شوقي أبي شقرا يتذكّر… طوبى لذكرياتٍ تمجّد الثقافة الحقّة

محمود شريح

«في عمري الذي تطوّر من بسيط إلى مركّب إلى مجد إلى سؤدد إلى خوف من الخارج من القادم، إلى طريدة كادت تكون سائغة، وكاد الصقر أن يكسرني في فضاء الوضح، في المرتمى هذا من الحياة، وأنا ما قبلت قطّ أن أكون عبداً أو أن أكون تابعاً أو أن أكون عالة بطيئة أو أن أكون بخيلاً. وكلّ أصدقائي والممجدون الذين تضاءلوا ثم تضاءلوا إلى درجة الهزيمة وإلى حيّز ضيّق، كنت أنا طوال المباسطة وطوال السنين ذلك المبادر وذلك الزارع وذلك المعطاء، وكنت المساحة، والحقل الذي أقلبه خصباً حيث أنا، وأفلح وأحرث وأصوّر الضيق كأنه رحابة، وهذا ما فعلته وما كان هو الفضل والإضافة التي أضفتها في العمل الثقافي والعمل الشعريّ خاصة، والشأن الصداقي أيضاً والشأن العام وعلاقاتي الصغيرة والعملاقة. وكنت الودّ والودود عامة وهنا صورتي نزلت في الآخرين، لأنني سوّغت للثقافة أوسع من طاقتها، سوّغت لها هالة من الكبرياء كنت أنثرها كلّ يوم كلّ صباح، سطوراً وعناوين وروحاً هي الروح والوحي، وكلاهما من صنعي، ومن تمثيلي على مسرح الوعي والعنفوان الإبداعي، ولا أخال من اشتغلوا مثلي، ناهيك بأنني المبتكر في هذا القبيل، بلغوا ذلك المبلغ من الجدية الرحيمة والحماسة المندفعة والمسرعة إلى هدفها سرعة الغزال الشهم وغزير الحنان والشغف بما يجبل وما يطهو وما يقدّم وما قدّم إلى القارئ، ثمّ إلى الملأ القادم والمتربص للجديد».

على هذا النحو المختزل والمكثّف في آن، يوجز الشاعر شوقي أبي شقرا سيرته الذاتية الحافلة بالآخر والفكر والثقافة والفنّ والأدب، الصادرة مؤخراً تحت عنوان أسّ هو «شوقي أبي شقرا يتذكّر»، وبذيله عنوان ثانٍ هو «كلمتي راعية وأقحوانة في السهول ولا تخجل أن تتعرّى»، في 815 صفحة من القطع الكبير مع صُوَر على مدى ثلاثين تختصر ثمانينه، له ولرفاقه وعائلته وفكره المتنامي وقصيده السامي، فيما السيرة بحقّ أوّل سجلّ لحركة الحداثة صادر عن أحد أعلامها ومحرّكيها الديناميين، من «حلقة الثريا» إلى «تجمّع شعر» فجريدة «النهار» وملاحق الثقافة والفنّ، إلى الحرّية فالتأمل والإبداع الشفّاف الرقيق. المذكرات/السجلّ ـ الوثيقة صادرة عن «دار نلسن» التي يُشرف عليها الصديق الزميل سليمان بختي، وعن مجلّة «الحركة الشعرية في المكسيك»، وهي التي يرأس تحريرها منذ ربع قرن الصديق الزميل قيصر عفيف.

الإهداء إلى زوجته حلوة باسيم وأولاده مونيك وماجد وناجي وأحفاده وإلى والده مجيد ووالدته منيرة وإلى عائلته وعائلة زوجته وإلى صحبه أجمعين، أحياء وراحلين.

في البدء صورة الوالد كما علقت في الذاكرة، وصورة جدّته وصورة أمّه تحنو عليه وتحار في ضمّه، إلى أن تنجلي هذه الصُوَر أكثر وتتضح، أي لوحة المكان في النفس المتوهّجة.

«الصورة التي تنساب في عينيّ والأولى في حياتي الواعية صورة الجنينة التي كانت لنا في بعبدا، وهي خضرة وأشجار ومساحة مقبولة، وهي والدي مجيد هذا الدركي والقشاط المرخي وجزمته القوية وطماقه الضروري، صورته ينكش التراب ليصل إلى عمقه، وسنّه الذهبية تلمع إلى الجانب الأيسر. وكان مجتهداً جاداً بكل طاقته. ولا صوت له بل يلحّ سريعاً وأنا إلى قربه جسداً يغزل غزلاً وما زلت طرياً ولا أفهم سوى لغة النظر.

وكانت بعبدا والجنينة عند أولئك القوم والبيت طابق أول من الجنينة وإليه واليها، والبلاط من ذلك الشكل العريض والخطوط الفاصلة السوداء. ونحن في الثلاثينات من القرن العشرين إذ ولدت عام 1934 على الأرجح هكذا كتب في الهوية، وربما ولدت عام 1935 لأنني رأيت ذلك في ورقة رسمية عن والدي ووالدتي أنهما تزوجا في 1934.

والحياة آنئذٍ رخوة رضية على هدوئها الفادح والجاثم على الناس، وهم أصلاً طيبون ولا يعكّرهم أمر أو سبب سوى ما هو الحال الذي يفرض تارة أن نزعل وان نحزن وتارة أن نفرح وأن نضحك، ويبقى أنك في وجع من الوجود، أو في هناءة بال أو فكر، والطريق مفتوحة لك لأن تمشي، لأن تفعل ما يحلو وما يخطر لك من نوازع وهتاف داخلي بعيد الغور. ووالدي مجيد لا يكاد يرفع موسيقاه، فليس في جعبتي إلى الآن ما أصفه به أنه كان يصيح أو ينبس بنبرة عالية، بل أن الشخص الطويل الذي ورث هذا الارتفاع من جدتي سيّدة كرم أمّه، يستوي في ذهني على مقعد ناعم وثير حريري، فقط يتغير حين يستقبل الأرفع منه رتبة من جنرال فرنسي أو سواه.

وثريّ الحماسة ذلك، والذي يحنو على التراب، والدي في بعبدا والعهد انتداب فرنسيّ، ونحن في البيت الطيب والجميل، وهناك الزرع في الجنينة وما يتنوع منه أشكالاً وزرافات من الأخضر. وكان الشميم والحبّ والأنس وكلّ العوامل التي تضفر السعادة وتنضحها. حتى انتقلنا، بحسب الواجب، إلى الأشرفيّة حيث عشنا بعض الحرب العالمية الثانية في الجوّ والبرّ وكنا ننام في بيتنا الأرضي ومعنا عائلة الرفاعي، سيّدها دركي رفيق لوالدي في الجندية وأخو المدير العام الأشهر في المبنى الذي للدرك في أسفل المنطقة.

فالنقلة والحرب الثانية مستعرة إلى ضيعة أهله في جبل لبنان، إلى مزرعة الشوف التي تمتدّ قبالة المختارة وقصرها الجنبلاطي، فإلى رشميّا قضاء عاليه، ثمّ فجأة الموت خلف الباب وغياب الأب والشاعر في الثامنة، فها هو يقاسى الفاجعة وجدته تبكي وتهطل منها دموعها كلّ أمسية حسرة على ولدها مجيد، فكانت قليلة الوعي لما حدث في البدء ثم تبيّن لها ان الحادث جلل.

إلى مدرسة «الحكمة» مع أخيه وجدي والذكريات الحميمة

ونذهب آخر الاسبوع يوم الأحد إلى المنارة، ومعنا خمسة قروش فنشتري الترمس واللوز، ونقشّر الترمس كله في أفواهنا دفعة واحدة ونعلكه دفعة واحدة.

وبيروت واحدة، وها نحن في نزهة إلى الدورة حيث الخضرة والمقاهي البحرية والأشجار والماء. ونعتبر أننا محظوظون بهذه البوسطة التي تروح بنا إلى كلّ الاماكن، وإلى السينما في الشتاء. والسينما تلك الآونة في أوجها باهرة ممتعة. ونحضر فيلم لصّ بغداد في آمبير، والبطل الشعبي زورو في سينما ريالتو على الزيتونة، وتزدحم مخيلتنا بالبطولات والجميلات، ونذهب إلى سينما في البرج وهناك قبلة فيضع الكاهن الأب ميخائيل يده على مصدر الضوء فوقنا ليحجب المنظر. ونزداد حماسة للقبلة ولمسرى الحكاية وكيف تيرون باور يتحرّك إلى مبتغاه ويكون سعيداً».

ومن صحيفة الزمان إلى جريدة النهار فسمّى صفحة الثقافة فيها منبر حريّة وفسحة أمل، ثم كان ملحق النهار له ولأنُسي الحاج.

وشرعنا في «الملحق»، أول عدد له، وكنا في الطابق الثالث في الحمرا وفي الاستعداد المتين لهذه المطبوعة التي سترافق «النهار» وبها يزداد القرّاء الذين يحبّون المختلف والشأن العام والطريف والفني والغريب وكلّ الألوان. ورحنا منذ المساء، والسنة 1964، نتهيّأ ونكتب ونحذف والمطبعة تحت بالألوان، جديدة حديثة، وهي ستقدّم «الملحق» ملوّناً وشائقاً في نصف صفحة الجريدة. ولبثنا هكذا مع أنسي الحاج طوال الليل ونحن في صدد الإخراج والتركيب لهذا العمل الجديد والفريد في الصحافة اللبنانية. وامتدّ بنا الليل ساعة خلف ساعة لهذا المولود العزيز والمتعب. إلى أن اكتمل الأمر، وظهر أول عدد وانتهى حتى باشرنا التهيؤ للثاني، ونحن اثنان، والليل في أواخره ويكاد الفجر يطل علينا ويفاجئنا في خضم التعب والجهاد. وكانت تلك الآونة آونة عجيبة إذ إننا، ولا ندري، رحنا نؤلف مطبوعة صارخة طامحة إلى المجد وبنا كلّ الحماسة لها، وهل نقوى لهذا المجد على حمله ودفعه وتسليمه مقالات وأخباراً وطرائف وثقافة إلى القارئ المتربّص والمشتاق».

وسار قلمه الأحمر في نصّ الحداثة ينقّيه ويصوّبه ويغربله، فكان قلمه هذا زينته ودفّته إلى المجهول الأزرق وكلّ الألوان، فلا يعبس أبداً ولا يتبدّل بل يكرج، ولكم كرج في أصابعه الثلاث، فكان الحجل والغزال والهدهد الذي له عفرة صغيرة وشيء من الأناقة من اللون والريش.

فالحبّ، إذ دق ّ على الباب في 1971، وإذا هو فتاة تدعى حلوة حنا باسيم، فالتقاها وتلفن لها في بيتها في السوديكو ودعاها إلى مكتبه، واشتغل الحبّ بينهما وكان الزواج في الربيع. وفي تلك السنة صدر له «سنجاب يقع من البرج»، حيث التجدّد والانتفاض على القيم وعلى النسق الجامد والثابت في أغواره، فالمخيلة في ديوانه هذا عارمة، تنسرح خيوطها اللعوبة على كلّ مدى وكلّ رحابة. فإلى «ماء إلى حصان العائلة» في 1974 وهو على الجملة عن ابنته مونيك أي القديسة منمن، ومن هنا ملحق بالعنوان وإلى حديقة القديسة منمن، فكان لها الراعي بلا عصا، والدليل إلى الطبيعة، فكان يدلّها على النملة وعلى الجندب وعلى الورقة وعلى تفاصيل دسمة وناعمة وحلوة.

عودة إلى القلم الأحمر

«وقلمي الأحمر صديقي منذ بدء تكويني ورفيقي وكلما نضب أنا له والقيم عليه، أرميه في السلّة وأستعين بغيره من أشقائه وأختاره دائماً على هذه الطريقة، طريقة القفز من مهرّج إلى مهرّج من كاتب إلى كاتب، ولا أعتذر عن شيء فهو الكاتب لي والطيّع في خدمتي. ويحلو قوامه بين أصابعي، ويكاد يصيح من فرط سكرته على الورق، على الكلمات التي تصطفّ في هذا الرواق، في هذا البهو، في هذا الفناء، من الساحة.

يتعب لينظر إليّ وبه عتب ونوع من الرجفة لأنه سكران طوال الوقت. وحين يفرغ من الزبدة يكاد يبكي لأنه خذلني وتركني في مرير الشوق إليه، وأنا في شبه حيرة، أحار له وأختار غيره، وكلهم من صنف واحد، من مدرسة واحدة، وحين أمسك البديل لا أعود أميّز بين واحد وآخر، وأشعر أن النائب هو الاصيل، وأن الأصيل هو النائب ويتبدّد ما يتبدّد منه، على فاصلة، على نقطة، على كلمة، ولا يهدأ فيضرب هذه اللفظة أو ذلك المعنى ويصفع ما هو ناب أو نافر، ويتقدّم رسولاً طيباً ويزدهر بسمعته. وينطلق إلى المحلات والوقائع والخطاب والنكتة والشرف والإباء، أو يصنع بيت الشعر، من صدر أو عجز ويضحك دمه كأنه بيلسان».

يعترف أبي شقرا وهو محقٌ وعلى صواب، بأنه ساعد اللغة كثيراً ونظّفها من المثقلات والطفيليات، فهو مارس ذلك في مجلّة «شعر» وفي مجلّة «أدب»، وفي «النهار» لعقود مديدة. أمّا الآن فهو لا يبصر نفسه إلّا قليلاً في بعض الصحافة، ويبقى حرّاً في ظلّ الشجرة والشجرة الحلوة هي زوجته حلوة باسيم، فهي العصفورة على الغصن الأقصى والأهم:

«وأولادي يتبعونها، وهي الأمّ والصديقة والحبيبة والحلوة في أي حال وأي وقت. وعبيرها يأخذني، وكلانا في أخذ وردّ، في حياة مشتاقة دائماً إلى الجمال، إلى الأخلاق، إلى الزهو إلى الرجاء. وهي طالما نادمتني، ونحن في عيشة الندامى وفي رضى القداسة والأمل، وهي لا تسكت على الظلم، على الحياء، على التراجع، على حبّة مرّة، على كأس ينبغي أن تكون نظيفة وأن ترنّ في المناخ الحق، في الحقيقة الساطعة».

إلى صديقيه أنسي الحاج وفرانسوا عقل والزمان رغد

«عشت في جريدة النهار ما عشت، من الابتكار شديد الشكيمة، والمليح والسافر والصدى مرتاح الأوداج إلى الضرب على الوتر وحديد الحرّية، حرّية الاستغناء عن الخدمات وعن العمل الذي كان باهراً وكان حصاداً من الدهشة ومن الواقع المجلخ.

وكان لي الصديق والرفيق أنسي الحاج، شاعراً يفتح الأبواب على قصيدته وعلى سائر القصائد، ويفتح لي أن أكون قربه وأن نكون معاً في الهيجاء، في الظهيرة دائماً، في الأهبة وفي الدفاع عن الحقل حيث نحن، حقل ملحق النهار.

ولا مبتدأ ولا قطار هنا ولا اندفاع ولا عجلات، لولا فرنسوا الذي كان القطار والذي كان شبه راهب أو الأشجع بين الشجعان. وهكذا هو ظهر على القارئ وعلى التحرير والمحرّرين. وهو الضمير والدينامية في العمل الصحافي في متّسع النهار، وفي أيّ مضيق خارجي ولا يدعه يدخل أو يخرّب أو يوقف أحداً».

إلى شعراء فلسطين في بيروت وفيهم محمود درويش، الصديق والصلة المديدة والمستقيمة بالبلاد، بموطنه فلسطين، شاعر الشرق والوطن الجاثم عليه ذلك العدو، وفيهم معين بسيسو، وهو أيضاً من القافلة الثائرة، وحيث الغضب يسطع.

وعن نساء شعر: هيلين الخال وخالدة سعيد وليلى بعلبكي ولور غريب وسنية صالح وسلمى الخضراء الجيوسي.

إلى يوسف الخال الذي كان يصدّقه ويصغي هادئاً فاتحاً عينيه، وآمال نوّار الوافدة من عذوبة الجنوب اللبنانية، وسعيد عقل إمبراطور الأوزان، والملهم حتى النهاية، إلى صباح الخرّاط زوين ومي منسّى، إلى صحبه ورفاقه أجمعين، فيصفهم بدقّة ونزاهة وإخلاص ووفاء، وحتّى عن السلف قول فصل:

والسلف الصالح نعثر عليه هناك أيضاً، في أفق الماضي، لدى البساتنة، والأول فيهم المعلّم بطرس الذي له معجمه «المحيط»، وكلّهم من أعلام النهضة الحديثة، وهذا هو المعلوف اليسوُعي 1867 1946 ، وهذا هو المعلّم بطرس 1819 1883 ، من الأركان من الذين لهم فتوحات في النهضة. وغيرهما أصوليون كثيرون ولسنا في صدد تعدادهم، وإنما نحن في سبيل تذكار، وفي نوع من الحنين إلى الذين من أسلافنا ملأوا دنياهم بالغلّة تلو الغلّة وبالوزنات والثمار والروائع. ونحن إذ نكتب وإذ نبحث في عصرنا، في أيامنا هذه، نهتّزّ طرباً لأولئك وكيف أوتوا من الصبر ومن الاعتكاف ومن الحدب ما لا يتاح لأحدنا في زماننا المرتجف من أنفلونزا الخوف والسرعة والبطالة في معنى ما، ومن أنه ينصرف إلى الزائل والعابر وإلى ما هو دخان سيكارة يذهب متبدّداً في الهواء إلى اللاشيء».

وأبي شقرا يرتدّ دائماً خلل كلّ ما يحبّر إلى الحياة الريفية في بلادنا، في جبالنا، بكل ما يسطع منها، بكل أوراقها، بكل ما للحور من بهجة، للسنديان من قوة، للأشواك من عقصة، للتين من نكهة، للعنب من زينة، والزيتون تلك البركة، وذلك الخير العميم، ولكن دون أن يغيب عن باله صحبه في المدينة، فيذكر كبيرهم وصغيرهم، ولا يغفل عن أساتذتهم وفيهم صديقه كمال الصليبي:

«والصليبي كان من المدركين لما هو الأوان الذي نحن فيه وتحت خيمته وتحت إلحاحه واندفاعه وكان يطلع القمر من فضائه، ينير لنا الدروب الترابية وكأنها في سياقه، في مساره الذاهب إلى الأكمة، إلى النقطة، إلى القمر عينه، وإذن هي الصراط، وهي اللقية، وهي المكافأة. إذ كان صبوراً، وذلك هو المفتاح، وفي التاريخ يتكئ الصبر على المتن وعلى الهامش، ولا ما يتيح الشرود، ولا ما يعطّل الاقتناع ويعطل البيان عن الأحداث، وأن تكون جامدة لدى المؤرخ وأن تكون أيضاً في تحولاتها وفي مجاريها نحو الغاية نحو التجلّي ونحو الجلاء عن الغامض ونحو التفسير حتى منتهى القصة وأن تتبدّد الغصّة والزحام الذي يغطّي الدرع، يغطّي العقل. فلا هروب من ذلك في أيّ وضع وأيّ انتقال».

خليل حاوي رفيقه لعقود: الجسر الذي كان عبوراً

إنه خليل حاوي الذي ألتفت إليه مليّاً والذي كانت لي كلمتي حول الكينونة الخاصة به وعلى كونه الذي نال من الذيوع ما يستحقه في الوسط اللبناني وفي الأوساط الثقافية والوطنية والعربية.

«وذكراه حطّت لدى اتّحاد الكتّاب اللبنانيين وبدعوة منه ومن بلدية ضهور الشوير وعين السنديانة أقيم اليوم التكريمي له في فندق ضهور الشوير، السبت 29 تموز 2000. وكان على رأس الاتحاد آنذاك الشاعر جوزف حرب الذي وقف في مجلة الاتحاد إشارات 22 في عددها صيف 2000 ناعياً الدكتور إيليا حاوي الذي كانت له كلمة في شقيقه خليل هي كأنها آخر ما كتب.

ونصوص اليوم التكريمي احتوتها المجلة في خليل حاوي الذي مضى إلى جوار ربه منتحراً برصاصة عام 1982. وكانت هذه التجربة مريرة مرتين، ضدّ الاجتياح الإسرائيلي لعاصمة لبنان وضدّ الموقف العربي الذي غرق في الصمت حياله.

وهنا كلمتي «يا صاحب الجسر»:

كأنك شربت الكأس، أطول كأس.

كأنك بالزجاجة جرحت نفسك وديارك.

كأنك جرحت جذع شجرة المعرفة ولم يبق القلب محفوراً،

وحرمتنا رؤيتك،

حرمت الجميع التساؤل.

كان جوابك لاذعاً ودمك نفر على القاصي من هو والداني كيف هو قمة في

العطاء شهيداً. لأنك في شغف بالحقيقة، في شغف بالمضمون».

واحد من فرسان القرن

هذا بعض شوقي أبي شقرا في سيرته وهي سيرة حداثة وقافلة إقدام، وهو الذي كان منذ الستينات من القرن الذي انطوى واحداً من الفرسان في خضمّه، وها هو الآن يفاخر بأن ما ثابر عليه وكان الفاعل والمؤثر في الأذهان وفي حقبة مرقّطة بالألوان القاتمة كأنها الفهد، جاء بالثمار والندى في النفوس العطشى إلى ما يسعد ويبعث الرمق من أن يكون الأخير.

على جذع الحداثة حفر أبي شقرا اسمه، فأثمرت الشجرة نصوصاً خلّاقة، والأهمّ على صلة بالعصر، بأنفاس العصر، فيبقى هذا الشاعر الملهم في الظلال الناعمة وفي المعرفة ودفء الصداقات ومتانة التعاون. من الطفولة إلى الكهولة، ومن الثريا إلى شعر، ومن القرية إلى المدينة، ومن البراءة إلى الوعي فالحسّ الجميل والطيف البهّي نحن مع المعلّم الماهر في دفء الذكريات وحنوّ المسكن ورفقة الصبا.

كاتب وباحث

بدعوة من «دار نلسن» ـ بيروت/السويد ومجلة «الحركة الشعرية» ـ المكسيك والشاعر، يقام حفل توقيع «شوقي أبي شقرا يتذكّر» من الخامسة حتى الثامنة من مساء الثلاثاء 21 شباط، في قاعة الاحتفالات في «جامعة الحكمة»، فرن الشباك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى