كآبة لافروف وسلوك واشنطن

سعد الله الخليل

لولا خبرة وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف السياسيّة، وإتقانه لعبة السياسة الباردة التي تمتاز بها الدبلوماسيّة الروسيّة، ولولا قدرته على المواجهة السياسيّة خلال العقود الماضية منذ دخوله أروقة الأمم المتحدة العام 1994 مندوباً لموسكو، لأصيب بالاكتئاب منذ سنوات، ولما انتظر سنوات الأزمة السوريّة ليعلن عقب لقائه الأخير نظيره الأميركي جون كيري بأنّ نتائج اجتماعات اللجنة الروسيّة الأميركيّة حول سورية مثيرة للاكتئاب.

ربما يفصح لافروف للمرة الأولى عمّا يدور في كيانه من أفكار ومشاعر، بعد مشاورات ماراثونيّة روسيّة أميركيّة حول سورية، سبق وأن أعلن الجانبان عشرات المرّات خلالها عن قرب التوصّل إلى اتفاق حول قضايا حساسة في الملف السوريّ بتفاصيلها الدقيقة، إلّا أنّ المحصّلة سرعان ما تتلاشى تلك الاتفاقات، لتتراجع واشنطن عن تعهّداتها وتعود التفاهمات إلى أروقة الغرف المغلقة وتصبح في خبر كان، ولعلّ آخر التفاهمات حول حلب يعكس جانباً ممّا يدفع لافروف للكآبة.

ستّ سنوات من عمر الأزمة السوريّة عايشها لافروف وزيراً لخارجيّة «قيصريّة» سيطرت على برلين بنهاية الحرب العالميّة الثانية، وشاركت فيها أغلب دول العالم، والتي استمرت ست سنوات، أي ما يقارب ما مضى من عمر الحرب السوريّة، تورّطت في تلك الحرب العالميّة أغلب الدول التي تقاتلت في الحرب العالمية من دون أن تتوصّل تلك الدول لقواسم مشتركة حول توصيف ما يجري في سورية، هل هي حرب أم أزمة أم تقاطع مصالح إقليميّة أم تصفية حسابات دولية؟ أم هي كلّ ما سبق وأكثر في ما تشهده الأرض السوريّة؟

يكفي أن يضطرّ لافروف للتواصل على مدى أربع سنوات مع نظيره الأميركي جون كيري بشكل شبه يومي، ليُصاب الدبلوماسي الروسي بكآبة تامّة، فتصريحات كيري المزاجيّة وما يُسرّب عنه من أحاديث من الجلسات المغلقة تجعل من الصعوبة الجزم لمن يجالسه بأنّ ما صدر عن كيري يمكن البناء عليه كموقف ثابت، يؤسّس لاتفاق يمثّل القطبين الأكبر في العالم، ويساهم بشجاعة بإيقاف آلة الحرب التي أدمت السوريّين. وفي تصريحات كيري المسرّبة عن اجتماعه بأطراف المعارضة السوريّة على هامش اجتماعات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، بأنّ الروس قد «خدعوه» في المفاوضات حول سورية، وكذلك تصريحه عن إحباطه من معالجة بلاده للملف السوريّ، ما يكشف جانباً من شخصيّة كيري وعجزه عن الإيفاء بأيّ تعهّد، فجوهر تصريح كيري يعكس عن شخصيّة توظّف لملء فراغ سياسيّ في سلوك الإدارة الأميركيّة البعيدة كلّ البعد عمّا يعلنه كيري، وهذا ما يُعرقل تنفيذ الالتزامات الأميركيّة، وأكثرها وضوحاً التعهّد الأميركيّ بفصل من تصفهم واشنطن بالمعارضة المعتدلة عن التنظيمات الإرهابيّة من «داعش» و«النصرة»، وهو تحدّ رضي كيري الدخول في متاهته رغم قناعته بصعوبة تنفيذه على أرض الواقع.

في التعاطي الروسي مع الانتخابات الأميركيّة ما يدلّ على الإدراك الروسيّ للعقليّة الأميركيّة في السياسة الدوليّة، فبالرغم من سيل الاتهامات الأميركيّة لموسكو بالتورّط في الانتخابات التي أوصلت المرشّح الجمهوري دونالد ترامب للبيت الأبيض، وبالتزامن مع تصريحاته البرّاقة عن الاستعداد للتعاون مع موسكو، أدركت الدبلوماسيّة الروسيّة بأنّ ترامب لن يخرج من نطاق السياسات الأميركيّة المعادية لسورية، والتي تجعل أولويّات واشنطن مصلحة الكيان الصهيونيّ، وهو ما بدا بالتصريح الأول لترامب بالتأكيد على أولويّة مصالح «تل أبيب»، والتي تتقاطع مع المصالح الخليجيّة، والسعوديّة بطبيعة الحال، التي تجد نفسها أمام استحقاق جديد قديم يتطلّب المزيد من دفع الأموال.

تدرك موسكو بأنّ الحديث عن انكفاء واشنطن باتجاه الداخل الأميركي وعقلنة حروبها، يطرح تساؤلات عن قدرة الرئيس على اتّخاذ القرارات في المنظومة الأميركيّة، في ظلّ سيطرة مجموعات الضغط، لوبيات شركات السلاح والمال واللوبي الصهيوني، وهذه اللوبيات ذاهبة باتجاه الحرب، وبالتالي فإنّ المسألة معقّدة وليست بهذه البساطة ليتّخذ الرئيس المنتخب ترامب قرار الانكفاء.

تتابع الدبلوماسيّة الروسيّة جملة القوى الأميركيّة والخارجيّة التي تقف في وجه أيّ تقارب روسيّ أميركيّ لوقف الحرب في سورية، أوّلها تصريحات وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر الذي نصح ترامب بعدم التقارب مع موسكو، كترجمة لموقف البتاغون الدافع باتجاه الحرب، فيما أعلنت بريطانيا رفضها لأيّ تقارب محتمل روسي أميركيّ، وربما تكبر كرة الثلج بوجه ترامب في قادمات الأيام، وهو ما يُبقي على الحذر الروسي من تصريحات ترامب والتشكيك في دقّة الوعود التي قدّمها الرئيس الأميركي المنتخَب قبل الانتخابات بالتعاون مع روسيا في سورية.

يتلخّص الموقف الروسي بأنّ آفاق التعاون الأميركيّ يتمثّل بإمكانية دخول واشنطن في عهد ترامب بتسوية حول سورية، وبمحاربة جديّة لـ«داعش» في حال اقتنعت بضرورة انتهاء الدور الوظيفي لتنظيم «داعش»، وإيجاد البديل المناسب للمضيّ في مشاريعها ضدّ سورية والمنطقة، وقد يشكّل وصول ترامب فرصة للمضيّ بتسوية في سورية عبر لجم المشروع السعوديّ من جهة، واقتناع تامّ باستحالة كسر الدولة السوريّة من جهةٍ أخرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى