فلين الضحية الأولى لانتقام الأجهزة من ترامب

«اضطر» الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الانحناء لعاصفة الانتقادات الحادّة لمقاربته «المنفتحة على التعاون مع روسيا» والتضحية بمستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، بسرعة قياسية. ما يدفعنا إلى استنتاج كهذا هو «تعديل» الخطاب الرسمي للبيت الأبيض نحو روسيا بتبنّي مفردات متشدّدة ترضي توجهات ومواقف عدائية لأجنحة المؤسسة الحاكمة تقليدياً في الحزبين.

أعقب إعلان «الإقالة»، تغريد ترامب على شبكة «تويتر»، 15 شباط الحالي، بالقول « شبه جزيرة القرم استحوذت عليها روسيا خلال إدارة الرئيس أوباما. هل كان أوباما شديد الليونة مع روسيا؟» وزاد عليه الناطق الرسمي للبيت الأبيض، شون سبايسر، في مؤتمره الصحافي اليومي بالقول «نتوقع من روسيا إعادة شبه جزيرة القرم».

السؤال الجوهري والذي وصفه ترامب بدقة هو هل ارتكب مستشاره للأمن القومي «خطيئة» لها أبعاد استراتيجية تحتم إقالته، ام انّ اتصاله مع السفير الروسي في واشنطن أمر عادي يندرج ضمن مهامه وصلاحياته. في أول مؤتمر صحافي عقده بعد «الإقالة» أوضح ترامب لجمهور الصحافيين مجيباً انّ حادث الاتصال بحدّ ذاته مبرّر ويقع ضمن المهام المنوطة بطاقمه «وانْ لم يقم بذلك فسوف أكلفه القيام به».

اذن لماذا «قَبِل» ترامب التخلي عن مستشاره الحميم. هذا يعيدنا الى جوهر المسألة التي شكلت بؤرة صدام بين القادم حديثاً إلى البيت الابيض ومجموعة المؤسسات الاستخباراتية والسياسية الأخرى التي تشاءمت من تصريحات الثنائي ترامب وفلين حول «نهج التعايش مع روسيا بدلاً من نهج التصعيد للأعلى وبمستوى الحرب الباردة» التي سادت منذ منتصف القرن المنصرم.

مسألة صراع أجهزة الاستخبارات والبيت الابيض خرجت من حيّز التكهّن والتحليل إلى التداول العام من قبل المؤسسات الإعلامية بمجموعها، تسريباً وتلميحاً، والتي اعتبرت الإقالة «انتصاراً» للسردية الأميركية الرسمية التي تتربّص بترامب لتقييد خياراته وربما لما هو أبعد من ذلك.

يُشار إلى انّ الخطاب السياسي لترامب، أثناء حملته الانتخابية وما بعدها، أرسى ارتياحاً في الأوساط العالمية لنيته «بلورة آفاق نستطيع فيها التعاون سوياً مع روسيا» في سياق التصدّي الكوني للإرهاب. وعليه، لم يضمر «المحافظون الجدد» ومخلفاتهم في الأجهزة الرسمية الأميركية عزمهم على تعديل سياسة البيت الأبيض فقط، بل وضع ما يستطاع فعله من عراقيل أمامه.

أما مستقبل ترامب عقب الهزة الشديدة التي تلقاها فيبدو انه سيتأثر سلباً بما جنت يداه من النزول عند رغبة، ما أضحى مفردة يومية في المشهد السياسي توصيف، «الدولة العميقة» او «دولة الظلّ» التي تتضمّن المؤسسات الاستخباراتية المتعدّدة والبنى السياسية الرسمية في الحزبين، إضافة إلى أخطبوط الإعلام الأميركي. باختصار شديد هو ترميز لكلّ ما يمتّ للنموذج الاقتصادي «النيوليبرالي»، الذي يعتاش على خصخصة المؤسسات العامة ومرافق الدولة المختلفة، لا سيما الأمن والاستخبارات.

ترامب، في تقدير ثبت أنه مركز مقتله، وجه سهام انتقاداته المباشرة للأجهزة الاستخباراتية والمؤسسات الإعلامية، ما يفسّر بعض الشيء تلاحم «معسكر أعداء ترامب»، ناهيك عن المصالح الاقتصادية الكبرى في قطاعي النفط والمصارف المالية وانْ بدرجة أقلّ حدة.

للتدليل على عمق الشرخ بين المؤسسة التقليدية والرئيس ترامب، نقلت أسبوعية «ذي نيشن» في عددها الأخير عن ضابط سابق في وكالة الأمن القومي، جون شيندلر، قوله انّ زملاءه داخل «المؤسسة العميقة» قد وضعوا ترامب نصب أعينهم ما يعني ان «ترامب سيقضي صريعاً في سجنه»، ايّ خلال ولايته الرئاسية، وليس بالضرورة بالمعنى الحرفي للتعبير.

سورياً، من المفيد المرور على مذكرة أعدّها مايكل فلين، عام 2012، ضمن مسؤوليته كمدير جهاز الاستخبارات العسكرية والتي «انتقد» فيها الدعم الأميركي «للمعارضة السورية… والذي من شأنه أن يؤدّي إلى إنشاء كيان سلفي، معلن أو سري، في الشطر الشرقي من سورية».

يجدر لفت الانتباه ايضاً إلى «توقيت» إفراج وكالة الاستخبارات المركزية «سي أي آي»، مطلع الأسبوع الحالي، عن مذكرة داخلية تتعلق بتغيير النظام السوري مؤرخة في 30 تموز/ يوليو 1986، بعنوان سورية: سيناريوات للتغيير السياسي الجذري استعرضت «جملة من الاحتمالات قد تؤدّي للإطاحة بالرئيس حافظ الأسد أو تسفر عن تغيير جذري ما في سورية لسنوات مقبلة» ابان عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وفي أعقاب فشل تنظيم الإخوان المسلمين فرع سورية، من مركز ثقله في مدينة حماة، في استدراج دمشق لأتون حرب أهلية. رابط الوثيقة على العنوان التالي:

https://www.cia.gov/library/readingroom/docs/CIA-RDP86T01017R000100770001-5.pdf

في الشأن السوري ايضاً، أفرجت «سي أي آي» عن مذكرة سرية أخرى تاريخها 14 ايلول/ سبتمبر 1983 بعنوان أعدّوا عضلات حقيقية لاستخدامها ضدّ سورية تروّج لاستخدام أراضي وإمكانات الدول المجاورة في إطلاق عمليات مسلحة للقوات الخاصة ضدّ سورية بدعم «دول عربية». الحديث عن التدخل الأميركي في سورية يتطلب فرد مساحة أوسع، ربما سيجري تناوله مفصلاً في المقبل من الزمن. رابط الوثيقة للاطلاع:

https://www.cia.gov/library/readingroom/docs/CIA-RDP88B00443R001404090133-0.pdf

استناداً الى «خضوع» ترامب لضغوط المؤسسة الاستخباراتية عند أول منعطف له، كما يقول البعض، باستدارته والانقضاض على سياسته المنفتحة على روسيا، فمن المرجح ان يفعل ذلك ايضاً بسورية نزولاً عند رغبة المتشدّدين، كانت أولى دلالاتها «تسريبات» منسوبة للبنتاغون تفيد بأنّ واشنطن تدرس «خيار» إرسال قوات برية ولو محدودة لسورية.

ماذا بعد فلين؟

غياب فلين عن المشهد السياسي كان سببه تقديمه «معلومات غير مكتملة» لنائب الرئيس مايك بنس تخصّ محادثة هاتفية أجراها الأول مع السفير الروسي يعتقد أنها تناولت سيناريوات لرفع العقوبات. التيار المتشدّد في الكونغرس اعتبر «تهميش» بنس فرصته للانقضاض على الرئيس ترامب وتعديل بوصلة توجهه نحو روسيا، والنيل من دائرته الضيقة.

خروج فلين السريع اعتبره بعض المراقبين فضيحة كبرى مبكرة في مطلع عهد إدارة جديدة وقد تضفي إلى «أكبر هزة تطال الاستخبارات الأميركية» منذ عقد السبعينيات وتشكيل لجنة فرانك تشيرش للتحقيق في تجاوزات «سي أي آي» وتهيئة لاستهداف أقرب المستشارين لترامب وعلى رأسهم ستيف بانون ربما.

بنس، في المقابل، يأتي من رحم المؤسسة الحاكمة خاصة تيارها الايديولوجي المتشدّد دينياً وتيار حزب الشاي بشكل أدق، وكان مرشحها المعوّل عليه تشذيب اندفاعات ترامب خارج السياق الرسمي المعتاد. كما لبنس علاقات وثيقة مع الأخوين كوك، أبرز الداعمين للمرشحين المتشدّدين وهما أول الداعمين لتيار حزب الشاي.

بعد طول مراهنة من أقطاب مختلفة من المؤسسة الحاكمة، اعتذر «المرشح» روبرت هاروورد رسمياً عن تولي منصب مستشار الأمن القومي، مساء الخميس 16/ شباط الحالي، والذي كان يعوّل عليه وزير الدفاع الجديد مايك ماتيس وقادة كبار آخرين، خاصة لماضيه العسكري كنائب أميرال في سلاح البحرية وقوات الضفادع البشرية، ونائباً لماتيس في قيادة القوات المركزية.

سيستمرّ نائب فلين، اللواء كيث كيلوغ، في شغل منصب مستشار الأمن القومي بالوكالة في المرحلة الراهنة، بقرار رئاسي. من ضمن الأسماء المرشحة سابقا للمنصب، اضافة لهاروورد، مدير «سي أي آي» السابق ديفيد بيترايوس، الذي نسب اليه لدى إعداد هذا التقرير انه ينأى بنفسه عن المنصب. أزمة الكفاءات المطلوبة للمنصب الحساس قد تستمرّ بعض الوقت في ظلّ مناخ التجاذب والصراع بين أقطاب المؤسسة المختلفة وعزم ترامب على تعيين أشخاص محلّ ثقة وولاء له.

تجسّس على الرئاسة…!

ثابرت المؤسسات الإعلامية، المرئية والمقروءة، على نشر ما اعتبرته نصّ محادثات خاصة أجراها الرئيس ترامب مع رئيس وزراء استراليا ورئيس المكسيك، تباعاً، فسّرها ترامب بأنّ «احداً ما داخل الأجهزة الاستخباراتية» أخذ على عاتقه تسريب المضمون للصحافيين ودرج على ترديد ازدرائه لتلك المؤسسات علانية. وصعدت وتيرة «تسريباتها» لتصطاد مستشار ترامب للأمن القومي، مايكل فلين، والإيحاء بأنه أجرى محادثة هاتفية مع السفير الروسي تناول فيها مسألة العقوبات الأميركية.

تتراكم الأسئلة حول الجهة التي قامت بالتسجيل وتفريغ المكالمات وقرار تسريب مضمونها للإعلام، خاصة من المؤسسات الثلاث الكبرى: وكالة الأمن القومي، مكتب التحقيقات الفيدرالي اف بي آي، ووكالة الاستخبارات المركزية. اذ أوضحت شبكة بلومبيرغ للأنباء، 14 شباط، انه «من النادر جداً ان يتمّ إبلاغ صحافيين حول إجراءات الحكومة لمراقبة اتصالات تجري بين مواطنين أميركيين، ناهيك عن مسؤولين رسميين رفيعي المستوى».

واردفت الوكالة انّ «الإفصاح الانتقائي لتفاصيل محادثات خاصة تخضع لمراقبة «أف بي أي» أو وكالة الأمن القومي يوفر القدرة لسلطة الدولة تدمير سمعة المستهدف من وراء ستار هوية مجهولة».

أما يومية الأوساط المالية بالغة النفوذ، وول ستريت جورنال، 13 شباط، فقد وجهت أصابع الاتهام للمؤسسات الاستخباراتية بمجموعها بالقول «انّ كان السيد فلين تحت مراقبة الاستخبارات الأميركية، يتعيّن إبلاغ السيد ترامب بالمبرّر.. فالبيت الأبيض برئاسة ترامب بحاجة لمعرفة ما يجري مع السيد فلين وكذلك مع جواسيس الولايات المتحدة». وتركت الصحيفة باب التكهّنات مفتوحاً على جملة احتمالات لمسؤولية «أف بي أي» في «المراقبة والتسجيل السري لفلين ومسؤولين آخرين في البيت الأبيض، تنفيذاً لقرار وزارة العدل».

رئيس اللجنة الفرعية الدائمة للاستخبارات في مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، دفين نيونيز، عبّر عن بالغ استيائه لتسريب معلومات عالية السرية قائلاً: «يبدو انّ ثمة جهداً مدبّراً بعناية للنيل من مايك فلين وآخرين في الإدارة… فتسريب مضمون مكالمات هاتفية جرت بين الرئيس ونظرائه من الزعماء الآخرين تشير الى نمط مسلكي بعيد عن العفوية».

ضابط سابق رفيع المستوى في وكالة الأمن القومي، ويليام بيني، أكد دون أدنى شك انّ الوكالة «ترصد المكالمات الهاتفية للرئيس دونال ترامب… بكلّ تأكيد». وذهب بيني في تصريحاته الصحافية الى ترجيح مسؤولية وكالة الأمن القومي عن تسريب المعلومات الدقيقة التني أدّت إلى الإطاحة بمستشار ترامب للأمن القومي.

واستدرك بالقول انه «في حال لم تكن الوكالة ضالعة بذلك، فهي بالتأكيد تمتلك البيانات الخاصة بذلك»، لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار انّ جهازي «أف بي أي» ووكالة الاستخبارات المركزية لديهما الصلاحية المباشرة للتعامل مع قاعدة بيانات وكالة الأمن القومي دون ان يكون للأخيرة «آلية» رصد ذلك. بل انها لا تتعقب جهود موظفيها للوصول الى تلك البيانات».

تعاملت المؤسسات الأمنية والاستخباراتية مع بياناتها بأقصى درجات السرية. أما وان مضى أحد المسؤولين الكبار بطلب معرفة هوية مسؤولين آخرين خضعوا او يخضعون للمراقبة فسيرفض طلبه ويعتبر خارج السياق العملياتي. وسبق لوكالة الأمن القومي تعطيل مصادقة مجلس الشيوخ على مرشح الرئيس جورج بوش الابن لمنصب الممثل الدائم في الأمم المتحدة، جون بولتون، عقب تكرار محاولته عشر مرات لمعرفة معلومات «سرية» ابان فترة خدمته كوكيل لوزير الخارجية لشؤون الحدّ من الأسلحة.

الإمكانيات التقنية والبشرية والمادية المفتوحة لدى المؤسسات الاستخباراتية كانت محط قلق واهتمام قلة من السياسيين الأميركيين الكبار. السيناتور الشهير فرانك تشيرش حذر في تقريره، عام 1975، لتقصي تجاوزات الأجهزة قائلاً «انّ القدرات التقنية التي وفرتها المنظومة الاستخباراتية للحكومة الأميركية بإمكانها توفير الفرصة للدولة لفرض جبروتها واستبدادها بصورة شاملة، ولن تلقى مقاومة من اي كان…» واضاف محذراً انه ينبغي على السلطة التشريعية تعزيز جهودها الرقابية على تلك المنظومة «التي تمتلك تلك التقنية العالية وخضوعها للقيام بمهامها بما يتسق مع القوانين السارية والحيلولة دون اقترابنا من الهاوية التي لن نجد طريقا للعودة منها».

إدارة عرجاء قبل أن تبدأ

من الواضح انّ هناك اجماعاً بين السياسيين حول ما آلت اليه «الهزة الأمنية» التي اجتاحت المؤسسة الحاكمة وأسفرت عن تسيُّد المنظومة الاستخباراتية بمجموعها وتحكّمها بمفاصل السياسة الأميركية، داخلياً وخارجياً. ترامب، كما أسلفنا، سريعاً ما استدار لتعديل توجهاته الخارجية الخاصة بروسيا ليرسي على شاطئ مغاير لوعوده الانتخابية وتصريحاته المتفائلة بالتعامل والتعاون مع موسكو فور تسلّمه مهام منصبه.

يبدو انّ ترامب فضل التخلي عن مستشاره للأمن القومي والانحناء أمام العاصفة الهوجاء، بل لم «يسمح لفلين المرافعة عن نفسه» عقب تعرّضه للانتقادات القاسية. وسرت أنباء بين أعضاء فريق ترامب انّ الرئيس «ابلغ فلين بعدم التحدث مع وسائل الإعلام… بل لم يتمّ السماح لمساعديه مراجعة سجل محادثته مع السفير الروسي»، وفق مصادر وكالة بلومبيرغ للأنباء.

تراجع ترامب في اللحظة الأخيرة عن ترفيع مستشاره بالوكالة، كيث كيلوغ، الذي أفصح لمقرّبيه انه على أتمّ الاستعداد لتحمّل المسؤولية حين يطلب منه ذلك. ترامب، من جانبه، غرّد قبل نهاية الاسبوع قائلاً: «إنّ كيلوغ لا يزال مدرجاً على قائمة المرشحين » وكان برفقته على متن الطائرة الرئاسية متجهاً الى ولايتي ساوث كارولينا وفلوريدا.

عقب تراجع مرشحه المفضل روبرت هاروورد، وتمنّع مدير «سي أي آي» السابق ديفيد بيترايوس، يجري ترديد ثلاثة أسماء مرشحة: الممثل الدائم الأسبق في الأمم المتحدة جون بولتون اللواء في الجيش المتقاعد هـ. ر. مكماستر ومدير وكالة الأمن القومي الأسبق، كيث ألكساندر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى