ماذا لو لم تجر الانتخابات وفق النسبية؟

ناصر قنديل

– يتساءل الكثير من المعنيين والمتابعين عن المفتاح الذي يمكن من خلاله قياس مدى قدرة العهد الجديد على التبشير بتغيير سياسي اقتصادي اجتماعي، أو التحوّل إلى عهد إدارة للتوازنات والمصالح، فالنقاش المقارن بين عهدي الرئيسين العمادين إميل لحود وميشال عون، لا يمكن أن يطال ملف السياسة الخارجية، ولا الموقف مع المقاومة وسورية، والفارق الذي يستطيع عهد العماد الرئيس ميشال عون تقديمه مقارنة بعهد الرئيس العماد إميل لحود، هو بالقدرة على صياغة مشهد داخلي مختلف لتحقيق الوعود ذاتها بالتغيير التي بشر بها عهد الرئيس لحود، وكانت موضع التفاف شعبي مشهود بداية العهد، والمصدر الذي يستند إليه الأمل بالقدرة على تحقيق ما لم يتحقق في عهد الرئيس لحود هو حجم الكتلة الشعبية المساندة بثبات للرئيس العماد عون، والزعامة السياسية والشعبية التي تمنحه صفة أقوى الزعماء المسيحيين، مقابل ما أخذ من نقطة ضعف على عهد الرئيس لحود بافتقاده الحاضنة الشعبية المسيحية، ووقع عهده على خط الاشتباك مع الشارع المسيحي الذي كان يتقاسم قيادته تيار العماد عون ومناصرو حزب القوات الذي يرأسه سمير جعجع.

– الفارق الذي نتحدث عنه هنا ليس بالتأكيد التطلع لحلول سحرية لأزمات نظام تفاقمت وتراكمت إلى الحدّ الذي بات معها كلّ إنقاذ وإصلاح محكوم بتواضع السقوف، خصوصاً أنه يجري في ظلّ الحفاظ على الصيغة الطائفية للنظام السياسي التي تشكل مصدراً رئيسياً من مصادر الأزمات، وسيكون القياس بعين التطلع لمثل هذا التغيير الجذري واعتباره أساساً للحكم على العهد فيه ظلم كبير للعهد، وتهاون في تقدير حجم الأزمات من جهة وحجم تجذر وقوة النظام الطائفي من جهة أخرى ودوره في تفاقم الأزمات وتعقيد مسيرة الإصلاح من جهة ثالثة، لكن الفارق الذي نتحدث عنه أيضاً ليس الفارق الذي سيحدثه مجرد وصول العماد عون للرئاسة بحجم ما يمثل كركن مقرّر في معادلات الدولة والمجتمع، سواء بالقدرة على إدارة التوازنات والمصالح في قلب معادلة الحكم، أو بحجم الحصانة السياسية والشعبية التي سيمنحها للخيارات الإقليمية الداعمة للمقاومة وسورية، من الموقع المزدوج للرئاسة والزعامة معاً، إنه الفارق الذي يتمثل بإحداث تراكم تصاعدي لحساب فكرة الدولة وعبرها لفكرة المواطنة، ومعهما لمنطق القانون، وما سيمثله هذا التراكم من نقلة نوعية في بنية الدولة وهيبتها، وتضعف معها أحجام المساحات التي تحتلها الطوائفيات، من الدولة وعلى حسابها.

– الفارق المنشود يتوقف على إقامة توازن جديد، في قلب معادلات الحكم، فهل تكفي مهابة الرئاسة المستندة إلى الوزنين السياسي والشعبي للعماد الرئيس، أم أنّ ذلك يحتاج إلى توازن جديد، هذا هو السؤال المفتاحي في مطلع العهد، والجواب تقوله الوقائع السياسية والدستورية، وفيها أنّ الرئيس سيملك حكماً قدرة التعطيل، بحق الفيتو الذي يملكه من جهة، وبامتلاكه قدرة تحويل الفيتو إلى سبب كافٍ لمنع ما يجب منعه، بحكم استناد الرئاسة إلى الزعامة، زعامة شارع شعبي وازن سيزداد نهوضاً، وزعامة تكتل نيابي لا يمكن تخطيه، ومعهما تحالفات وازنة نيابياً وقادرة على إشهار البطاقة الحمراء لحماية موقع الرئاسة عند الضرورة، وقد فعلت ذلك لسنتين ونصف السنة حتى أوصلت العماد بأمان إلى قصر بعبدا. لكن السؤال يطال الفعل الإيجابي القائم على قدرة العهد وفقاً لرؤية واقعية، بسقوف متواضعة، تعرف تركيبة النظام وتراعيها، وتعرف المصالح الحيوية للقوى المشاركة في الحكم وتضعها في الحساب، لكنها رغم ذلك وفوق ذلك تستطيع الدفع بقوة وثبات وبلا تصادمات كبيرة تعطل الدولة، وتحقق التراكم المنشود.

– الأكيد هو أنّ التوازن القائم في المجلس النيابي، يتكفل بتعطيل قدرة الرئيس على إحداث ما يتخطّى قدرة ممارسة الفيتو وصولاً للتعطيل، منعاً لإفشال العهد، وجعله رهينة لعبة إدارة الأزمات، وأيّ تغيير منشود وبسقوف متواضعة يستدعي توازنات جديدة في المجلس النيابي تبرّر توازنات جديدة في الحكومة المقبلة، والانتخابات على مسافة شهور قليلة، لكنها ستنتج مجلساً عمره أربع سنوات هي العمر المجدي للعهد الجديد، ومثلما سيكون التمديد للمجلس النيابي الحالي إعلان وفاة للآمال التغييرية المعقودة على العهد، وهو الذي رفض بشخص الرئيس العماد ومعه تياره وشارعه عمليات التمديد السابقة، وصولاً إلى معادلة لا شرعية المجلس الحالي التي أثارت إشكاليات كثيرة، لا تزال حاضرة، فإنّ إنتاج مجلس نيابي جديد تحكمه توازنات المجلس الحالي ذاتها سيكون إعلان اكتفاء العهد بإدارة توازنات النظام، والإقرار سلفاً عن رومانسية وطوباوية التطلع للتغيير وبالعجز عن إحداثه.

– وفقاً لمعادلة الواقعية والحاجة لمراعاة التحالفات والتفاهمات التي أنتجت الرئاسة بالصيغة التي عرفناها، ستكون العملية الانتخابية المقبلة إذا جرت وفقاً للنظام الأكثري، سواء قانون الستين أو سواه، ممراً إلزامياً لإعادة إنتاج مجلس نيابي يشبه المجلس القائم، حيث سيكون التيار الشعبي المساند للرئيس سواء في الساحة المسيحية أو في ساحات أخرى مقيّداً بعدم إثارة الاشتباك المبكر مع أطراف التفاهمات التي أنتجت الرئاسة. ولا مفرّ من هذا القيد إلا بقانون انتخابي يحرّر الجميع من التحالفات، ويجعلها مستحيلة، وهذا لا يتحقق إلا بقانون يعتمد النسبية حيث تبدأ التحالفات بعد الانتخابات، وبدلاً من إلزامية تقاسم مقاعد الدوائر مع الشركاء في الخيار الرئاسي بالتراضي، الذي لن يجد أمامه لا مراعاة التوازن النيابي الحالي مقياساً، سيكون مع التمثيل النسبي طبيعياً أن يخوض كلّ فريق تجربته الانتخابية منفرداً، والتوجه بعد الانتخابات نحو التحالفات، لكن بأحجام نيابية أفرزتها الانتخابات، وسيكون طبيعياً عندها التطلع لصرف الفائض الشعبي الذي أضافته الرئاسة إلى الزعامة في طائفتها وسائر الطوائف بكتلة نيابية أكبر وتحالفات نيابية تتيح تشكيل أكثرية، تغييرية إصلاحية، لكن عاقلة وغير تصادمية، وقادرة على صياغة مشروع حكومي، لا مانع من بقاء رئاسة الحكومة فيه للرئيس سعد الحريري، طالما التمثيل الحكومي للكتل النيابية سيراعي أحجامها.

– قد تكون من المرات النادرة التي يشكّل فيها قانون إصلاحي انتخابي وفقاً للنسبية، مخرجاً من المأزق لقوى طائفية كانت تراه مصدراً لخسارتها. فالرئيس الحريري الذي يتطلع نحو طرابلس بقلق انتخابي، سيكون مرتاحاً لقانون يضمن له حصته النيابية وفقاً للنسبية، بينما قد يهدّد النظام الأكثري بوضعه خارج معادلتها النيابية كلياً. والنائب وليد جنبلاط في الشوف في وضع لا يخرجه من القلق تجاه ثلاثي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وتيار المستقبل، إلا التمثيل النسبي الذي يمنحه فرصة حصاد مقاعد خارج طائفته لن يكون ممكناً في ظلّ النظام الأكثري. والتحالفات القائمة، التي قد لا تعرض على جنبلاط أكثر من ضمان مقاعد طائفته، ومن موقع الضعيف، ومثلهما، سيكون في العلاقة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، الذهاب للنظام الأكثري تكريساً لثنائية تقتل مشروع التيار الذي يحيا بتعددية خياراته التحالفية مسيحياً، والحفاظ على حرية الحركة داخل هذا التعدد، وهو ما لا يحققه دون تصادم غير وارد بالتأكيد مع القوات، إلا النظام النسبي، حيث سيتقاسم التيار والقوات والمردة والقوميون مثلاً تمثيل دائرة تضمّ بشري وزغرتا والكورة والبترون، ومثلها المتن مع حلول الكتائب بدلاً من المردة، ومن دون أيّ إخلال بالتفاهم والتعاون مع القوات.

– المفتاح واضح كما القفل واضح، النظام النسبي في دوائر متوسطة الحجم تتشكل من الأقضية التي يبلغ عدد نوابها ثمانية، ومن دمج الأقضية التي تنتج دوائر يتراوح عدد نوابها بين ثمانية واثني عشر نائباً، وهذا قد يكون ممكناً بتوظيف زخم العهد لإنتاجه، وبشرح هادئ لمصالح الجميع باعتماده وهو ما تقول مقاربة سريعة لنتائجه إنه سيطلق دينامية سياسية وشعبية ونيابية ستمنح العهد البداية التي يحتاجها للتبشير بآمال تليق بالرئيس وتاريخه والوعود الكبيرة التي يضعها الناس لأنفسهم ولبلدهم مع وصوله إلى سدة الرئاسة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى