جريمة اسطنبول والإرهاب العابر للطوائف والمذاهب!

أسامة العرب

التطرّف تصنعه السياسة ويحرّمه الدين، وما أدلّ على ذلك سوى أنه في وقت تسعى فيه «إسرائيل» لهدم المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى من خلال توسيع دائرة الحفريات الجارية أسفله، وتحظّر أيضاً رفع الأذان فى مدينة القدس المحتلة وتبيح اعتقال رجال الدين، تطالعنا مئات الفتاوى الشاذة التي تبيح العمليات الانتحارية في الدول العربية والإسلامية، وتحرّمها في الوقت عينه في «إسرائيل»! أما الاستخبارات الأميركية فتدير العملية باحتراف، وتسعى للإيحاء أمام الرأي العام الأجنبي بأنّ ممارسات الجماعات المتطرفة الوحشية تعتبر تطبيقاً حرفياً لما جاءت به الديانة الإسلامية، وبأنها لا تُعدّ مغالاة وتطرفاً بالنسبة لها. ولهذا، أصدرت دار الإفتاء المصرية تقريراً يشير إلى تنامي ظاهرة الابتعاد عن التديّن، نتيجةً للصورة الوحشية الخاطئة عن الإسلام التي تعتمدها المجموعات التكفيرية والتي تستخدم أساليب متنوّعة من الترهيب والعنف والقتل بهدف تشويه صورة الدين الإسلامي. فهل ننسى قول رئيس وكالة المخابرات الأميركية السابق جيمس وولسي في العام 2006 عندما قال: «سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثم يتمّ انقسامهم على بعض النعرات التعصبية، ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر»!

إلا أنّ المخطط الصهيوني أبعد من ذلك بكثير، ويتبناه بالتحديد اليمينين «الإسرائيلي» والأميركي، وهو يعدّ بأنه نسخة طبق الأصل من خطة يينون لعام 1982، والتي تعتبر بأنها الطريقة الوحيدة التي من شأنها أن تمكن شعباً صغيراً مثل الشعب اليهودي من حكم مساحة تمتدّ من النيل إلى الفرات، بالإضافة للمصلحة المادية في التقسيم الطائفي للمنطقة، حيث يرى يينون بأنّ ذلك سوف يُرسي شرعية لدولة تقوم على الحكم باسم الشريعة اليهودية، باعتبار أنّ كلّ طائفة سوف يكون لديها «دولة»، على حدّ قوله، وبالتالي يصبح وجود دولة دينية يهودية مبرّراً.

كما أنّ العدو يجهد لدب اليأس والإحباط في قلوب الشعوب المقاومة، ولتشكيكها بقضاياها ورموزها ومقدّساتها، ولزرع بذور الفتن المذهبية والطائفية والإثنية بين فرقها المختلفة، ولإبدال المشاريع الوطنية التحرّرية بمشاريع التقسيم والتطبيع وغيرها من العناوين الزائفة. وهذه السياسة ليست جديدة فهي استراتيجية قديمة أسّسها الاستعمار في بلادنا، لكن الجديد فيها هو الدخول المباشر والعلني الوقح على خط ولعبة الاجتذاب والاستقطاب والفرز المرتبطة بشعارات لصيقة بالمشروع الغربي الصهيوني إسلام متشدّد – إسلام متطرف إلخ…. مما يؤدّي لربط التطرف بالدين لا بالمجموعات التكفيرية . وهذا ما من شأنه أن يؤدّي إلى اتساع دائرة الإرهاب داخل البلدان المعادية لهم أو لدى أيّ شعب أو دين لا يدخل تحت عباءة مخططاتهم الصهيونية. وهنا تأتي الحروب الناعمة لتهيّئ الأرضية والبيئة الملائمة للتحرك الاستخباري والعملاني على الأرض لكي تصبح جاهزة لتقبّل وتمرير وتنفيذ السياسات الصهيونية التطبيعية، والتي يجب أن تعمل كجزء لا يتجزأ من سياسة استكمال تنفيذ المخطط التقسيمي الكبير، والذي من المفترض أن يحكم القبضة الصهيونية الحديدية على رقابنا.

والحقيقة أنّ المشروع ذو بُعد نهبوي هام، ويهدف رويداً رويداً لجعل «إسرائيل» بوابة الاستيراد والتصدير من الدول الشرق أوسطية المفتّتة إلى أوروبا وأميركا، وأكبر مستودع للنفط والغاز في المنطقة، وأهم مركز للمواصلات البرية والجوية والبحرية. ولهذا السبب بالذات، تبنّت الولايات المتحدة المخطط الصهيوني لنظام الشرق الأوسط الجديد وعملت على إخراجه الى حيّز الواقع من خلال تصفية قضية فلسطين وتفتيت البلدان العربية وإعادة تركيبها على أساس طائفي وتأمين السيطرة على منابع النفط وممراته وأمواله، وتغذية المجموعات المتطرفة في الدويلات غير المتعاونة.

وبالتالي، فإنّ حلقات التآمر الاستعماري القبيح تكاد لا تنتهي، ذلك أنّ الاستعمار وإنْ خلع حلّته القديمة، إلا أنه ارتدى حلّة خطيرة جديدة من خلال استمراره في استهداف مصالح الشّعوب المستضعفة وخيراتها، وممارسته سياسات خفيّة تتحكّم بمصائر الشّعوب ومستقبلها. فها هي وسائل الاتصال وبرامج التأثير الناعم باتت أشدّ خطراً على مجتمعاتنا من القتل، ووسائل الإعلام باتت تحرّض علناً على الفتنة المذهبية بعيداً عن أيّ سيطرة من أيّ نوع كانت إلا السيطرة الصهيو – أميركية، كما بات التغرير بالشعوب يؤخذ على غفلة من أمرها. ولهذا، لم يعد المستعمر في ظلّ هذه الأوضاع بحاجة لاستعمال القوة الصلبة ما دامت القوة الناعمة أكثر فعالية وأشدّ فتكاً. وكما استطاعت أميركا أن تهزم الاتحاد السوفياتي سابقاً من خلال تبنّيها المخططات الصهيونية التي مكّنتها من إحكام سيطرتها على منابع النفط في الشرق الأوسط، فإنها تسعى اليوم لإسقاط الصين بالطريقة نفسها، إنما من خلال نشر الإرهاب التكفيري ومحاربته في آن معاً، لا سيما بعدما تحوّلت الصين عملاق الصناعة والاقتصاد في العالم، وبدأت طريقاً جديدة لتدويل عملتها على غرار الدولار الأميركي، بالإضافة إلى توسيع نشاطها العسكري. وما أدلّ على ذلك، سوى ملامح الحرب الباردة الدائرة حالياً بينهما، والتحذير القاسي الذي وجّهته الصين في الثالث عشر من الشهر الماضي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، متوعّدة بسحق قدميه إذا ما حاول المسّ بسياسة الصين الواحدة أو بمصالحها الأساسية.

وأخيراً، فإنّ جريمة اسطنبول تؤكد أنّ ذئاب الإرهاب المنفردة وشبكاته وأشباحه لم تعد توفّر أيّ بلد، باستثناء «إسرائيل» بالطبع، باعتبار أنّ ذلك محرّم عليها! وبينما عرفت باريس وبروكسل ونيس وميونيخ وغيرها هجمات إرهابية مباغتة، لكن الحصة الأكبر كانت من نصيب العراق وسورية واليمن ولبنان ومصر والأردن وتركيا، وهذا ما يشكّل دليلاً على أنّ الإرهاب لا يميّز بين طائفة أو مذهب، وإنما يستهدف الجميع وفي كلّ مكان، من دون استثناء أو تفريق، باعتبار أنه قائم على كراهية الآخر، وعلى تشويه المعاني الدينية السليمة كلها. ولهذا، وفي ظلّ ما تشهده دول العالم اليوم من أعمال إرهابية تؤدّي إلى ارتكاب أفظع الجرائم بحق الإنسانية، لم يعد من الممكن التغاضي عن الأسباب الحقيقية التي تحول دون القضاء على ظاهرة الإرهاب المستفحل، والتي تتمثل بالجهات التي تدعمه وتموّله، باعتبار أنّ تمويل المجرمين وتسليحهم لا ينبت من الأرض ولا يسقط من السماء.

كما تشير الدلائل كلها الى دور قوي للموساد «الإسرائيلي» والاستخبارات الغربية في صناعة التطرف، وإنْ ساهمت فيه دول إقليمية وازنة، حيث يتمّ تنظيم حملات عديدة في الغرب لتجنيد آلاف المتطوّعين من دول الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي للانخراط في المنظمات الإرهابية، وهذا السبب الذي يفسّر كيف تتمدّد أيادي الإرهابيين إلى كلّ مكان في الغرب ولماذا تتعدّد جنسياتهم؟ وبالتالي، فإنّ دمية الإرهاب التكفيري التي يستخدمها الاستعمار، ما هي إلا خدعة كبرى لتفتيت الدول الشرق أوسطية وتحطيم القضية الفلسطينية وكلّ مَن يرفض الانخراط بمشروع «الفوضى الخلاقة» و«سايكس بيكو 2»، حتى ولو كان من بين مواطني الدول الغربية، باعتبار أنّ الجهات التي تقف وراء سياسات العدوان على الشعوب المستضعفة واستغلال ثرواتها، لا تفرّق بين مواطن غربي أو شرقي، ولا بين مسيحي أو مسلم، فالكلّ سواء أمام حلقات التآمر على مقدرات الشعوب الضعيفة وثرواتها، والتي لا خيار لها إلا أن تقاوم، وهذا ما يتطلب تضافر جهود الفرق والتيارات المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، بمختلف طوائفهم وتياراتهم ومشاربهم، في إطار إسقاط المشروع الصهيوني الاستعماري الذي سيسقط عاجلاً أم آجلاً!

محام، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى