كيف يغذّي الإعلام الحرب على سورية؟

كتب ريك ستيرلينغ باحث وكاتب مستقلّ وعضو في حركة التضامن مع سورية

تتوجّه الدعاية الغربية الخبيثة نحو الدول الهادفة «تغيير النظام»، خاصةً أن التيارات الصحافية تخلّت عن التشكيك وتبنّت في المقابل موقف التدفق وفق التيار، كما حصل في حالات صُوَر «التعذيب» السورية، وذلك بحسب ما أورد ريك ستيرلينغ. نُشرت نماذج متشابهة من التقارير الحساسة إنما غير الصادقة والتي تقود الى تقبّل الرأي العام لفكرة التدخل العسكري الأميركي والغربي في مثل هذه البلدان في العالم.

فعلى سبيل المثال، وفي حرب الخليج الأولى 1990 1991 ، وردت تقارير حول سرقة القوات العراقية حاضنات الأطفال من الكويت، تاركين الأطفال يموتون من البرد. واستناداً الى شهادة من طبيب الهلال الأحمر ومنظمة العفو الدولية، فقد «ثبُت» أن هذه الادّعاءات هي محض كذب.

وبعد مرور عشر سنوات، وردت تقارير تؤكد تدفق اليورانيوم الأصفر إلى العراق بهدف تطوير أسلحة الدمار الشامل. ومنذ حوالى العقد من الزمن، أيضاً وأيضاً نُشرت تقارير عن جنود ليبيين يسرفون في تناول عقار الفياغرا ويغتصبون النساء. وفي العام 2012، أُعلن عن اختطاف مذيع الـ NBC ريتشارد إنغل، الذي سبق أن غطّى أحداث مخيّم نهر البارد في الشمال اللبناني من قبل إحدى الميليشيات السورية ليُحرّر لاحقاً من قبل مقاتلي المعارضة السورية أي «الجيش السوري الحرّ».

تمّ التأكد في وقتٍ لاحق، بأن جميع هذه الأخبار كانت ملفّقة وكاذبة إذ هدفت بمجملها الى التلاعب بمشاعر الرأي العام، ونجحت جميعها بطريقة أو بأخرى. وعلى الرغم من العواقب، التي غالباً ما تأتي كارثية، لم يحدث أن عوقِب أحد الفاعلين أو دفع أيّ ثمن.

هناك قولٌ شهير يؤكد أن «أولئك الذين لا يتعلّمون من أخطاء الماضي محكومون بتكراره». وتأتي هذه المقولة بمثابة مراجعة نقدية لما أصبح يُعرف بقصة «القيصر وصور التعذيب». وكما سنعرض في ما يلي: هناك أدلّة واضحة على أن هذه الاتهامات خاطئة بالمطلق.

«القيصر» المفبرك و«صور التعذيب»

في 20 كانون الثاني من العام 2014، وقبل يومين تماماً من انطلاق المفاوضات في سويسرا حول النزاع السوري، ظهر تقرير مثيرٌ للاهتمام عبر وسائل الإعلام العالمية، وتصدّر صفحات الجرائد الأولى في جميع أنحاء العالم. تتمحور قصته حول مصوّر سابق للجيش السوري، نشر أكثر من 55000 صورة توثّق التعذيب والقتل لأكثر من 11000 معتقل من قبل المؤسسة الأمنية السورية.

أُطلق على هذا المصوّر السوري لقباً رمزياً «القيصر». وأصبحت هذه القصة تُعرف فيما بعد بقصة «القيصر وصور التعذيب». وعُيّن فريق من المحامين والأطباء الشرعيين، فضلاً عن الخبراء الرقميين من قبل مكتب المحاماة التابع لشركة كارتر روك، البريطانية الذائعة الصيت والمتعاقدة مع قطر، للذهاب الى الشرق الأوسط والتحقق من صحة قصة «القيصر»، ومدى صدقيتها. واستنتجوا أن «القيصر» كان حقيقياً وأن الصور تشير الى عمليات «قتل على نطاق صناعي».

نشرت كلّ من CNN والغارديان اللندنية واللوموند الفرنسية تقارير واسعة حول هذه القصة التي أذيعت في جميع أنحاء العالم. وأُعلن عن النية في إثارة هذه القصة خلال المفاوضات المرتقبة في سويسرا. طالبت المعارضة بالاستقالة الفورية للحكومة السورية، وسرعان ما انهارت المفاوضات.

وخلال السنتين الماضيتين أثيرت هذه القصة، بحسب المناسبات بين الحين والآخر، من خلال بعض التقارير والأخبار المؤيدة لها والمؤكدة على صحتها. وفي الآونة الأخيرة، نشرت منظمة هيومان رايتس ووتش HRW تقريراً بعنوان «لو تكلّم الموتى: الوفيّات الجماعية والتعذيب في المعتقلات السورية»، مركّزةً على اتهامات «القيصر».

«لو تكلّم الموتى».. لشهدوا!

وفيما يلي، سوف نورد 12 مشكلة أصابت قصة «القيصر وصور التعذيب» في الصميم:

أكثر من نصف الصور تظهر عكس المزاعم: ادّعى فريق كارتر روك أن نصف الصور البالغ عددها 55000 التقطت من قبل «القيصر» وأن النصف الآخر من قبل مصوّرين آخرين. ادّعى هذا الفريق أن جميع الصور تبدو «متشابهة». وعُرفت جميعها باسم «القيصر وصور التعذيب».

ومن الواضح أن الصور موجودة الآن في عهدة منظمة معارضة تُدعى «جمعية الضمير السوري للأطفال المفقودين والمعتقلين SAFMCD «. وفي العام 2015، سُمح لمنظمة حقوق الإنسان HRW بدراسة جميع الصور التي كانت سريّة. وفي كانون الثاني 2015، أفرجت الـ HRW عن تقريرها الذي عنونته بـ «لو تكلّم الموتى».

كذلك، فإن ما يزيد على 46 من الصور البالغ عددها 24,568 صورة، لا تشير الى آثار «تعذيب حتى الموت» مارسته الحكومة السورية ضدّ الضحايا. بل على العكس، تظهر صور الجنود السوريين القتلى وضحايا التفجيرات الانتحارية وغيرها من مظاهر العنف، وذلك بحسب تقرير HRW صفحة 2 و3. وهكذا، فإن ما يقرب من نصف الصور تؤكد عكس ما زُعم به. أما الصور التي لم يُفرَج عنها للعلن، فهي تظهر العنف الذي مارسته الجماعات المعارضة التي قتلت أعداداً كبيرة من قوات الأمن السورية، وكذلك من المدنيين.

الادّعاء بأن صوراً أخرى تظهر «تعذيب المعتقلين» مبالغ فيها أو كاذبة: يقول تقرير كارتر روك أن القيصر التقط فقط صور جثث أتت بها الحكومة السورية الى مراكز الاعتقال. وفي تقريرها الصادر في كانون الأول عام 2015، تقول HRW ،»إن الفئة الكبرى من الصور والتي تشمل ما يقرب من 28,707 صورة، ترى المنظمة أنهم لقوا حتفهم من قبل الحكومة، سواء في أحد المعتقلات أم بعد نقلهم الى المستشفى العسكري، كما يُقدّر عدد الموتى بـ 6,786 شخصاً.

صور المتوفين حقيقية، غير أن ظروف موتهم بقيت غامضة. هناك أدلّة دامغة على أن بعضهم توفّي خلال الحرب، والبعض الآخر في المستشفى، كما تحلّلت أجسادهم قبل أن يتمّ انتشالها ودفنها. إذاً، توثّق هذه الصور حالة حربٍ في منطقة نزاع، حيث قُتل العديد من المدنيين والمقاتلين.

يبدو أن المستشفى العسكري كان يقوم بواجباته كالمعتاد: يحافظ على سجلّ موثّق ومصوّر للضحايا. تُصادَر الجثث بواسطة فروع الجيش والاستخبارات المختلفة. في حين يلقى بعضها الآخر حتفه في الاحتجاز بينما من المرجّح أن تكون الغالبية العظمى قد ماتت في ساحات الصراع. إذاً، يستحيل أن تكون حياة جميع هؤلاء الموتى قد انتهت في «معتقلات الموت» أو «التعذيب حتى الموت» أو الموت في «عهدة الحكومة»، كما أكد كلّ من القيصر ومنظمة حقوق الإنسان وتقرير كارتر روك البريطاني.

«قيصر» متخفٍّ

الهويّة الحقيقية لـ «القيصر» ليست على الأرجح، كما يُشاع: يقول تقرير كارتر روك إن «الشاهد الذي انشقّ من سورية والذي كان يعمل لمصلحة الحكومة السورية أُعطي اسم «القيصر» المستعار من قبل فريق التحقيق لحماية الشهود وأفراد عائلاتهم». تقرير كارتر روك CRR ص12

ومع ذلك، فلو كانت هذه القصة صحيحة، لأصبح من السهل على الحكومة السورية معرفة مَن يكون. فبعد كلّ شيء، كم من المصوّرين العسكريين التقطوا صوراً في مستشفيات مثل تشرين والمستشفى العسكري رقم 601 خلال هذه السنوات ومن ثمّ اختفوا؟ ووفقاً لتقرير هيومان رايتس ووتش، فإن عائلة «القيصر» غادرت سورية في الوقت نفسه. ووفقاً لهذا، لمَ يبقِ «القيصر» هويته سريّة بعيداً من الجمهور الغربي؟ لمَ يرفض «القيصر» لقاء الباحثين والصحافيين المتعاطفين معه الى أبعد الحدود؟

في الواقع، يشير إجمالي الصور البالغ 46 ، وعلى عكس ما يُشاع، الى احتمالين اثنين: إما أن يكون «القيصر» والمروّجين له قد عرفوا مسبقاً محتويات هذه الصور غير أنهم كذبوا بشأنها، متوقعين أنه ما من أحد قد يلقي نظرةً عليها، أو أن «القيصر» والمروّجين له لم يدركوا كنه ومحتوى هذه الملفات وافترضوا خطأً أنها ستكون مشابهة لغيرها من الصور التي اطّلعوا عليها. ويبدو أنّ الاحتمال الأخير أقرب الى التصديق ويدعم النظرية القائلة بأن «القيصر» ليس هو «القيصر».

جاءت رسالة كارتر روك خاطئة، متسرّعة ومنحازة سياسياً. تستند مصداقية قصة «القيصر» الى حدّ كبير على تحقيق فريق كارتر روك الذي «يثبت» وجود المصوّر وانشقاقه عن النظام، وصوره التي أصبحت أشهر من النار على علم. والحقائق التالية تقترح حتمية انحياز الفريق بسبب من دافع سياسي:

– تمويل التحقيق من قبل الحكومة القطرية التي تعتبر داعماً رئيساً للمعارضة المسلّحة.

– شركة المحاماة كارتر روك، كانت قد مثّلت سابقاً الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، المعروف بتعطشه اللامحدود لدعم المعارضة المسلّحة.

– يمتلك فريق التحقيق القانوني الأميركي، بقيادة البروفيسور دايفيد م. كراين، تاريخاً حافلاً من العمل مع وزارة الدفاع الأميركية ووكالة استخبارات الدفاع. وقد تورّطت الحكومة الأميركية حتى النخاع في محاولة «تغيير النظام» المطالبة بـ «لازمة» «على الأسد أن يذهب»، والتي بدأت صيف 2011 ولا تزال مستمرّة إلى الآن.

– أما مطالبة كراين الشخصية في الصراع فقد كانت حزبية. وهو قاد حملته الانتخابية لمحكمة جرائم الحرب في سورية وأدلى بشهادته أمام الكونغرس في تشرين الأول عام 2013، قبل أشهرٍ ثلاثة فقط من ظهور «القيصر» الى العلن.

– وباعترافهم هم، أقرّ فريق التحقيق أنهم وقعوا تحت تأثير «ضيق الوقت» . CRR,P11

كما اعترفوا ايضاً، بأن فريق التحقيق لم يتسنَّ له مسح ومشاهدة وتدقيق الصور كافة.

إما أن يجهل فريق التحقيق المحتوى، أو أنه يتعمّد الكذب بشأن نسبة الـ 46 التي تظهر جنوداً سوريين وضحايا الهجومات المسلّحة.

أجرى فريق التحقيق مقابلته الأخيرة مع «القيصر» في 18 كانون الثاني عام 2014، وأنهوا سريعاً التقرير لينطلقوا بعدها الى نشره عبر وسائل الإعلام في 20 كانون الثاني، أي قبل يومين فقط من انطلاق مفاوضات برعاية الأمم المتحدة.

أما هذه «الصرامة» التي تميّزت بها تحقيقات شركة كارتر روك للمحاماة، فلم يكن لها أساس. إن مطالبات التحقيق العلميّة، فهي الأخرى لا تمتلك أيّ مضمون، بل تقترب من كونها فارغة وسخيفة.

«ضابط القضية» .. CIA

إن المعنيّ الرئيسيّ هو وكالة الاستخبارات الأميركية. وفي مقابلة أجرتها قناة France24 ، وصف دايفيد كراين كيف استقدم فريق التحقيق «القيصر» ليلتقي بضابط التحقيق في القضية. وغالباً ما يرتبط مصطلح «ضابط القضية» بوكالة الاستخبارات الأميركية. ومن شأن هذا أن يكون تعبيراً شائعاً للبروفسور كراين، الذي سبق له أن عمل في وكالة الدفاع الاستخبارية. إن تورّط الـ CIA يضفي معنىً على الميزانية الهائلة التي رصدتها الوكالة للعمليات العسكرية في سورية والبالغة مليار دولار أميركي. يرى كراين أن «مشروع محاسبة سورية»، يتمركز بشكل رئيسيّ في جامعة سيراكيوز، حيث تنشط وكالة الاستخبارات المركزية في تجنيد المزيد والمزيد من الضباط.

لكن، لمَ تهتمّ وكالة الاستخبارات المركزية أصلاً بقصة «القيصر»؟ ببساطة، لأن للوكالة تاريخاً طويلاً من حملات التضليل. ففي العام 2011، انتشرت سريعاً تقارير كاذبة عدّة حول الفياغرا والاغتصاب من قبل الجنود الليبيين عبر وسائل الإعلام الغربية، التي جنّدتها الولايات المتحدة لتغطية عملياتها العسكرية. وكان العالم قد صُدِم قبل عقود، عند سماعه قصة اغتصاب القوات الكوبية المحاربة في أنغولا للنساء الأنغوليات. وكان رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية جون ستوكويل، قد وصف كيفية ابتداع هذا التقرير الكاذب ونشره حول العالم. وشعرت الوكالة بالفخر والزهو لهذا الإنجاز المضلّل. وقد ذُكر ذلك في كتاب ستوكويل «البحث عن الأعداء».

يرى المتهمون الى الإجراءات الإدارية البسيطة على أنها غامضة وشريرة. يدّعي فريق التحقيق كارتر روك خطاً، مقتل أكثر من أحد عشر ألفاً من المعتقلين تحت تأثير الضرب والتعذيب. ومن ثمّ يعمدون الى طرح السؤال التالي: لمَ تقوم الحكومة السورية بتصوير وتوثيق أولئك الذين تعمد إلى قتلهم؟ يفترض التقرير أن هذا كان يحدث لإثبات تنفيذ الأوامر بالقتل.

أما التفسير الآخر الذي يبرّر تصوير هذه الجثث، فيأتي باعتباره جزءاً روتينياً من إجراءات المستشفى او المشرحة الطبيعية ، من اجل الإبقاء على ملف توثيقيّ للقتلى الذين تلقوا العلاج في المستشفى. وينسحب الأمر عينه على نظام ترقيم الأجساد. ويقترح تقرير كارتر روك سيطرة بعض الغموض، وربما الإشارات الشريرة على نظام وضع العلامات المشفّرة. لكن، من المؤكد أن جميع المشارح بحاجة الى وجود نظام للعنونة وتحديد الهوية.

التلاعب بالصور. حصل تلاعبٌ في الصور في موقع SAFMCD . تغطي بطاقة المعلومات والهوية بعض الأمور، وتحجب البعض الآخر. لا بدّ أن هذا الأمر قد استغرق وقتاً طويلاً مع وجود الآلاف من الصور. ومقولة قيامهم بـ «حماية الهوية»، لا يعتبر دقيقاً، إذ إن وجوه الموتى تبدو واضحة. إذاً، ما هذا الذي يخفونه؟

صور كاتالوج مكرّرة والكثير من الأخطاء. من السهل على مراقب هذه الصور، العثور على العديد من الأخطاء والحالات الشاذّة الهادفة الى التسويق لموقع SAFMCD . فعلى سبيل المثال، تظهر صور بعض الجثث مرتين إنما بوضعيات مختلفة، وكذلك أرقام وتواريخ مختلفة. وانطلاقاً من هذا، قام الباحث آدم لارسون بإلقاء «نظرة عن كثب» على هذا الموقع، غائصاً بالتفاصيل ليكشف عن المزيد من الأخطاء الجدّية والدقيقة في نماذج الصور المنشورة على الموقع.

اكذب اكذب اكذب.. بلا تمحيص!

ومع توفر توقعات قليلة، قبلت وسائل الإعلام الغربية هذه القصة وروّجت لها بقوة، ومن دون تمحيص.

وُصف تقرير كارتر روك بـ «السرّي»، غير أنه ما لبث أن نُشر عبر أثير قناة الـ CNN ، الغارديان واللوموند. وسرعان ما قامت المراسلة كريستيان أمانبور، بالإمساك بتلابيب القصة، مجرية مقابلات مع ثلاثة من أعضاء فريق التحقيق، وناشرة للقصة تحت عنوان «حصريّ: صورٌ سورية شنيعة». وما لبث أن استُبدِلت هذه الصحافيّة منعاً لطرح مجموعة من الأسئلة قد تؤدّي الى كشف الحقيقة. ويقول دايفيد كراين، ضمن هذا الإطار: «نمتلك دليلاً دامغاً». أما ديزموند دي سيلفا، فقد «شبّه هذه الصور بتلك التي التُقطت للناجين من المحرقة».

وقد عنونت الغارديان تقريرها بما يلي: «يظهر هذا التقرير عن النظام السوري الدليل الحسيّ على قتل المعتقلين على «نطاق صناعيّ»، بالإضافة الى عنوان فرعيّ يؤكد أن أحد كبار الضباط المناهضين للحرب يشير الى أنّ هذه الجرائم هي جرائم حرب، وتوفر «دليلاً واضحاً على القتل الممنهج لأكثر من 11000 معتقل».

واحدٌ من التقارير القليلة جداً، والمتشككة، جاء على لسان دان ميرفي في صحيفة Christian Science Monitor . يردّد ميرفي الاتهامات المعيارية حول سورية، غير أنه ذهب بعيداً للقول، «إن التقرير نفسه يقترب من المصداقية، على قدر ما يريد المرء رؤية التالي: دعاية إعلامية قوية مموّلة من قطر، المعارِضة للنظام، والداعمة للمقاتلين المتمرّدين والذين يرتكبون جرائم حرب من تلقاء أنفسهم.

ولسوء الحظ، فقد جاء هذا التقرير في سياق عدد من التقارير الهامة التي انتشرت في وسائل الإعلام. وفي العام 2012، كتب مراسل الـ Christian Science Monitor جوناثان يتسل مقالة يصف فيها الخداع الإعلامي والتضليل الواضح المُمارس في الحرب السورية. وقد حملت مقالته هذه العنوان «يؤيد معظم السوريين الرئيس الأسد، وهذا ما لن تعرفه مطلقاً من وسائل الإعلام الغربية». وقد استمرّت هذه الحملة المضلّلة تتصاعد من دون هوادة. وضمن هذا السياق، تمّ تسليم تقرير كارتر روك، ليُقبل على أوسع نطاق من دون أدنى محاولة للتمحيص والمساءلة والتحقيق.

استعمل السياسيون قصة «القيصر» للضغط من أجل المزيد من العدائية من قبل الولايات المتحدة / الناتو.

سارع السياسيون المؤيدون للتدخل الأميركيّ بهدف «تغيير النظام» في سورية، الى تقبّل قصة «القيصر»، بل والحثّ على نشرها وترويجها. فقد استعملوها لتشويه صورة حكومة الأسد، والضغط على الولايات المتحدة من أجل منع حدوث «محرقة»، أو «مجزرة رواندية» أو «كمبوديا» أخرى، على حدّ تعبيرهم.

وعندما عُرضت صور القيصر في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، قال رئيس المجلس إد رويس: «لقد حان الوقت أخيراً أن يتعاون العالم على إيجاد منطقة آمنة في شمال سورية». أما كبير الديمقراطيين في لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس ويُدعى إيليوت إنغل، فكان قد ذكر في تشرين الثاني عام 2015 ما مفاده أن صور «القيصر» تلك قد أوضحت لنا بالتفصيل المملّ – التعذيب الممنهج الذي يمارسه الأسد ضدّ شعبه. كما ذهب أنغل بعيداً حدّ المطالبة بالسماح باستخدام القوة العسكرية ضدّ هذا النظام.

أما النائب آدم كيزينغر، وهو الآخر أيضاً من دعاة العدوان على سورية، قال خلال حفلٍ أُقيم في متحف الهولوكوست في تموز عام 2015: «إذا ما أردنا تدمير داعش، فعلينا أولاً تدمير حاضنته، أي بشار الأسد».

تضاعفت حدّة السخرية والنفاق منذ لقاء النائب الديمقراطي كيزينغر مع زعيم المعارضة أبو قتادة المريحي العقيدي الحليف الرئيسي لتنظيم داعش. وعلى النقيض من مزاعم كيزينغر الكاذبة، فإنه من المعروف أن المملكة العربية السعودية هي المموّل الأول للفكر الداعشي الإرهابي ولأسلحة مقاتليه، فضلاً عن الجزء الكبير من ثروته التي يحققها مؤخراً من مبيعات النفط عبر تركيا. قاتل الجيش السوري بشراسة ضدّ تنظيم داعش الإرهابي، ربح بعض المعارك وخسر أخرى، تضمّنت مشاهد مريعة لجزّ الرؤوس مارسها التنظيم ببشاعة.

انحياز منظمات الحقوق إلى اللاحقوقي

انحياز تقييم منظمة حقوق الإنسان HRW. نشطت منظمة حقوق الإنسان HRW كثيراً في جميع أنحاء سورية، وتحديداً بعد الهجوم الكيميائي الذي طال دمشق في آب عام 2013، سارعت المنظمة الى كتابة تقرير مفاده أنه استناداً الى تحليل اتجاهات القذائف الواردة، فإن مصدر صواريخ السارين لا بدّ أن يكون من داخل الأراضي السورية. ولم تلبث التحقيقات في وقت لاحق أن أثبتت، وعلى لسان المحقق الصحافي الجدير بالاحترام روبرت بيري، أنها ليست أكثر من مجرد «كومة خردة من الأدلّة السيئة».

جاء افتراض منظمة حقوق الإنسان HRW حول إطلاق السلاح الكيميائي من صواريخ بعيدة المسافة خاطئاً. فضلاً عن أن دقة تحديد اتجاه الصواريخ من علبته المثبتة في الأرض، يحتمل الخطأ بنسبة 1 . وعلى الرغم من ذلك، فإن HRW قد أربكت نفسها جراء هذا التحليل الذي يلقي اللوم بالكامل على حكومة الأسد. كذلك، فإن مدير المنظمة كين روث أشار علناً الى عدم الرضا عن اتفاقية إزالة الأسلحة الكيماوية السورية. وكان روث يرمز الى أملٍ بشنّ هجوم «رمزيّ» على القوات الحكومية السورية.

أما بالنسبة الى ادّعاءات «القيصر»، فيبدو أن منظمة HRW ليست المنظمة غير الحكومية الوحيدة التي تلقت هذه الحزمة الكاملة من ملفّات الصور من صاحبها. ويُحسب لهيومان رايتس واتش اعترافها بأن ما يقرب من نصف الصور لا تظهر ما استمرّت الأطراف تدّعيه على مدى عامين: ظهور الجنود القتلى السوريين وعناصر الميليشيات جنباً الى جنب في مشاهد من مسرح الجرائم، وتفجير السيارات وغيرها وغيرها. غير أن تحيّز المنظمة يُظهر بوضوح تناقض الطريقة التي تُعالج بها هذه المسألة. فهم يقولون، «إن هذا التقرير يرتكز على القتلى أثناء الاعتقال. ومع ذلك، فهناك نماذج أخرى لصور مختلفة تتمتع بالأهمية عينها. ومن وجهة نظر الأدلّة، فإنها تعزّز مصداقية ادّعاءات القيصر حول دوره كمصوّر للطب الشرعي لقوات الأمن السورية، أو على الأقلّ مع شخص يستطيعون من خلاله الحصول على جميع هذه الوثائق». تقرير HRW ص. 31 . ويبدو أن هذا كمثل قولنا إنه إذا فكر أحدهم تقديم نصف الحقيقة لك، فإن ذلك يبرهن على صدقيته.

تدحض هذه الملفات تأكيد أن جميع هذه الصور تظهر الناس الذين تعرّضوا للتعذيب والقتل. تشير هذه الصور الى مجموعة واسعة من القتلى، سواء من الجنود السوريين أو الميليشيات السورية الى مقاتلي المعارضة الى المدنيين العالقين في مناطق النزاع الى القتل الممنهج في المستشفى الحكومي. قد توجد ايضاً بعض الصور للقتلى الذين قضوا في المعتقل بسبب التعذيب، أو أنهم أعدموا هكذا ببساطة. ونحن ندرك جيداً أن هذا قد حدث في مراكز المعتقلات العراقية في ظلّ الاحتلال الأميركي. تحدث الكثير من الأشياء القبيحة والبشعة في أوقات الحرب. غير أن الحقائق تشير بقوة الى أن «القيصر» قد أقام حسابات غير صحيحة أو مبالغاً بها أحياناً.

إنه لمن الصادم للعقول ألا يتضمن تقرير منظمة حقوق الإنسان اعترافاً بظروف الحرب في سورية.

ما من اعتراف بأن الحكومة والجيش العربي السوري كان يتعرّض للهجوم من قبل عشرات الآلاف من المقاتلين المسلّحين والمموّلين علناً وبدعم العديد من أغنى دول العالم.

ما من تلميح أبداً لوقوع خسائر فادحة في الأرواح التي مُني بها الجيش السوري وأنصاره في البلاد. تشير التقديرات الحالية الى أنه بين 80000 الى 120000 من الجنود السوريين، الميليشيات والحلفاء قتلوا في الصراع، بين عامي 2011-2013، وذلك خلال فترة ظهور صور «القيصر»، وتشير التقديرات أيضاً الى أن أكثر من 52000 ألف جندي سوري وعناصر ميليشيات ومدنيين لقوا حتفهم مقابل 29000 ألف من القوات المناهضة.

تمكّنت منظمة هيومان رايتس ووتش من الوصول الى المجموعة الكاملة من صور القتلى في الصراع، بمن فيهم عناصر من الجيش السوري وعناصر الميليشيات والمدنيين. فلمَ لم يسرد هذه القصة أحد من الجنود السوريين وقوى الأمن؟ لمَ لم يُظهر أحدهم صورة أحد هؤلاء الضحايا؟

وعلى العكس من ذلك، تظهر صور «القيصر» تظهر أن معظم الضحايا قد لقوا حتفهم بطرق مختلفة في النزاعات المسلّحة. من الواضح إذاً، أن هذه التأكيدات منحازة وغير دقيقة.

الاتهامات القانونية منحازة وتتجاهل جريمة العدوان العظمى. أعطى الصحافي في مجلة Christian Science Monitor دان ميرفي إنذاراً تحذيرياً في مقالة له عن تقرير شركة كارتر روك، وما نشرته حول قصة «القيصر». وفي ما يتعامل العديد من الصحافيين مع النيابة العامة من دون مهنية ومن دون مراعاة لأهمية التمحيص في نشر الأخبار، يقول، «إن هذه المؤسسة لم تتعاطَ بمصداقية مع اتهامات جرائم الحرب، وليست ضامنة لمصداقية هذه المسألة. ولْنأخذ بعين الاعتبار ادّعاءات لويس مورينو أوكامبو السخيفة عن الفياغرا وعمليات الاغتصاب في ليبيا معمّر القذافي عام 2011. يدّعي المروّجون لجرائم الحرب، بما لا يثير دهشتنا، الانحياز والرغبة في تعزيز بعض القضايا ضدّ أشخاص يُعتبرون مجرمي حرب كمثل الأسد أو القذافي، حيث يُفترض أن نتعامل معهم بحذر شديد. كما أنهم كثيراً ما يُفضّلون، كطبقة من البشر، التدخلات الإنسانية».

وفي المقابل، هناك أدلّة واضحة ودامغة على أن «جرائم ضدّ السلام» قد ارتُكبت في سورية. وبات معروفاً للجميع هوية الجهات المموّلة لـ «المعارضة المسلّحة» في سورية، والمدعومة من الحكومات الخارجية بما لا يعدّ ولا يُحصى. ويتلقى العديد من المقاتلين سواء السوريون أو الأجانب رواتب من عدد من مصادر القوى الخارجية. تماماً، كما حدث مع «الكونترا» في نيكاراغوا إبان الثمانينيات، إن استخدام هذه الجيوش بالوكالة يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي العرفي.

إنه ايضاً انتهاكٌ لميثاق الأمم المتحدة الذي يقول: «يمتنع جميع أعضاء الهيئة في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضدّ سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أيّ أمر آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة».

لطالما كانت حكومة قطر داعماً رئيساً للمرتزقة من المتعصبين الذين يهاجمون الدولة السورية ذات السيادة. واستناداً الى هذه الحقيقة، أليس من السخرية أن نلقيَ بالاً لاتهامات القانونيين القطريين للحكومة السورية بارتكابها «جرائم ضدّ الإنسانية»؟

ألم يحِن الوقت بعد للأمم المتحدة أن تقوم بإصلاحاتها المنتظرة كي تتمكن من البدء بتحقيق أهدافها؟ لا شكّ في أن هذا سيتطلّب تنفيذ نصّ ميثاق الأمم المتحدة والامتثال لنصوص القانون الدولي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى