الإشارة إليه، أنّ روسيا والصين قرّرتا مؤخراً مراجعة وثائق عقائد جيوشهما، ففي العام 2014 قامت روسيا بالتصديق على وثيقة مراجعة العقيدة الروسية الجديدة والتي جعلت من المغريات التي تعرضها دول حلف الناتو على جنودها «التهديد الأساسي» لها، أما الصين فقد قامت بتحديث كتابها الأبيض الذي يشرح عقيدتها العسكرية الجديدة بغية حماية جيوشها من الاختراقات كافة. ويلاحظ هنا بأنّ الجديد في العقيدة القتالية للجيش الصيني هو أنها باتت تفرض على جنودها أن يعتبروا بأنّ معركة تحرير بلادهم لم تنته أبداً، فارضةً عليهم اتباع منطق المقاومة المستمرة.

فصحيح أنّ مجتمعاتنا المقاومة قد استطاعت أن تنتج فكراً وطنياً ونضالياً متحرّراً وأجيالاً مقاومة، كما تمكنت من أن تحوّل زمن الهزائم إلى زمن انتصارات وصمود وتحدّ، إلا أنها إذا ما أرادت أن تحافظ على سجل انتصاراتها المتتالية، فإنها مدعوة لأن تحصّن أوطانها من الداخل لكي تمنع حصول الاختراقات. فيجب ألا ننسى أنّ العدو بعد أن فشل عسكريّاً في القضاء على محور المقاومة وإحباط نتائج الانتصارات المذهلة التي حققها هذا المحور، عمد إلى استخدام قواه الناعمة وعلاقاته مع دول الغرب للنيل منه. وهذه القوة كانت موجودة ومستخدمة بعناوين شتّى في السابق، لكن في هذه المرحلة بالتحديد، اتجه تركيز العدو كلّه إلى داخل أراضينا، فعمد إلى توجيه أدواته، واستخدَم كلّ ما يملك من طاقات وإمكانات لقلب الموازين لمصلحته. ولهذا، نشرت صحف العدو مؤخراً أنّ «الموساد» يركز عمله على الاضطرابات والتحوّلات الجارية في الشرق الأوسط، وتحديداً ما يتعلّق بإيران وسورية وحزب الله وحركة حماس، ولتحقيق هذه الغايات فقد طوّر أساليبه وأجهزته التكنولوجية منشئاً غرف عمليات مشتركة مع أجهزة استخبارات دول الغرب كافة، بمعنى أنه بات يستطيع أن ينفذ عمليات توريط أو اغتيال للمقاومين في أغلبية دول العالم، لا بل إنه بات باستطاعته أن يتعاون مع أجهزة استخبارات الدول الأجنبية لتحقيق ذلك. إلا أنّ الخطر الأكبر علينا اليوم، يكمن بأن نبقى جاهلين كلّ ما يدور حولنا، ولا نشعر بوجود أيّ شيء، فالكثيرُ كُتب عن الاستعمار والصهيونية والظلم وما لحق بنا من اضطهاد، إلا أن مجتمعاتنا كانت تركّز دوماً على التصدّي للحروب العسكرية وتقلّل من أهمية مواجهة الحروب الناعمة، فيما يعود سبب أغلبية نكساتها ونكباتها إلى مدى تعاظم النفوذ الأجنبي داخل أراضيها بفعل حروبه الناعمة، ولهذا، فقد كان الأجدى بها أن تقوم بمواجهة الحروب الناعمة قبل أن تنتقل لمرحلة مواجهة العدو عسكرياً.

وأخيراً، فإنّ من واجبنا كشعوب مقاومة أن نقوم بتوعية وتثقيف أجيالنا الجديدة، وسؤال يطرح: لماذا تعتدي أميركا خارج أراضيها على مواطني سورية وروسيا وإيران ولبنان؟ ولماذا تتعمّد استهدافهم بالصواريخ الجوية؟ ولماذا تطلق الدعوات لاغتيالهم علانية؟ ولماذا تسعى لنشر الفتنة المذهبية والإثنية في بلادهم؟ ولماذا تدعم المنظمات التكفيرية لتستعبد شعوبهم؟ ولماذا تعدّ المخططات التقسيمية لتجزّئ أوطانهم؟ ولماذا تقدّم الدّعم المالي والعسكري السخي لدولة الاحتلال لتقضم المزيد من أراضيهم؟

وأختم بالقول، بأنّ العدو يعمل بوسائل خفية مخيفة لا بدّ أن نحتاط منها، كما أنّ مواجهتها لا تتمّ إلا بالرؤية الواضحة وبالمقاومة المستمرة، لكننا سننتصر عليهم بإذن الله وسنحرّر الأرض والإنسان معاً!

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى