«الطارق… دوائر وجودية» لمكرم غصوب… مجابهة الخديعة

نسرين كمال

«الطارق… دوائر وجودية»، مجموعة شعرية صدرت حديثاً عن «دار النهضة العربية» ـ بيروت للشاعر مكرم غصوب، وهي تقع في أقسام ثلاثة تتضافر لتشكّل وحدة ذات مغزى، تبدأ بإدراكنا المرّ لما تجسدّه الحياة من عمق خائن، وتنتهي ـ تبدأ بضرورة ولادتنا الدائرية العسيرة، ضرورة صيرورتنا: النحن ـ الإله ـ الزمكان.

رحلتنا سابرة وإن أعمتنا الحضارات المتعاقبة التي لم تغتذي سوى بالسائل الأحمر القاتم. وهي رحلة قد جسّدتها لوحة الغلاف بتعبير لافت للفنانة الإيرانية نيغين فلاح ، ترى الوجوه التي يقبض عليها الصمت الأسود، فيما تزدحم شجرة الشيطان بأسماء الآلهة كلّها. الوجوه التي شيّدت الحضارات فوق

وعي جنينيّ ونموّ إنساني قاصر.

«حين أحببت، أورقت شجرة الشيطان»، لعلها العبارة التي أرادها الشاعر أن توجز الكتاب، فجاءت كتلميح مضيء لرسالة تسقط عفواً من نسغ حكيم، هناك تماماً حيث يجب أن نكون.

«الخلق خيانة

التجدّد خيانة

الحبّ خيانة

الموت خيانة

نخون لنكون أوفياء».

لا بدّ من مواجهة المرايا وتحطيمها. كلّ المرايا التي تعكس ما ألفناه دونما مساءلة أو رؤيا. قلب الكون الموّار نحن، ولكن هذه «النحن» لا تولد إلّا من حركيّةٍ جدليّةٍ تربطنا بالكون، بذواتنا وبالآخرين في حركة ذهاب وإياب لا تسكن.

«السابق يلحقني

واللاحق يسبقني

لست هذا ولست ذاك

في لقائهما أجدني».

لا بدّ من مجابهة الخديعة وحرق القشور التي تشوّه وجه المعرفة، من رؤية ذواتنا عن بعدٍ كي ندرك أننا لا نكفي بأن نكون وجهاً واحداً فقط بكلّ تلك الحمولة من الأثواب العتيقة.

«الجسد العاري

لا يكفي لممارسة الحبّ

أو للخيانة

العقل والنفس

كلاهما يحتاج العري أيضاً».

الإله لم يكمل خلقه، هو تعب فاستراح، وهو يقتلنا دوماً لكي يتجدّد. لذا، يرفع الشاعر صوته المفعم بالسخرية المريرة إزاء ذاك اللامعنى الذي تنثره التعاليم العقيمة في ثنايا العقول المغمضة. الخيبة متّسعة، وما كان مُدهشاً للعيون أضحى شاحباً.

«أموت في كلّ موت

بخيبة أكبر

ودهشة أقلّ».

فالإله لاإنسانيّ، بل هو لن يولد إلا حين نرقى إلى القمة، متعثّرين بكلّ أشكال الحجارة والضباب، ومتشبّثين باللاوصول.

«مذ قرّرت

تسلّق جبل الصمت

أتعثّر كلّ يوم بصوتي

تدحرجني الكلمات

لكنّ القمّة

لا تفارق ناظري…».

كما لا تفارق ناظري الأسئلة الوجودية والإنسانية التي يختزنها «الطارق» القلق، الحبّ، الرفض وكلّ ما تزخر به روح لا تني تقشر ذاتها. وعلى رغم أنّ الكتاب كان يحتمل الإيجاز أكثر لإيصال أفكاره الأشدّ سطوة، إلّا أنه عَملٌ يخترقك بجمال صدقه، وفرادة صوته الذي هو وجه شاعره الحقيقيّ من دون تزييف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى