إرث كاسترو: ثورة لا تموت بوجه الاستعمار

أسامة العرب

عن عمر ناهز التسعين عاماً، قضى منها أكثر من ستين عاماً متحدّياً العدوان والحصار الأميركي لكوبا، رحل الزعيم الكوبي «فيديل كاسترو» تاركاً وراءه رصيداً من التحدي والصمود للبشرية أمام الاستعمار الأجنبي للبلدان المستضعفة.

بدأ فيديل كاسترو حياته النضالية عام 1953، حيث بدأ يتكلم بلسان الشعب الكوبي مطالباً بتأسيس أيّ مشروع وطني تعليمي أو استشفائي أو صناعي أو زراعي نهضوي لكوبا، أو حتى بوقف الهدر العام ووضع أي مخطط تنموي للبلاد، لكنّ دُمية الاستعمار الأميركي، ووكيل مصالحها في كوبا فولغينسيو باتيستا، كان يحبطهم دوماً، وذلك كي تبقى الشركات الأميركية المتعددة الجنسية تنهب الأخضر واليابس من ثروات الكوبيين الفقراء، مقدّمةً الفتات لأزلام النظام. فقرّر حينها تشكيل مجموعة من الوطنيين الأحرار لمواجهتهم، فسجن لمدة عامين، ثم سافر إلى المكسيك واجتمع برفاقه الثوريين محضّراً لانقلاب عسكري شامل، ثم عاد عام 1956 وتمكّن من تشكيل جبهة وطنية نجحت في إسقاط نظام باتيستا عام 1959، وتسلّمت مقاليد الحكم في البلاد.

وفي نيسان عام 1961 قرّرت الولايات المتحدة الانتقام منه، فجنّدت جيشاً خاصاً من العملاء لاجتياح كوبا، إلا أنّ الجيش الكوبي الوطني كان بالمرصاد، حيث تمركز في خليج الخنازير وتمكن من صدّ الهجوم وردع المهاجمين واعتقال العديد منهم، كما قام الاتحاد السوفياتي آنذاك بنشر صواريخ بالستية في الجزيرة الكوبية لردع أيّ محاولة أميركية لغزوها.

وفي أعقاب فشل الولايات المتحدة بإسقاط كاسترو أو احتوائه، قرّر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون حينها اتخاذ سلسلة خطوات عملية من شأنها أن تتسبّب بمجاعة في كوبا وتطيح حكومته. ففرضت أميركا على كوبا أطول حصار بالتاريخ الحديث، امتدّ حوالي ستة وخمسين عاماً، مخلّفة خسائر اقتصادية مباشرة تقدّر قيمتها بحوالي تريليون ومئة واثني عشر مليار دولار أميركي، خصوصاً بعدما أصبح الحصار شاملاً للغذاء والدواء والوقود وكلّ متطلبات الحياة بالإضافة الى حظر انتقال الأشخاص والأموال والسفر والزيارات والاتصال الثقافي والعلمي وغيرها.

إلا أنّ كيد المستعمر ارتدّ على صاحبه، وصمد الشعب الكوبي بوجه كلّ الضغوط التي مورست عليه، وعندها قرّرت كوبا كاسترو تقديم الدعم لجميع حركات التحرّر الوطني التي تواجه الاستعمار الأجنبي. فكانت كوبا من أوائل المناصرين لحركة المقاومة الفلسطينية، وامتدّ دعمها إليها ليشمل السلاح والتدريب العسكري والاستخباري بالتعاون مع دول الجوار، لا سيما الأردن، وسورية ولبنان واليمن. وفي عام 1973 قطع علاقات بلاده نهائياً مع «إسرائيل»، ومن ثم في عام 1975 كان من رعاة قرار الأمم المتحدة الذي تمّ التصديق عليه في ذلك العام، وينصّ على أنّ «الصهيونية شكل من أشكال الفاشية والتمييز العنصري»، ولكن القرار تمّ إلغاؤه في عام 1991. وفي عام 2014، قال «كاسترو» إنّ «إسرائيل تنفذ هولوكوست ضدّ الفلسطينيين»، تعليقاً على حرب الخمسين يوماً التي شنّتها «إسرائيل» على قطاع غزة. أما بالنسبة للجزائر، ففي عام 1961، بدأت كوبا كاسترو بتقديم المساعدات لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية التي كانت تحارب الانتداب الفرنسي، حيث ساهم دعمها العسكري للثوار الجزائريين في قلب موازين القوى، حتى حصلت الجزائر على استقلالها في عام 1962، لا سيما بعدما قام كاسترو بشحن كميات كبيرة من الأسلحة للجبهة الجزائرية عبر المغرب خلال الفترة الممتدة بين عامي 1960-1962. وفي أواخر الستينيات أيضاً، دعمت كوبا كاسترو مصر عسكرياً في إطار تقديم المساعدة للقوات العربية المختلفة التي كانت تحارب الاحتلال الإسرائيلي أثناء «حرب الاستنزاف». كما كان لكوبا العديد من المواقف التي تصبّ في الدعوة للحفاظ على وحدة العرب ورفض تقسيم البلدان العربية. ويسجل لكاسترو موقفه الرافض للتدخل العسكري الخارجي في ليبيا في 2011، حيث وصف كاسترو حلف شمال الأطلسي إثر تدخله في ليبيا بأنّه أصبح «آلة القمع الأكثر خداعاً في تاريخ الإنسانية». كما طالب بإعادة الأراضي الكوبية التي احتلتها الولايات المتحدة في قاعدة غوانتانامو البحرية، منتقداً التعذيب الذي يمارَس في معتقلاتها.

لم تستطع أميركا أن تتحمّل الهزيمة، فسعت وكالة استخباراتها المركزية لاغتياله مرات عديدة، لدرجة أنه دخل موسوعة غينيس عام 2011 بسببها. فقد نشرت الاستخبارات الأميركية بعض الوثائق عام 2007 والتي تشير فيها إلى محاولاتها اغتيال الزعيم الكوبي الراحل، إذ ذكر في بعض تلك الوثائق أنّ الوكالة استعانت في سنة 1960 بشخصين من أصحاب السوابق من أجل تسميم كاسترو. حيث التقى عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي روبرت مايو، وبطلب من الوكالة، برجل العصابات جوني روسيلي. وقدّم مايو نفسه كرجل أعمال يريد الانتقام من كاسترو لمنع الأخير القمار في كوبا. فقدّم روسيلي اثنين من أكثر المجرمين المطلوبين للعدالة في الولايات المتحدة للتعاون معهما، وهما مومو غيانكانا وسانتوس ترافيكتانته، اللذان حاولا تسريب ستة أقراص سمّ في طعام كاسترو لمدة ستة أشهر متتالية، ولكنهم فشلوا في ذلك. وبحسب موقع «شبيغل» الألماني، حاولت وكالة الاستخبارات الأميركية مرات عدة تفجير السيجار الذي يعشق كاسترو تدخينه، بالإضافة إلى استخدامها أسهماً سامة وقنبلة وسكيناً وأسلحة نارية وقلم حبر مسموم. حتى أنّ وثائق هذا الجهاز الاستخباري في الولايات المتحدة كانت تصفه «بصاحب أكبر عدد محاولات اغتيال في العالم». أما بحسب موقع «شتيرن» الألماني، فإنّ عملاء مخابرات أميركيين استطاعوا مرة الوصول إلى غرفة نوم الزعيم الكوبي وتغيير السيجار الذي كان يدخنه بآخر مسمّم، إلا أنّ كاسترو كان في هذه الأثناء قد أقلع عن التدخين تماماً. وبحسب CNN فإنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية حاولت اغتيال كاسترو، عن طريق استخدام الحبوب السامة عبر تجنيد إحدى العميلات. وأوضحت القناة أنّ ماريتا لورينز، التقت بكاسترو بعد فترة وجيزة من الثورة في كوبا، وذلك وفقاً لمذكراتها التي نُشرت عام 1993، بعنوان ماريتا: حكاية حب وتجسّس امرأة واحدة من كاسترو إلى كينيدي. وعاش كاسترو ولورينز علاقة عابرة، ولكن لورينز كانت مجنّدة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية وأٌرسلت إلى كوبا مع حبوب السمّ، ولكن عندما وصلت إلى هافانا وجدت أن الحبوب تحللت في علبة من كريم للوجه حيث خبّأتها، وفي الوقت ذاته كان كاسترو على علم بالمؤامرة.

باختصار، لقد حوّل تحدّي كاسترو للولايات المتحدة إلى مثال للمقاومة في أميركا الجنوبية ومناطق أخرى في العالم، مع مظهره باللحية الكثيفة والسيجار الكوبي الطويل والبزة العسكرية الخضراء، التي أصبحت جميعها رموزاً للتمرّد على الاستعباد العالمي لشعوب العالم الثالث. وحتى مع تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991 بقي كاسترو مقاوماً مع انتفاء المعونات المالية، واستمرّ في سياسة التحدي للولايات المتحدة، وبقي يتوعّدها. ويمكن القول، بأنّ انتفاضة الفلاحين والفقراء التي قادها كاسترو بوجه أزلام الاستعمار، شكّلت شعلة متوقّدة استطاعت أن تخرج الشعب الكوبي من البؤس والشقاء والجهل والأمية والذّل والهوان إلى عالم جميل تنضح فيه معاني الكرامة الوطنية والعلم والطبابة المجانيتين، والسكن المتواضع والحياة البسيطة، فيما شكّلت أميركا صاحبة الحصار الفاشي اللاإنساني والذي امتدّ أكثر من نصف قرن، الكابوس الذي حاول إعادة ذلك الشعب البطل إلى سابق بؤسه وشقائه وعذابه! ولهذا تراهم في كوبا يردّدون: ثورة كاسترو لم تمت! الثورة على الظّلّام لا تموت!

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجّرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى