لغتنا الجميلة…

واصف شرارة

أعلنت الأمم المتحدة عند إنشائها عام 1945 خمس لغات حيّة هي الإسبانية والإنكليزية والروسية والفرنسية توثق بها المحاضر الرسمية وأوراق العمل أثناء الاجتماعات ووفقاً للقرار رقم 2 الصادر بتاريخ 1/2/1946 فإنّ الإنكليزية والفرنسية هما لغتا العمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة…

لم تعرف اللغة العربية الطريق إلى الأمم المتحدة إلا بعد العام 1954 الذي أجيز فيه الترجمة التحريرية إلى العربية، شرط أن لا يتجاوز ذلك الأربعة آلاف صفحة في السنة.

لكن في العام 1966 اعتُمد قرار يقضي بتعزيز استخدام اللغة العربية في اليونسكو إلى أن صدر في العام 1968 القرار القاضي باعتماد اللغة العربية تدريجياً وتوفير خدمات الترجمة الفورية إلى العربية، وصولاً إلى العام 1973 وأثناء انعقاد الدورة 195 للمجلس التنفيذي لليونسكو، حين تقدّمت الأقطار العربية باقتراح جعل اللغة العربية لغة رسمية ولغة عمل في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها الرئيسية، وقد وافقت الأمم المتحدة بموجب القرار رقم 3195 الصادر في 18 كانون الأول 1973 في الدورة 28 للجمعية العامة على أن تصبح العربية لغة رسمية في الجمعية العامة والهيئات الفرعية التابعة لها.

وفي 1 كانون الثاني 1983 أصبحت اللغة العربية لغة رسمية في مجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

واستطاعت اللغة العربية أن تمثل نموذج اللغة التي يحرص المثقفون من غير أبنائها أن يتحلّوا بمعرفتها، بل استعارت حروفها كثير من اللغات الإسلامية لكي تكتب كلماتها بها، واللغة الأوروبية في الهند وباكستان، مع الإشارة إلى أنّ لغات دول إسلامية أخرى كانت تكتب بالحرف العربي وتخلت عنه نتيجة للتخطيط المحكم لمحاربة اللغة العربية في القرن العشرين، منها اللغة التركية التي غيّرت حروفها إلى اللاتينية بعد سقوط الخلافة العثمانية وإزالة الحرف العربي وتحريم الكتابة به، كما حدث الشيء نفسه في اللغات الأفريقية وأولها اللغة السواحلية في شرق أفريقيا التي ظلّت تكتب بحروف عربية حتى سنة 1946، حينما صدر قرار بإزالة الحروف العربية ووضع اللاتينية مكانها.

يقول الرسول العربي: «المرء بأصغريه، قلبه ولسانه».

والهوية لا تتشكل مرة واحدة، بل هي ذات علاقة وثيقة بالمحيط شأنها في ذلك شأن اللغة العربية والثقافة، فهوية الإنسان يرسمها ويحدّد شكلها وألوانها ما يرد إليه من خارجه، وإذا كنا نفتخر اليوم بتراث اللغة العربية وبقدرتها على التجدّد والحياة وأنّ احترام اللغة من احترام الذات، فإننا نتوقف باستغراب أمام عجز مؤسسات المجتمع العربي التي تقف متفرّجة ومحايدة تجاه ما يُسمّى الانتحار اللغوي.

ولغتنا هذه هي موضع الاهتمام الذي يعكس ضرورة ملحّة لإيلائها الاهتمام المطلوب أمام طغيان اللغة الأجنبية، لا سيما اللغة الإنكليزية، على تكنولوجيا التواصل المتمثلة بالإنترنت ولغة الكمبيوتر وغيرها من تلك الوسائط..

وعندما نتقصّى أحوال لغتنا الجميلة في الوسائل السمعية والبصرية سنحزن لحالها على ألسنة هذا المذيع أو مقدمة البرنامج تلك، ناهيك عن الضيوف من الجنسين، لكنك ستجد ذلك هيّناً عندما تسمع إلى عدد غير قليل من «زعماء الأمة» وهم يرفعون المنصوب ويجرّون المفعول في خطبهم العصماء، إلى جانب الإتيان بالعجائب على مستوى النطق ومعجم المفردات، بل إنّ بعضهم لم يجد حرجاً في مخاطبة شعبه بلغة المستعمر رغم مضيّ عقود على استقلال بلاده وصرف السنين والمال الكثير في محاولة تعريبه..!

إنّ لغتنا تلقى الإهمال عن قصد من الجهات التي تفترض أنها الأحرص والأقدر على حماية لغتنا العربية وإنقاذها من خطر الانقراض المحدق بها، وأعني النخب الأدبية والفكرية والإعلامية والسياسية، فأيّ مستقبل ينتظرها عند عامة الشعب في هذا البلد العربيّ أو ذلك من المحيط إلى الخليج، خاصة إذا أخذنا في الحسبان أنّ ثلث العرب – مئة مليون – في العقد الأول من القرن الحالي أصبحوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون!

وفي يوم اللغة الأمّ… يمكننا التساؤل… تُرى إلى أيّ حدّ وصلنا في مجال توفير الحماية المطلوبة لها وتطويرها، وتكريس أهميتها ودعم حضورها القوي، خاصة أنها لغة تتمتع بالحيوية والمرونة والقابلية للتجدّد والتطوّر، وهي أوّلاً وأخيراً أهمّ مكونات قوميتنا، والجامع والحافظ لتراثنا العربي، واللسان الذي يوحد أبناء الأمة.

ولا بدّ العمل لإيلاء اللغة العربية الاهتمام المطلوب، كي تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور، وامتلاك أدوات التحديث والتطور، لتكتسب إلى جانب مقوماتها المهمة، سلاحاً جديداً لمواجهة هجمات التغريب والتشويش والإساءات المشبوهة التي تتعرّض لها.

هي دعوة لأن تكون ساحة الوطن حاضنة هذا المشروع النهضوي الكبير، لتمكين اللغة الأم والحفاظ عليها، باعتبارها الوعاء الحاضن والحافظ تاريخنا وتراثنا وثقافتنا، وهويتنا العربية والعمل على توفير الأسس اللازمة لإعادة الألق إليها والارتقاء بها وحمايتها، والحفاظ على مكانتها المرموقة بين لغات العالم الحية.

رئيس نادي الإحياء العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى