عرض أوروبي بعقليّة وتمويل سعوديين

سعدالله الخليل

كما هو متوقّع، فتحت معركة حلب أوسع الأبواب أمام الحراك الدولي المتعلّق بالشأن السوري، ووفّرت مناخات مناسبة لطرح مشاريع ورؤى استراتيجية جاهزة منذ عقود، وبانتظار السير فيها من بوابات إنسانية وسياسية لقوى إقليمية ودولية لم تخفي أطماعها بسورية في يوم من الأيام، فبالرغم من وضوح المشاريع المستقبلية المرسومة للمنطقة والأهداف المطلوب تحقيقها من قِبل سورية وحلفائها لكسر تلك المشاريع، ثمّة من يراهن على إمكانية العبث بتلك المشاريع ولو بطريقة صبيانية تعيد للأذهان الضغوطات على موسكو للتخلّي عن دمشق. فقبل أيام، عبّرت فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، عن قناعتها بأنّ سيطرة الجيش السوري على حلب الشرقية لن ينهي الحرب في سورية، وربما في تصريحاتها ما يصيب كبد الحقيقة الذي تدركه دمشق وحلفائها، إلّا أنّ مضمون كلام موغيريني لا يصبّ بطبيعة الحال بسياق الرؤية السورية لتقييم الوضع في حلب بشكل خاص وسورية بشكل عام، إّنما في المقلب الآخر، أي في الجانب الذي أمسك بأحياء حلب الشرقية طوال السنوات الماضية متّخذاً من المدنيّين دروعاً بشرية، من دون أن تشعر المسؤولة الأوروبيّة بأدنى حرج لتغاضي مؤسسة من المفترض أن تكون عريقة بقِيم ومبادئ حقوق الإنسان كالاتحاد الأوروبي، والمؤمنة بشعارات العدالة والمساواة، عمّا ارتكب بحق المدنيّين العُزَّل في حلب من قِبل تلك الزمرة من المسلّحين المارقين، خارج حدود التاريخ والجغرافية والإنسانية، والذين تصرّ موغيريني على وصفهم بـ«الثوار» تارةً، وبـ»المعارضين المعتدلين» تارةً أخرى.

جهود موغيريني وغيرها من المسؤولين الأوروبيّين لإيجاد مخارج للجماعات الإرهابيّة المرتبطة بأجهزة استخباراتها من حلب الشرقية، دفعها للبحث عن صفقة تحفظ ماء وجهها بالحدّ الأدنى، وتضع قواعد التعاطي مع نصر حلب القادم الذي لا مفرّ من الاعتراف الأوروبي به عاجلاً أم أجلاً، وهو ما ضغط على موغيريني لتقديم عرض مالي لدمشق، كشفت عنه صحيفة «التايمز» «في محاولة أخيرة ومستميتة للحفاظ على النفوذ الغربي على نتيجة المعارك في سورية». فباعتراف كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، ومع اقتراب ذروة معركة حلب، تغدو المطالب التي طرحتها الدول الغربية بشأن تنحية الرئيس بشار الأسد عن السلطة غير واقعيّة، وبالتالي فإنّ عرض موغيريني تقديم مساعدات مالية لكلّ الأطراف حكومة ومعارضة، لضمان فترة انتقالية تفاصيلها غامضة تضمن إعادة توزيع السلطة في المحافظات السورية، ودمج المجموعات المسلّحة التابعة للمعارضة «المعتدلة»، وفق القاموس الأميركي من الاندماج بقوات الأمن المحلية مقابل الحفاظ على المؤسسات الحكومية المركزية للدولة «تحت السيطرة الأكثر ديمقراطية» بحسب الطرح الأوروبي.

في الطرح الأوروبي الشكل، والسعودي القطري المضمون والتمويل كون أوروبا عاجزة تمويل بهذا الحجم جملة مفارقات ومغالطات. فبعيداً عن المساواة الظالمة بين دولة مؤسّسات منتصرة باعتراف أوروبا ومجموعات مسلحة منهزمة، فإنّ الطرح في جوهره غير قابل للنقاش، لأنّه قائم على فكرة رشوة الحكومة السورية بالمال لإدخال تلك الجماعات في الحكم، والاعتراف بها شريكاً سياسياً معتدلاً على الأرض السورية، وبالتالي تحقيق ما عجزت عنه تلك الدول عبر سنوات الحرب التي شنّتها تحت شعار تنحّي الرئيس الأسد. فهل ستقبل دمشق بقبض ثمن ما دمّرته الحرب خلال سنوات لتسلّم مفاتيح دمشق باتفاق يمنح الإرهابيين صكّ براءة من دماء الشعب السوري التي هُدرت على أيديهم، ويتحوّلون لقادة سياسيّين معارضين باعتراف الاتفاق المبرَم مع الحكومة السورية الشرعية؟

بالتأكيد هذه الرؤية القاصرة لن توافق عليها دمشق، ويكشف مدى سطحية التفكير الأوربي في التعاطي مع أزمة بحجم الأزمة السورية من جهة، وعقلية البيع والشراء التي رسّختها القيم الخليجية في السياسة الأوربية، والتي باتت تابعة لها في السلوك والممارسة، وليبدو العرض شبيهاً بالعروض التي أغدقتها المملكة السعودية وقطر على موسكو بداية الأزمة السورية للتخلّي عن دعم سورية، من بوابة الامتيازات المالية والاقتصادية بفتح أبواب الأسواق الخليجية أمام الصناعات الروسية، وغيرها من مكاسب لا ترتقي لعمق الرؤية الروسية لوجودها في المنطقة من جهةٍ أخرى. وهو ما دفع موسكو للرفض القاطع، لإدراكها بأنّ تخلّيها عن سورية كما تشتهي قطر والسعودية، يعني نهاية الحلم الروسي بالوصول للمياه الدافئة في المتوسط من جهة، ووصول تنظيم «داعش» إلى الحدود الروسية من جهةٍ أخرى، وبالتالي فإنّ الحرب الروسية في سورية ضرورة روسيّة قبل أن تكون سوريّة، وهو ما أدركته موسكو باكراً، وصعب على الخليجي وما زال عصياً على الفهم، فلو أدرك العبرة لما أعاد طرح المشروع بغطاء أوربي مكشوف التمويل، فمعركة حلب التي تمضي قُدُماً باتجاه إنهاء الأحلام السعودية التركية القطرية في سورية، لن تسمح لتجّار السياسية أن يكسبوا ما خسروه في معركة الدم السوري.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى