استبداد الشاشات وقانون الشارع

ناصر قنديل

– في زمن يعترف الجميع بلا استثناء بأن الحروب الوجودية التي تخاض على الهويات ومستقبل الكيانات، بواسطة حروب العقول، والتسليم بأن ميدانها الأول هو الإعلام، خصوصاً الشاشات الفضائية التي لم تزل حتى تاريخه المصدر الأول للتواصل بين صنّاع الرأي والترفيه مع الجمهور الأوسع، تتقابل نزعتان في أوساط النخب في الغرب والعالم وفي لبنان والمنطقة. نزعة تقول بتعقيم الإعلام وتحويله إلى أبواق تردّد خطاباً أحادياً تحت شعار أن الإعلام بات شأناً من شؤون الأمن القومي. ونزعة مقابلة تتخذ شعار الحرية الإعلامية لتبرير بثّ كل ما يشاء صاحب المحطة أو القناة التلفزيونية باعتباره فيلسوفاً وداعية ثقافة واجتماع وباعتبار منهجه في فهم الحياة وتعقيداتها يمنحه سلطة التصرف باستعلاء وغطرسة مع كل نقاش حول حدود حريته في استعمال وتوظيف هذا الحق الذي يخوله الوصول للناس كما يشاء بلا مساءلة ولا رادع ولا حساب ولا ضوابط، وربط هذه الحرية بجملة يرددها كثيرون تقول، إن الإعلام هو مرآة للواقع وليس أداة لتغييره، عندما تبث ما يروّج ويسوّق للظواهر الرديئة البعيدة عن تهذيب الذوق العام ومحاكاة المزاج القيمي للمجتمع، أو جملة أخرى نقيض الأولى قوامها، الإعلام أداة تغيير ديمقراطي بفضح الفساد والكشف عن مواطن الخلل في أداء الحاكم أو رموز الطبقة السياسيّة، عندما يكون ما تبثه موجهاً للنيل من أحد رموز السياسة أو المسؤولين. والكل يعلم أن الأمر ليس مبدأ عاماً تعتمده المؤسسة، بل استنساب يرتبط برؤية ومصالح وحسابات القيّمين على القناة أو المحطة وأصحابها، وليس نقداً منزهاً لحساب الخير العام بعيداً عن الحسابات الخاصة. وكلنا نعلم أن لا معيار يطبّق بالعدل على جميع الساسة لدى هذه أو تلك من القنوات أو المحطات، ولا معيار مقابل يطبّق بالعدل على السياسي نفسه الذي قد تغض القناة النظر عن ارتكابات واقعية له في زمن التراضي وتنشر غسيلاً مفتعلاً ضده في زمن الخصام.

– يخشى كل مَن يطرق باب الجواب عن سؤال «كيف يكون الإعلام المرئي والمسموع حضارياً راقياً وحراً ونقدياً ومحصّناً ضد تدخّلات أهل الحكم؟»، في كيف لا يذهب مذهب التقييد فيقع في نزعة التعقيم، وكيف لا يذهب في مذهب الدعوة لانسحاب الدولة من مسرح التدخل فيلبّي مقتضيات الفلتان والفوضى، ولا يُخفى على أحد أن الذهاب للتقييد حدّ التعقيم لا يعني إلا تهميش التواصل بين القنوات الخاضعة لسلطة الدولة لحساب القنوات الوافدة الواقعة خارج نطاق هذا التقييد، وتشجيعاً لنزوح القنوات المحلية نحو الخارج، في سوق تنافسية لم تعد اقتصادية تعتمد على موارد الإعلان، بل في غالبها تتجه نحو جذب التمويل السياسي بإثبات قدرتها على تسويق الخطاب الذي يخدم المموّل مغلفاً بشعار الحرية الإعلامية.

– البداية هي في القول إن هناك قانوناً يسود اليوم واقعياً عنوانه، استبداد أصحاب الشاشات والقيّمين عليها بادعاء أنّهم وحدهم دون كل شيء في بلدهم منزّهون يؤدون رسالة رفيعة حضارية وأخلاقية وإصلاحيون حداثيون من طراز رفيع لا يجوز أن يطالهم نقد. لهم حق التحكم بتحديد مَن ومتى وكم يظهر عبر شاشاتهم، وبماذا يديرون البث على هوائها، وماذا يبثون إلى الناس، ولا يحق لأحد أن يسألهم، قبل أن يسائلهم، وليس شرطاً ليكون المتمتّع بهذه السلطة صاحب اختصاص في مجال أو خبرة عملية اكتسبها في ما يتصل بعلم الحرب النفسية وعلم النفس الاجتماعي. فهو سلطة مستقلة كاملة الصلاحيات في التقدير واتخاذ القرار، وسقف محاذيره المقاضاة التي تحرص كل دولة على تجنّب تحويلها إلى بعد جزائي كي لا تثير مسألة الحريات فتصير العقوبة باب فرج، فهي من نوع لا يسبّب الوجع، وبالتالي الردع لمن تقوم سلطته أساساً على امتلاكه المال اللازم لتشغيل مؤسسة لا تتعدى أعلى الغرامات التي قد تفرض عليه بحكم قضائي جزءاً بسيطاً من نفقات يوم تشغيل.

– مقابل هذا القانون القائم على استبداد الشاشات، قانون آخر هو استبداد الشارع، والشارع هو عصبيات طائفية وحزبية، أو عصبيّات قيميّة وثقافيّة غالبُها من مصدر ديني. فعندما تصطدم سلطة أصحاب الشاشات المنطلقة على غاربها بعثرة تمسّ بجدار الحماية الذي تنصبه الشوارع لحماية ذاتها، وفقاً لمفاهيمها ومنظومة قيمها الحاكمة والسائدة، ينهض هذا القانون ليحاسب على شكل تظاهرات وشغب وإحراق دواليب أو توجيه تهديدات لإعلاميين بصورة سافرة أو مبطّنة، أو إطلاق الدعوات من منابر ذات مكانة في المجتمع لإيقاف برنامج أو تقييد حرية البث، فينهض أهل الإعلام متضامنين داعين لحماية الحريات، وينقسم أهل السياسة بين مَن يخشى معاقبته بالحرم التلفزيوني، إن قال كلمة الحق كما يراها، أو مَن يسعون لرشوة تلفزيونية تمنحهم حق الظهور وترضيه بما لا يستحقون من الهواء على شاشة تملك نسباً عالية من المشاهدة، وبين مَن يخشى غضب السياسي الغاضب أو العصبية الغاضبة من أداء القناة المعنية فيسارع لإعلان موقف لا يُحسَد عليه، يعلم أنه سيسبّب له خسارة صورة بطل الحريّات الذي سبقه إليه منافسوه، ويعلم كم سيناله من الحرم الإعلامي مما يفقده حضوراً طالما سعى وراءه.

– السؤال الموجّه لركنَيْ العملية الإعلامية، وهما المسؤولون في الدولة والمسؤولون عن الشاشات، وهو سؤال مطروح في لبنان وفي كل بلد يعيش حالة مشابهة: هل أنتم راضون عن القانون السائد والقائم على ثنائية استبداد الشاشات واستبداد الشارع، وتتحمّلون تبعات هذا الرضا الذي قد ينفجر في أي لحظة وعند أي منعطف، وعندها تتسابقون لترموا أثقالكم وأعباءكم على القوى الأمنية والجيش، وتندموا وتبكوا عندما تقع الدماء وتسقط الضحايا. وكلنا يعلم أن هذا كان سيحدث أكثر من مرة، وقد يحدث في أيّ مرة، كما كلنا يعلم أن لا قناة تتدلّل وتتغندر وتتغنّج إلا بحماية يقدّمها مسؤول كبير لها يضعها فوق المساءلة ويمنحها الحصانة لتمارس استبدادها وعنجهيّتها على كل نقاش ونقد وسؤال. وكلنا يعلم أن الحل هو بتوازن سلس لا يقوم إلا بالتراضي بين مسؤولي الدولة والقيّمين على الإعلام، ينتجه حوار مسؤول، يعيد ترتيب البيت الإعلامي بما يصون الحرية ويحفظ الحق العام الذي تستعمله المؤسسات التلفزيونية بما هو حق عام يجري تمييزه عن إدارة مؤسسة خاصة تجارية أو إعلامية لا تستعمل الهواء الذي يشكل ملكاً عاماً وضع بتصرف المؤسسات الإعلامية لأداء خدمة ورسالة ضمن معايير سوق اقتصادية لا يمكن لمجتمع يهتمّ لمستقبل أمنه وأجياله وقضاياه وتطوره الديمقراطي أن يدعه رهينة للتسيّب؟

– إن كان الرضا سيد الموقف عن ديكتاتوريتين تتقاسمان إدارة الإعلام التلفزيوني اللبناني وتصنعان قانونه فهنيئاً، وعندها فلا يتشكينّ أحدٌ ولا يتذمرنّ أحدٌ، ولا يرهقنّ أحد جندياً أو رجل أمن مستنجداً، أو يقيم الدنيا ولا يُقعدها باسم عصبية يقول إنه جرى النيل منها أو باسم حرية يدّعي أنه اعتُدي عليها، وإن لم يكن الرضا فليكن القبول باستحالة طلب كل طرف من أطراف هذه الديكتاتورية القائمة بضبط طرفها الآخر وتنصيبه هو رقيباً يمارس حريّته للتحقق من هذا الضبط، وإلا شقّ عصا الطاعة وعاد إلى استبداده قدر من التواضع. وطلبُ المستطاع يبدأ بقبول أن الحال الإعلامية ليست على أحسن حال، وأن حال الشارع ليست أحسن منها، كما حال السياسة.

– كلام قد لا يُرضي كثيرين، لكنه فعل ضمير… اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغتُ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى