حزب الله و«القوات اللبنانية»: الخلاف ليس… شخصياً!

د. وفيق إبراهيم

الاعتراف بالوجود السياسي «للآخر» لا يندرجُ حكماً في إطار إمكانية التحالف معه، خصوصاً عندما تكون التناقضات التاريخية عميقة ومتواصلة. وترتبط أيضاً ببرامج سياسية تمتدّ من «الداخلي» إلى الإقليمي مروراً بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، وصولاً إلى الاصطفافات الدولية ناهيك عن الإيديولوجيات المتصارعة. حالُ حزب الله وحزب القوات اللبنانية مشابه لهذا الوصف. والخلاف بينهما لا علاقة له أبداً بالانتماء الديني المغاير للإسلام والمسيحية. هذا أمر بعيد عن جهاد حزب الله ولم يمارسه قط. لكن «القوات» مستقلة أو بتراثها الكتائبي تؤدّي دوراً طائفياً منذ أربعة عقود تقريباً وأكثر من سبعة عقود بالضفة الكتائبية.

لذلك فإنّ مجرد تبسيط الصراع بين الطرفين لا يلغيه أبداً. وقد يزيده تأزيماً. ومن الضروري توضيحه للتعامل معه بحيطة: بدايات الطرفين تبدو شديدة التناقض. تأسيس الكتائب لبّى رغبة آل الجميّل بالزعامة من جهة ودعم مشروع دولة مسيحية تحتمي بحراب المستعمر الفرنسي من جهة أخرى.

وحافظت الكتائب وسليلها حزب القوات على هذا الدور، وطوّرته لتصبح في خدمة المشروع الإسرائيلي لاستئصال المقاومة الفلسطينية من لبنان وتقليص دور الحركة الوطنية وكان لها ما أرادت… طرد الاجتياح الإسرائيلي الفلسطينيين من لبنان، مصيباً دور الحركة الوطنية بالشلل.

لكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر. انتفضت المقاومة في الجنوب لتعلن حرب عصابات ضدّ المحتلّ الإسرائيلي وأعوانه. وهنا يكمن الفارق الأول، فحزب الله نشأ على أساس تحرير لبنان من العدو ولم يهتمّ بالموضوع الداخلي فيما نشأت القوات على أساس استعمال العدو الإسرائيلي لتأمين السيطرة القواتية الكاملة على لبنان. ولا يزال هذا التباين أساس التناقض بين حزب الله والقوات.

أما نقطة الخلاف الثانية، فتتعلّق بإيمان الحزب وحلفائه في الأحزاب الوطنية، بأنّ «إسرائيل» خطر دائم على لبنان، ما يتطلّب وجود جيش جاهز للتصدّي لمطامعها، ولأنه غير موجود حتى الآن، فإنّ حزب الله أسّس مقاومة مقاتلة استطاعت طرد العدو من الجنوب بعد قتال ضارٍ ومتواصل انتهى بالانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000 بعد أقلّ بقليل من عقدين كاملين على الاحتلال. وللتذكير فإنّ الموالين للقوات في جنوب لبنان كانوا أعوان «إسرائيل» في وجه أهله ومقاومته.

ولم تكن «القوات» أقلّ عمالة في العدوان الإسرائيلي في 2006. انتقدت حزب الله بينما كان أهل الجنوب يتلقون صواريخ «إسرائيل» وقنابلها. وطالبت بعزله وإلغاء التحالف بين «الجيش والشعب والمقاومة» تلبية لتحالف سري عقده آنذاك رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة ربط فيه بين المطالب الأميركية والسعودية و «إسرائيل» بشكل غير مباشر . كما أشارت عليه وزيرة خارجية أميركا آنذاك كوندوليزا رايس فكشف أنّ هناك تناقضاً في أهداف التأسيس والأبعاد والإيديولوجية.

فحزب الله والأحزاب الوطنية تصدّوا لحركة «14 آذار» الموالية للأميركيين، ورأس حربتهم حزبا المستقبل والقوات، كما أنهم حدّدوا الخطر على الشرق الأوسط من التنظيمات التكفيرية الوهابية المصنوعة في تركيا والسعودية و«إسرائيل» والعالم العربي. والمؤسف أنّ القوات لا تزال حتى اليوم ترمي تهمة التأسيس هذه على سورية وإيران. وتساوي بين حزب الله والأحزاب التكفيرية. في حين أن لا أحد ينفي وجود علاقة عميقة بين المخابرات السعودية والتركية وحزب القوات اللبنانية. وهي علاقة تقوم على أساس وحدة البرنامج الذي يرمي إلى القضاء على إيران وحزب الله وسورية والأحزاب الوطنية.

هناك تباين إضافي على مستوى العلاقة مع سورية، فحزب الله يرى في الدولة السورية حصناً مجاهداً ضدّ الإرهاب و«إسرائيل». ولا ينسى وقفات الرئيس بشار الأسد إلى جانب المقاومة في 2000 و2006 في وجه الغزو الإسرائيلي. ويعرف أنّ سقوط سورية يستتبع حكماً سقوط لبنان والمشرق العربي بأسره. لذلك تقوم عقيدته على الدفاع عن الدولة السورية من أجل سورية ولبنان. ولولا وجوده في أعالي البقاع لكان التكفيريون قتلوا المسيحيين والمسلمين في قراهم عند الحدود السورية في البقاع الشمالي من دون أن يسأل عنهم أحد. ولربما كان رئيس القوات، اتهم كعادته حزب الله وإيران والجيش السوري بقتلهم.

يتبيّن إذاً، أنّ الخلاف إيديولوجي وتاريخي ومعاصر. فـ«القوات» جزء من المشروع السعودي ـ التركي ـ الأميركي، فيما يقف حزب الله وحلفاؤه رؤوس حربة المشروع السوري ـ الروسي ـ الإيراني. ولا يخجلون لأنّ أهدافهم الدفاع عن كامل المنطقة.

وفي العودة إلى الموضوع الداخلي اللبناني: حزب الله لم يُولِ اهتماماً كافياً للتفاعلات الداخلية. ينهمك في نوعين من الصراعات: مع العدو الإسرائيلي وفي سورية مع وجودٍ ملحوظ له في العراق واليمن. لأنه يعتبر أنّ ما يجري هو معارك لحرب واحدة هي الحرب على «إسرائيل» والتكفير والتهديد الغربي… تُرى أين حزب «القوات» من ذلك؟

لقد تطوّرت نظرة حزب الله إلى الداخل اللبناني، إنما بشكل نسبي. فبعدما كان يبدو وكأنه حزب إقليمي على الأرض اللبنانية، اقتنع بالمشاركة في مجالس الوزراء على أساس التمثيل السياسي فقط وبحقائب لا تعكس موقعه. ولا يزال يؤدّي هذا الدور في مراقبة المجريات الداخلية والحفاظ على الوجود الحكومي لحلفائه، لذلك لم يسمع أحد بمحاصصة شارك فيها وزراء من حزب الله. ولم يسيطر على مناقصات وصفقات أو التزامات مشبوهة. ظلّ بمنأى عن التلوّث المالي والسياسي والاجتماعي. فلم يسرقْ ولم يرتكب أخطاء سياسية أو اجتماعية.

هذه العزلة قد تكون مستحبّةً بالنسبة إلى حزب مقاتل استراتيجياً في الإقليم العربي، ومفضلةً لجهة تفرّغه للهدف الإقليمي، لكنها ليست مستساغة عند الناخب الذي يعتبر أنّ حزب الله يمثله في المجلس النيابي والحكومة. فهذا الناخب هو مواطن لديه أعباء حياة ومعيشة ولديه طموحات بالتطور والتعليم، لكن إيمان هذا المواطن بتقديم الأهداف الإيديولوجية والسياسية، على شؤونه الخاصة، ووثوقه بدور حزب الله، في الدفاع عن الإقليم، هي الأسباب التي تفرض عليه «قناعة دراويش» تجعله يصمت في سبيل الأهداف الكبرى. وهذا ما يعزّز العلاقة بين حزب الله وجمهوره المجاهد، رغم غياب الكهرباء والماء والأمن والاقتصاد عن مناطقه.

في المقابل، تختلف العلاقة بين حزب القوات وجمهوره. فالقوات كانت تجْبيْ في زمن الحرب الأهلية في الثمانينيات والتسعينيات «خوات» على كلّ شيء في مناطق هيمنتها. وكانت لا تتعامل مع الناس بالإقناع السياسي وإنما بوسائل الإرهاب والتصفيات. كما أنها تمارس منذ رحيل السوريين عن لبنان سياسة تحالفات في إطار 14 آذار مع أكثر الفاسدين والمفسدين في تاريخ تطور الدولة اللبنانية. لم تقبل بحصص وزارية على قياسها، فانكفأت وقنعت بأن ينتقي حزب المستقبل الوزراء المسيحيين مقابل مساعدات مالية هائلة من السعودية، ولم تؤدّ «القوات» إلا دور المساند والظهير الأساسي لمشروع رفيق الحريري، سهّلتْ له أمر التحالف مع البطاركة والسياسيين المسيحيين تنفيذاً لتعليمات غربية. ولم تعرف حتى اليوم أنّ الغرب لا يهمّه المسيحيون لانتماءاتهم المسيحية ولا المسلمون لإسلامهم… الغرب ينتقي حلفاءه حسب أهميتهم في مشروعه الكبير… ولأنّ الدور المسيحي لم يعد بأهمية ما كان عليه في مطلع القرن العشرين باع الأميركيون مسيحيّي لبنان لـ«إمارة» رفيق الحريري… والقوات كانت الوسيط لأنّ هدفها كان القضاء على المقاومة تنفيذاً للرغبات الأميركية والإسرائيلية.

يكشف هذا النقاش الموضوعي مدى عمق التباينات بين حزب الله والقوات.. ما يدفع إلى التساؤل عن نقاط التلاقي، وهل هي موجودة فعلاً؟ وهل بإمكان الرئيس ميشال عون تحقيق مصالحة بين الطرفين لتحصين عهده؟

يستطيع العماد عون إنجاز هذا الموضوع التاريخي في حالة واحدة فقط، وعلى قاعدة أنّ الخلاف ليس شخصياً. لذلك يجب على «القوات» أن تعقد مؤتمراً تاريخياً تعلن فيه التزامها حلف المقاومة ضدّ التكفير وتسجّل نقداً ذاتياً لتاريخها الإسرائيلي والأميركي والسعودي، ولأنّ الصراع على الإيديولوجيات والمشاريع السياسية، فلا حلول له إلا على قاعدة البرامج السياسية الموحّدة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى