كرم: لم تمُتْ لأنّها إبنة الحياة .. نذرت نفسها وكلّ ما فيها لتعبّر عن سعاده أينما حلّت فتحمله إلى الأجيال فكراً نقيّاً وإيماناً بأمّة وبوطن عزيزَين

شيع الحزب السوري القومي الاجتماعي وأهالي الكورة والجوار الأديبة والشاعرة القومية الدكتورة مي الأيوبي، بمأتم مهيب شارك فيه عدد من المسؤولين المركزيين في الحزب وفاعليات وشخصيات ووفود حزبية وشعبية.

انطلق موكب التشييع، من أمام مستشفى الكورة، يتقدمه حملة الأعلام الحزبية والأكاليل، وعائلة الراحلة وإلى جانبها منفذ عام الكورة الدكتور جورج برجي وأعضاء هيئة المنفذية وأعضاء المجلس القومي وجموع من القوميين قدموا من طرابلس والبترون وبيروت ومن مختلف القرى والبلدات إضافة إلى حشد كبير من الأهل والأصدقاء.

توقف الموكب بداية في بلدة عفصديق أمام منزل الراحلة حيث رفعت اللافتات التي حملت كلمات العزاء، حيث حمل النعش ملفوفاً بعلم الحزب على الأكف، وأدى االقوميون تحية الوداع.

ثم توجه الموكب إلى مسقط رأسها في بلدة النّخلة -الكورة، التي غصت بالمشيعين. وقد أمّ الصلاة إمام جامع صلاح الدين الأيوبي في البلدة الشيخ هارون الأيوبي الذي ألقى كلمة معبّرة، تحدّث فيها عن مزايا الراحلة معتبراً أن رحيلها خسارة للكورة ولكل لبنان، لما كانت تمثّله من قيمة على المستوى الأدبي والشعري والمناقبي.

بعد ذلك قدّم عضو المجلس القومي سايد النكت الخطباء بكلمات تعبّر عن القيمة الأدبية والقومية التي خسرناها بوفاة الدكتورة مي، وممّا جاء فيها:

«هي مي، بسمة صاغها الضّوء، لضياء يبقى،

هي مي سلسبيلٌ، غديرٌ، ولا أنقى،

هي مي، نبتة السماء وخصب الأرض الأنقى،

هي مي زوبعة حمراء للعلى ترقى…»

كما ألقى قصيدة من قصائد الراحلة.

ثمّ كانت قصائد رثاء وكلمات وداع، لكل من: الشاعرة د. يسرى بيطار، المهندس أمين الأيوبي والدكتور عاطف عطية.

وألقى كلمة العائلة شقيق الفقيدة عامر الأيوبي، فكانت موجزة ونابعة من القلب، عبّر فيها عن حزن صادق على هذه الخسارة، قبل أن يشكر الحاضرين على محبّتهم الكبيرة وعلى مشاركتهم وتعازيهم، وختم بعبارة من اللغة الأشورية السّورية توجّه بها إلى أخته ورفيقته قائلاً: «السلام معك يا مي».

كلمة الحزب

وألقى ناظر الاذاعة في منفذية الكورة د. هنيبعل كرم كلمة الحزب السوري القومي الاجتماعي وجاء فيها:

«مَن يودّع مَن؟ ومَن يستقبل مَن؟ أيودّع الشعر أميرة الشعر؟ الأميرة التي انبسط الشعر على راحتيها دُرر قوافٍ لحبّ الحياة؟ أم تودّع الوردة تراباً عزيزاً تعود إليه لتسقي حقلاً للعطاء من جديد؟! وحدَها الأرض، الأرض التي غلت في قلب مَي، وحدها فرحة بهذا القربان الذي ستحتضنه في جوفها الغض، قدرٌ لا بدّ منه لتكتمل دورة الحياة، كما كان دوماً في الأساطير، مع فارق وحيد هو أنّ بعض الأجساد تأتي من التراب لتعود إليه، لا تراباً، بل قرباناً يعيد شقائق النعمان إلى الحياة مع كلّ موسم جديد، وفي العود انتصار للحياة على الموت، لأنّ الكلمة المغروسة في التراب تنبت أجيال حنطة للحياة لا للموت… هكذا فعل قدموس، وهكذا فعل أدونيس، وهكذا فعلت سناء وهكذا تفعل مي وكلّ من آمن بعقيدة ترفع التراب إنساناً حقيقياً خيّراً، بزوبعةٍ إلى السماء!

العودة الى الجذور

وأشار كرم إلى حكاية الوداع، بل حكاية العودة إلى الجذور: اليوم تبدأ الحكاية، بالعودة إلى جذع النخلة، إلى صخرة صامدة هناك، إلى روح الكبير الرفيق وجيه الأيوبي، نودّع مي؟ وكيف تودَّع وهي من عائلة الرفقاء والشهداء والقادة والشعراء والأنقياء والأتقياء، منبع الرجولة ومنبع التضحية ومنبع الشهامة ومنبع الإباء والوفاء والكبرياء ووقفاتِ العزّ!!

تعود مي إلى النخلة، مسقط رأسها، إلى نخلة العلم والعلماء والصامدين، نخلة العزّ فنتذكّر أنّ الحياة في جزء منها قدر يأتي بنا ويأخذنا، وفي جزء آخر أناس يصنعون أقدارهم حياة وعطاءً وكرامة وشرفاً وقيماً وحقاً وخيراً وجمالاً لا يزول!

الانتماء.. والقدوة والمثال

انتمت الرفيقة مي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في أوائل السبعينيات، وكانت قدوةً ومثالاً ورأس حربة في حركة النهضة وفي الصراع الفكري والأدبي الذي دعا إليه سعاده.. الصراع بين العتيق والجديد، بين النظام والفوضى، بن الحياة العزيزة الأبيّة وبين ذلّ العيش، بين الدولة الضعيفة والمجتمع المشرذم بأمراض الطائفية وعلل السياسة، بين الأمّة الناهضة الواعية التي تختار دولتها لتكون على قدر طموحات الأمّة لا على قدر محاصصات بائسة. كانت مي ورفقاؤها رأس حربة في صراع الوجود الجديد نحو الأفضل، ولأنّها اختارت الصراع فإنّها لم تمت! لم تمُتْ لأنها ابنة الحياة، ولأنّ الحياة تليق بمي الأيوبي. ودّعتنا بحرقة وبغصّة عنيفتين، فنحن في الحزب نقسم يوم ننتمي إلى الحياة ألّا نموت، ولا أيّ واحد منّا، ميتةً عادية!

نُقسم في وطن معذّب مخرّب محتلّ في أجزاء منه، أن نموت واقفين في ساح القتال وساحِ العطاء وساحِ الصراع ليحيا هذا الوطن، كما يجب أن يحيا، سيّداً حرّاً مستقلّاً..

نودّع مي، وفي قلوبنا حزن كبير على فراق رفيقة غالية مميّزة في نفوسنا غيظ كبير ايضاً، لأننا نخسر طاقات هذه الأمّة وشبابها وأطفالها، إمّا بحروب همجيّة بربريّة إرهابيّة فُرضت علينا، وإمّا بأمراض تأكلنا يومياً بسبب ارتفاع نسب التلوّث الخطير الناشئ أساساً من المصانع والشركات والكسّارات التي تجبل سمومَها وأتربتها في رئة الكبير والصغير، في الحروب المفروضة لنا كلام، وأمّا في ما نعيشه هنا لقد آن الأوان لوضع حدّ لكلّ هذه الجرائم الموصوفة، والمشاريع التي تقضم تلالنا وتشوّه معالم بيئتنا الجميلة.

نحن لا نجزم أنّ سبب وفاة الرفيقة مي والمئاتِ من أهلنا ورفقائنا في الكورة، هو شركات الترابة والإسمنت والمعامل الموبوءة المنتشرة هنا وهناك، لكنّنا نجزم بأنّ تشوّهاً كبيراً في قرانا وطبيعتنا وفي صحتنا، مردّه بلا شكّ إلى تلك المصانع والشركات. لذلك، آنَ الأوان لوضع حدّ لتجاوزات خطيرة، عبر القانون أولاً لتبرئة ذمّتنا، وبتحرّكات شعبيّة واعية يجب أن تكون فاعلة ومسموعة.

مواجهة التلوث

وإذ تطرّق إلى ارتفاع نسب التلوّث بسبب مصانع وشركات الترابة وغيرها التي تتحمل جزءاً من المسؤولية ملوحاً بمقاضاتها وبتحركات شعبية واسعة، قال: لقد بدأت منفذية الكورة في الحزب السوري القومي الاجتماعي بتحرّك جدّي للحدّ من هذه الآفات. إنّ إثارة هذه المسألة الحيوية في هذه المناسبة الأليمة، يأتي من كوننا نشهد في السنوات العشر الأخيرة أنّه ما مِن رفيق أو صديق أو مواطن رثيناه، إلّا وتوفّي بسرطان أو بمرض رئويّ… من المجدل إلى بزيزا إلى أميون وكفر حزير وعفصديق وفيع وبترومين… إلى النخلة.. إلى أنفة، مروراً بقرى وبلدات الكورة كلّها وبنسب متفاوتة.

أضاف: الموضوع لا علاقة له بتحالفات انتخابيّة ولا بأوراق ضغط سياسي، الموضوع واضح وبسيط، مطلب حيويّ يعنينا كلّنا على اختلاف توجّهاتنا، وينبغي ألّا يُستغلّ لا لمأرب ولا في زواريب وحسابات وضيعة.

كما أنّنا في هذا الإطار، نحذّر، وقد تبادر إلى مسامعنا أنّ بعض البلديات والأندية والجمعيات تقبل من شركات الترابة والإسمنت رشىً بملايين الدولارات. إنّنا نحذّر ونذكّر بأنّنا في معرض الحديث عن صحة الراشي والمرتشي، ولو كان هذا الأمر صحيحاً وثبَتَ جليّاً بالشواهد والأرقام، فنحن أمام مسؤولية تسمية هؤلاء المجرمين، كما أنّ الدولة هي المسؤول المباشر عن جرّهم وزجّهم في السجون. ونتمنّى على المعنيّين في الدولة أن ينتبهوا، وأن يأخذوا هذا الأمر على محمل الجدّ، لأنّنا نسمع أيضاً أنّ الرشوة في ما يتعلّق بهذا الملف تطلّ براسها من بعض المكاتب الحكومية.

وتوجّه بوجدانية إلى الرفيقة مي قائلاً: إلى الرفيقة مي، هذه الشاعرة الجسورة المقدامة التي ملأت الدنيا بصخب الحياة في روحها، وأشعلت المنابر التي اهتزّت تحت قدميها وعنفوانها وجرأتها الأدبيّة، وهي الرفيقة التي نذرت نفسها وكلّ ما فيها لتعبّر عن سعاده أينما حلّت، فتحمله إلى الأجيال فكراً نقيّاً وإيماناً بأمّة وبوطن عزيزَين، لمَي الرفيقة التي اعتزّت بحزبها واعتزّ حزبها بها، والمربّية الفاضلة، والنبع الذي نهل من رقراق مائه كل من عرفها، لمي الشغوفة بحبّ سورية وحلمت بها أمّة رائدة، نقول: إنّ هذه الأمّة ستنتصر رغم الإرهاب والفوضى والسياسات التي لا تصل بنا إلّا للخراب، ستنتصر على البؤس المعشّش في كثير من النفوس والعقول، ستنتصر على الرّغم من الأثمان الباهظة التي تُدفع اليوم، وعلى الرّغم من الأصوات المفرّقة التي تصدح فيها، ستنتصر لأنّ أمّة نزفت واستشهدت وقامت آلاف المرّات هي أمّة لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس. ولن يستطيع أحد في العالم، على الرّغم من الكبوات والعثرات كلّها، أن يكتب القبر مكاناً لها تحت الشمس.

ارقدي بسلام رفيقتي الحلوة، ارقدي بسلام أيّتها الأميرة النائمة، ارقدي بسلام تستحقّه روحك الطيّبة الخيّرة التي لم تعرف إلّا الخير والحب والعطاء.

وختم معزياً «بِاسم قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبِاسم منفذية الكورة، أتقدّم من عائلة الرفيقة مي، من الرفقاء: عامر وكنعان وعيسى وأحمد وغادة وندى، وصهريها الأمينَين ميشال الحاج ورضا الجوهري، إلى عمّها السيد عارف الأيوبي، وإلى عوائلهم الكريمة والرفقاء عائلة المرحوم الأمين فوزي مرعي، والأقرباء والأصدقاء، وإلى أهلنا وأحبائنا وأصدقائنا ورفقائنا في النخلة، هذه البلدة العزيزة على قلوبنا، نتقدّم منكم جميعاً بأصدق آيات المحبّة والعزاء، الخلود للّذين فرضت نفوسهم حقيقتها على هذا الوجود، الخلود للشهداء الأبرار. والبقاء للأمة».وقبل التوجّه إلى القاعة لتأدية واجب العزاء أدّى أشقاء الراحلة والحاضرون ومجموعة من نسور الزوبعة، تحيّة الوداع للرفيقة مي وهي توارى الثّرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى