بانتظار اتصال السفارة… نزهة ذلّ بين حبوسها!!

هاني الحلبي

هي الحرب. جعلت كلّ شيء بخساً حتى الإنسان.

أصبح الإنسان رقماً يُضاف إلى لائحة مقيمين، لائحة لاجئين، لائحة معونات، أو لائحة دفن موتى بمجزرة.

يكاد كلّ شيء في حضرة الموت يفقد قيمته. وكأنّ هذا الكلّ شيء قيد الموت في أيّ لحظة.

وأنت تشرب شايَك أو قهوتك مع فيروز تقتحم رصاصة أذنك ولا تُعجبها الإقامة في الجمجمة، بل تخرج من دون أن تحييك لتخترق جمجمة أخرى أو تثقب جداراً. هكذا قابلية الاختراق صارت ممكنة ما دام نظام المناعة أصبح مفكّكاً. في الأسرة. في الحي. في القرية. في المدينة. في الكيان كله. غدونا مجرّد عدد بلا سيادة وبلا حدود. الكلّ يمكنه أن يتسرّب إلينا كهوام في طقس عاصف تدفعه ريح صرصر في موسم الشلوق.

توفي والدها في المهجر اللاتيني. لم يوارَ في تراب البلدة بجوار والده وجدّه وجدّ جدّه. وما تركه من أسى في قلب والدتها حتى تفتت وانهار منذ سنتين إلا قليلاً. انطفأت كشمعة الدار الحنية.

بعدها كل الزوايا ظلماء. لا شمس تقرع الباب وتستضيفها بليلة قدر. لعل الجدران تنبض مجدداً كما كانت بلسمة أمّ وضحكة أب.

بقي لها أخواها موظفان وأخت متزوجة. إعلامي في محطة حكومية لا يكفيه راتبه لخبز الكفاف. وبهدف إصلاحي معتَبر، تمّ تعيين مديرة، صادرت ما تبقى من حقوق ومكاسب وحوافز، إلا اللحم الحي. ومحامٍ يكدح بين أقواس محاكم البلاد على عمل، يليق بعلمه وبشهادته. لكنه العبث الذي يتربص بالسيد الحظ. أما شقيقتها وديعة فهي أخت تصغرها بسنوات، أتاها نصيبها، فتعرفت إلى ابن حلال وتزوّجت ولديها منها طفلتان. هما سلواها تنتزعان منها فرحها انتزاعاً إذا أغلقت مساربه.

كانت جدتها لطيفة، بعد جدّها وديع، آخر الجذور التي تفرح إن غاصت في التراب. لتبقى هنا قريبة من حميمية مسقط الرأس. يتناهى إليها أنين السابقين من الجوار برداً بعد فقدان الوقود، فتستشعرهم حضوراً، زنابق في شغاف القلب.

تعرّف إليها ابن الضيعة، عطفاً وحنواً في مناسبة وداع أمها. بدا صديقاً وقريباً وكتفاً يمكن أن يستريح رأسها الجميل عليها. طلبها للزواج. خطبا. بعد فترة قال لها تعالي لنذهب إلى ألمانيا. هاتفا السفارة بعد زيارة موقعها الألكتروني وهيآ المستندات الثبوتية المطلوبة، بما فيها موعد الزيارة لتسمح لهما دولة لبنان الأكبر، أن يدخلا قارتها، بعدما كانا أسوة بالسوريين جميعاً يسهرون للفجر في بيروت أو سوق عاليه او مطاعم عنجر او مهرجانات بعلبك.. وساعتين ونصفاً يكونان أمام حديقة المنزل الجميل.

قادهما رواد، سائق أجرة أنيق وموثوق إلى السفارة، حيث تتربّع على عرش جمال المتن، في المطيلب. قال رجل الأمن، لا يتم فتح النافذة قبل الثانية عشرة والنصف. أصبحوا عشرات. لا تغلقوا الطريق ولا تقفوا امام السفارة. ابقوا على الرصيف المقابل. جلس طلاب العز الألماني على مكعبات باطونية موضوعة هناك منعاً لتوقف السيارات، وبعضهم جلس القرفصاء، وعلى حجارة دبش بقية جدار بري قديم. أما هي كعروس أنيقة وضعت تحتها بضع محارم بيضاء بانتظار نافذة الأمل.

دق الجرس. أذن الخفير بالدخول. تراكض طلاب الانتماء لحضن المانيا بفوضى معيبة. دلّهم على مدخل المسرب المؤدي إلى النافذة الموعودة. فإذا هي ممر ضيق لا يتسع لأكثر من شخص متوسط البدانة وفي اتجاه واحد، لا يمكن لمن دخل في المسرب أن يرجع منه إلا بحشر جميع من خلفه مكبوسين إلى شبك الحديد المجدول والمدعّم بسياج معدني يستعمل في زرائب الدجاج والكلاب.

دعامات متينة مثبتة في الأرض وفي السقف ومربوطة بلحام حديدي إلى عارضات متقاربة تمنع التسرّب من المسرب.

يكاد اسمه على طرف لساني. حاولت التذكر. لم تستطع. يبدأ بأربعة أحرف غوان… لكن لباسنا حتى اللحظة ما زال حراً، ولم يتم فرض اللون البرتقالي! صعقة الزريبة الألمانية في الوطن اللبناني الشقيق سابقاً أصابت من روحها مقتلاً. تُصاب بدوار. تكاد تهم باستفراغ ذاتها بلحظة في الوجوه الصفراء الباردة بلا انتماء والهاربة من حقيقة مواجهة. إلى أين يا غراب البين تأخذ شعبي؟ همست في قلبها كي لا تسمع كاميرات متلصصة في كل زاوية تحصي الأنفاس ونوعية بشرات الزوار وبصمات عيونهم.. قالت لخطيبها سأرجع. وأرمي هذه الأوراق في وجوه الجميع. ترجّاها بإيماءة أن تصبر: كلّها صبر ساعة وتكونين شارفت على ألمانيا. ألمانيا يهمها أن تأخذنا كفاءتين. أنت كاتبة وأنا تقني. ونحن السوريين مشهورون. ألم تسمعي مؤسس آبل من أصل سوري وكان والده مهاجراً والآن يُقال إن ترامب هو كذلك. بالله عليك لا تكوني ضعيفة.

نادراً ما تقبل بتسوية، لكنها قبلت هذه المرة. تريد أن تبعد عن أرواح القبيلة المتناهشة لحمها بأنيابها وأظافرها.

قلبها يخفق. بقوة. وصلت إلى النافذة الحلم. نافذة مرآة نقية مثبت في زاويتها جهاز صوت وكاميرا. خطر لها ببرهة أن شعرها منفوش بفعل هواء الطريق ولم يلفتها خطيبها إلى الفضيحة. أحست بأنها تافهة وحقيرة. كما اعتادت في لحظات إحباط أن تجلد نفسها وتقشرها من أردية اللياقات بقسوة كأفعى فتية أول الربيع تستعدّ لاستقبال شمس آذار.

شو عندِك؟ صوت الموظف المقنّع خلف النافذة صفعها بقسوة. لم تعِ ماذا عندها. يا مدام قلت شو عندك. هزّها من كتفها خطيبها، وتدخّل قال للموظف المجهول: نحن خطيبان وأتينا لتقديم أوراق هجرة إلى ألمانيا!

رد الموظف: وكلّ الأوراق المسجلة في الموقع ووفق الشروط تمّ تحضيرها تماماً وفي المغلف. أجاب نعم. انفتح جارور. قال له أقفل المغلفين وضعهما هنا. وتسلّم الإيصال برقم الطلب وانتظرا منا اتصالاً! انتهى! فقط؟ انتهى! بلهجة حازمة. غاب عن بال الخطيبين أنهما في معسكر الماني!

ما زالت خطيبته في دوار او كوما ما، أمسكها من يدها وسحبها معه إلى الخارج.

في الخارج شمس لبنان لا ضباب ألمانيا! سنديان المطيلب لا دخان فرانكفورت! وهواء المتن لا عجيج برلين وجدرانها المتعامدة التي تغلق فضاء القلوب!

إلهي! لماذا نغادر جنّتنا؟ لماذا نتركها؟ ولمن؟..

وما زالا بانتظار الاتصال!

باحث وناشر موقع حرمون haramoon.org

وموقع السوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى