مي الأيوبيّ وأنطوان بطرس.. كوكبان شهبان في عتمتنا

هاني الحلبي

هي مناورات الداهية. ذاك ما يسمّونه الموت. لكنّي أسمّيه الحضور بالغياب!

لا شك في أن عباقرة التخطيط الاستراتيجي لفتتهم براعة السيّد الموت في اقتناص الفرص، وفي تحقيقه نجاحات جلّى.

حيث يرجوه الحطّاب أن يأتيه عاجلاً بخفّة ريح قلوع، يتباطأ دلعاً عليه، وإذ يحضر ينظر إليه من خلف عينيه الغائرتين: أما زلت يا بني تعباً.. ها أنا وصلتك!

لكنه لا ينتظر رجاء التعبين. بل عادة ما ينقضّ بلا مؤشرات كنسرٍ من علوّ شاهق على طفل رضيع، يتأبّطأه ويسحب به إلى ملكوته الغامض.

كم يجعلنا نركّز في هول ما يفعل عندما يخطف صديقاً، فإذا به ينقضّ على من هم أقرب من الأصدقاء!

كم من المرضى يقاتلون، ليؤجلوا لقاءه بسبب أو بلا سبب!

كم من اليائسين يظنّونه على أهبّة انتظار بموازاة الطابق الخمسين إن رموا بأنفسهم من الطابق التسعين، فيخفّف ذهول الهبوط السينمائي!

لكنْ.. قامتان قوميّتان لم تنتظراه، وإن أصابهما مرضٌ ما، فإن المرضَ ليس شرطاً للموت!

الأربعاء الماضي، ذبلت قصيدتنا الشاعرة مي الأيوبي قبيل أول آذار، لم تُسعفْها روحها بعدُ للصمود لتحتفي بعيد النور والولادة حين يطلق صيحته فينا للقيامة. فننفض عنا غبار كسل الأجساد وكلس الأرواح ونقوم في ثالثنا ندحرج صخر الدهور ونشعّ عزماً في ملكوته القوميّ.

الخميس الماضي، انطفأت شمعةُ الباحث القومي الكبير أنطوان بطرس، واستراح قلمه من عناء عمر بعد كفاح مرّ ومنير. ولكن مجد أنطوان لا يغور في نسيان المؤمنين قطّ، فهو مَن قدّم سِفرين خالدَين، أحدهما «أنطون سعاده من التأسيس إلى الشهادة 1932-1949»، وهو بحق موسوعة كبرى موثّقة ودقيقة جداً أضاءت كثيراً مما كان مسكوتاً عنه من جهاد الزعيم في جلجلة التأسيس حتى استشهاده الفريد.

وقد نعى نقيبا الصحافة والمحرّرين الباحث الصحافي انطوان بطرس. فقال النقيب الياس عون: «بفقدك خسرنا صحافياً لامعاً واكب التطوّر الإعلامي والصحافي وكاتباً وباحثاً عالج مواضيع أغنت الصحافة اللبنانية والعربية… فكان الوطن وحريتُه هاجسَك.. ولن ننساك والتاريخ سيذكرك أنك كنتَ أولَ من كتب مقالاً عن الكومبيوتر العام 1964 وأول من عمل في الصحافة اللبنانية المعاصرة وكنتَ من الروّاد الأوائل الذين عمّموا ثورة المعلومات باللغة العربية. عزيزي أنطوان أمثالك نادرون. نَمْ قرير العين».

ومهما قيل في فقدان مَي وانطوان قليل!

لكن العزاء الحقيقي هو أنّهما في مداميك العمارة البهية التي أعطياها من قلميهما وعطاءيهما ووجدانيهما الجميل والخالد.

شاعرة ألواح سومر، ومؤلف السفر العظيم انطون سعاده.. ستبقيان الزاوية المتينة في عمارة حياتنا الفكرية والثقافية..

إليكِ يا مَيْ ستبقى أناشيدنا توقّع دقات القلوب وخطى الجنود ويغنّي الأطقال دقات قلبك.

وإليكَ يا أنطوان يحجّ الباحثون عبر الأجيال القادمة للاقتداء بنهج سبر الحقيقة، وحمل راية النور.

ويبقى المعنى كلّه، في فهم قيمة الحياة وجدل الموت في ما حفرَهُ سعاده حقيقةً:

«قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود».

باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com

والسوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى