أزمة كهرباء أم أزمة وطن؟

إيهاب زكي

يبدو الحديث عن أزمة كهرباء يعاني منها قطاع غزة أمراً مغرقاً في المحلية، بينما الواقع أنها مجسّم مصغر عن الـ «غرغرينا» التي تصيب أطراف قضية الأمة المركزية، ونستطيع تحميل المسؤولية لسكان المعمورة مجتمعين حكاماً ومحكومين، خصوصاً في المجتمعات التي تدّعي صحة التمثيل وعدالته، والتي يصبح فيها الحاكم نسخة عن محكوميه. فالظلم الواقع على فلسطين وشعبها، وبالتالي على أمة بأسرها – هو وزرٌ تتوارثه الإنسانية منذ مئة عام، ولا يمكن فصل كلّ المآسي التي تعاني منها الشعوب العربية من حروب وتفكك وانهيار سياسي واقتصادي وأخلاقي، عن وجود الكيان الصهيوني. فإنّ حياة هذا الكيان مرتبطة وجودياً بموت هذه المنطقة وشعوبها، ليس موتاً إكلينيكياً بل موت الرغبة في الحياة، وبالتالي موت الرغبة في المقاومة. وقد رُفعت لافتة في إحدى مظاهرات قطاع غزة قد تكون اختصاراً لموت تلك الرغبة «أعذرينا يا قدس، صارت قضيتنا كهربا». إنّ القدس التي هتفت الحناجر على مدار المئة عام الماضية من المحيط إلى الخليج باستعدادها لتقديم الملايين من الشهداء على أسوارها، صار همّها الحصول على ساعةٍ من كهرباء.

منذ أن ارتكبت أيادٍ فلسطينية خطيئة التوقيع على اتفاقيات أوسلو المشؤومة، بدأ الشعب الفلسطيني بالتحوّل لشعبٍ موظف، وبالتالي مرتهناً بلقمة عيشه للراتب الذي توفره الدول الداعمة، وهي الدول التي تدفع مقابل تحويل الفلسطينيين من مقاتلين من أجل تحرير بلادهم إلى مجرد موظفين من أجل إطعام أبنائهم. لذلك فلنتخيّل سيناريو أزمة الكهرباء قبل اتفاقيات أوسلو، لم يكن ليكترث الشعب الفلسطيني بأزمة الكهرباء، باعتبارها أحد الأسلحة التي يستخدمها جيش العدو، وبالتالي فإنّ الشعب الذي يقاتل من أجل نيل حريته لن يتوقف عن القتال، وسيعتبر أنّ قضيته أسمى من أن يعكّرها مطلب إنساني يستجديه من عدوه، لأنّ القتال هو لتحرير الأرض والإنسان لا لتحرير سكينة الكهرباء، وأما اليوم وبعد أوسلو فهناك جهات محلية تثور في وجهها الأزمات المتلاحقة وليس الكهرباء فقط، ويغيب الاحتلال عن المشهد حدّ تبرئته من الأزمة في ظلّ التراشق وتبادل تحميل المسؤوليات، حيث يقول وزير الطاقة في السلطة الفلسطينية أنه «كلما قدّمنا حلولاً ومقترحات لـ»إسرائيل» لأزمة الكهرباء في غزة، يقولون لنا إنّ حماس هناك».

إنّ تعاطي سلطة رام الله وسلطة غزة مع أزمة الكهرباء لا ينمّ عن قرب اجتراح الحلول. فقد اقتصر الأمر على تبادل الاتهامات بالمسؤولية ومحاولة تسخير آلام الناس إلى مكتسبات سياسية. فالسلطة في رام الله مرتبطة وجودياً بسلطة الاحتلال من جانب، ومرتبطة مع أنظمة عربية تفريطية من جانبٍ آخر. وهذه الأطراف الثلاثة تعاني من مشكلة السلاح في غزة، لذلك فهي – مجتمعة أو منفردة – لا تترك فرصة لتسديد ضربات لحكم حماس في غزة إلا واستغلتها، من دون النظر إلى ما يترتب عن ذلك من بؤس وشقاء يعاني منه أهل غزة، وهم ينظرون إلى تفاقم الأزمات في قطاع غزة باعتباره وسيلة ستؤدّي في النهاية إلى اصطدام حتمي بين حماس – المقاومة لا الحكومة – بالجماهير الغاضبة، وهو الصدام الذي سينزع الشرعية عن السلاح.

في المقابل فإنّ حركة حماس التي لا تنفك تذرف الدموع على أزمات القطاع الناجمة عن الحصار، تمارس قمعاً لمسيرة احتجاجية من المفترض أنها تصبّ في خدمة سياسة ذرف الدموع، فهي مسيرة تؤكد للعالم أنّ الوضع الإنساني مزرٍ إلى حدّ لا يُطاق، ولكن حماس وبدلاً من رفد هذه الاحتجاجات ورعايتها، تقوم بقمعها أولاً، ثم تنظم مظاهرات تأييدية في اليوم التالي ثانياً، وهي سياسة إما تنمّ عن سذاجة سياسية أو تعنّت إداري أو فوبيا الشرعية، ولتعلم حماس أنّ أيّ هبّة شعبية مهما كانت عفوية، لن تسلم من محاولات استغلالها سياسياً وتسخيرها لخدمة أعداء حماس، كما تفعل هي بالضبط، ولكنها تفتقد كلّ الأدوات سوى القمع.

فقد صرح مسؤول في سلطة الطاقة في غزة أنّ «تركيا وافقت على تزويد محطة قطاع غزة بالوقود اللازم»، في الوقت الذي يحتاج فيه قطاع غزة 600 ميغاواط من الكهرباء، توفر محطة الكهرباء في غزة 60 ميغاواط فقط، فيما يوفر الاحتلال 120 ميغاواط، وتوفر مصر 25 ميغاواط، وهو ما يشكل 30 من احتياجات غزة للكهرباء. وقد أعلنت مصر بعد بدء الاحتجاجات في غزة عن توقف إمدادها للقطاع بحجة أعطال فنية لمدة ثلاثة أيام، وهذا لا يبتعد عن محاولة استغلال الحراك الاحتجاجي في وجه حماس. وفي الوقت الذي تحاول فيه تسجيل نقاط لصالح علاقاتها بحكومة أردوغان على حساب آلام الناس بإعلان الموافقة التركية، فإنّ سلطة رام الله تقول إنها توفر الوقود اللازم لتلك المحطة، وبكلّ الأحوال فإنّ تلك المحطة بكامل قدرتها التشغيلية لا توفر إلا 10 من احتياجات القطاع للكهرباء.

إنّ الغرق في هذه التفاصيل هو جزء من اللعبة، ففي غزة لا يوجد قطاعٌ بلا أزمات، الكهرباء والمياه والغاز والصحة والتعليم والإسكان وسوق العمل والمعابر وسلطة رام الله و»إسرائيل» والعالم العربي والمجتمع الدولي يحملون حماس المسؤولية، وحماس تحمّل سلطة رام الله و»إسرائيل» والعالم العربي والمجتمع الدولي المسؤولية، وكلها مسؤوليات لا تقدّم ولن تقدّم حلولاً للمواطن الذي طحنته سياسة تلقيف المسؤوليات. والسؤال المهمّ والأهمّ أين الحلّ، والجواب أنه لا حلّ، فسلطة رام الله ترى الحلّ بتسليمها مفاتيح غزة خالية من السلاح، وهو أمرٌ متعذر ومتعسّر ومرفوض، حتى يتسنّى لها التنازل بشكلٍ أكثر شرعية. وسلطة غزة ترى الحلّ في انتخابات تمكنها من السيطرة على سلطة رام الله، وبالتالي كمفاوضٍ بديل يستطيع التلويح بقوة السلاح كما أوهمتها الاصطفافات خلف مشاريع تنظيمية لا وطنية. وهي حلول بعيدة المنال لذلك فإنه يتوجب على أهالي قطاع غزة التأقلم مع الواقع وتهيئة النفس للأسوأ، والشيء الوحيد الذي يمكنهم الضغط من أجل تحقيقه، هو تحسين الإدارة وتنقيتها من الفساد والهدر، والأهمّ أنسنتها لا أمننتها، حتى نعود مقاتلين يبحثون أزمة وطن، بدلاً من الغرق كموظفين بؤساء يبحثون أزمة العيش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى