هل يؤسّس الحزب المصري القومي الاجتماعي؟

طارق الأحمد

لم تكن دعوة الزعيم أنطون سعاده القومية الاجتماعية التي كانت فلسفة جديدة كاملة استقت من الفلسفات التي سبقتها وواءمت بواقعيتها الطبيعية كلّ ما يناسب التاريخ والواقع السوري القومي الاجتماعي، لم تكن دعوة لسورية الطبيعية فقط وإنما هي دعوة عالمية بامتياز…

إنّ أزمات العالم اليوم وخاصة ذلك العالم الذي يرزح تحت وطأة التقسيم والشرذمة، إنْ كان في أفريقيا كلها أو في آسيا وفي أميركا اللاتينية، أيّ أننا نتحدث عما أطلق عليه الغرب العالم الثالث، يستطيع أن يدرك بأنّ أزمة الوحدة هي إحدى أهمّ الركائز عند الدراسة المنصفة والمعمّقة لبناء أيّ دولة عصرية تتمتع بصفات القوة والإرادة الذاتية.

إنّ الناظر إلى خريطة الدول الأفريقية بالتحديد سوف يدهش لمستوى الشرذمة التي رسمت بها الدول الاستعمارية خرائط تلك الدول، والتي لا يمكن إلا أن تبقيها في حالة تبعية حقيقية للغرب، سواء كان هذا الغرب استعمارياً تقليدياً، أو أنه في حالة تمدّد وتغيّر في طريقة استعماره وطريقة صوغ نظريته الاقتصادية في الهيمنة لأنه يقوم دوماً على سلب مقدرات هذه الدول من خلال هيمنته، ومن خلال نزوعه هو نحو الوحدة التي يقوم فيها بإنشاء التكتلات تلو التكتلات على أساس اقتصادي… ولكنه على أساس اقتصادي قائم على الهيمنة، وبالتالي فإنّ العمود الفقري لسياسته عبر التاريخ الحديث كله قد قام على وضع هذه الدول ضمن حالة الشرذمة وضمن حالة التناحر والتقاتل وما سمّي بالربيع العربي الذي نشهده في هذه السنوات إلا فصلاً جديداً من هذه الفصول.

لذلك فإنّ النظرية القومية الاجتماعية التي أتى بها سعاده هي حقيقة تصلح ليس فقط لسورية الطبيعية وإنما هي تصلح للعالم كله، لأنها تقوم بشكل رئيسي على الحالة الطبيعية التي تمتاز فيها كلّ منطقة بحدّ ذاتها، وهي لا تفرض نمطاً محدّداً يمكن أن يتمّ نسخه من منطقة لأخرى، وإنما تستشرف السمات الطبيعية للمتحد السكاني بمواءمة حقيقية مع الحالة الطبيعية التي يتمتع بها..

من هنا فإنّ الحديث الذي أتى على لسان الزعيم سعاده في ما يتعلق بنظريته لأمم العالم العربي وعندما تحدث عن وادي النيل وسورية الطبيعية والمغرب يمكن الآن أن نشاهد مفاعيل أساسية له تتعلق في ما يعيشه هذا العالم العربي خلال أزمة ما سمّيبـ«الربيع العربي»…

إنّ أخطر المشاهد التي بتنا نشاهدها اليوم هي في تكرار ما يحدث في سورية في باقي المناطق التي تحيط بها… وهذا يدلّ على تشابه الحالة وارتباطها بالنظرية بشكل رئيسي وبأنّ هذا الغرب قد عرف تماماً كيف يقسّم هذه الدول وعرف أيضاً وبعد عشرات السنين من تقسيمه لهذه لدول كيف يحضر لها موجة تلو أخرى من موجات التفتيت… ومن موجات زعزعة الاستقرار وكأننا أمام مايسترو يعيش ألفاً من السنين ويستطيع أن يتحكم بمصير أمم بأكملها من خلال استمرارية مؤسساتية يقوم بها، وهذا ما يلحظه معظم المراقبين ومعظم المتابعين للشأن وما يسمّوه دوماً بأنه نظرية المؤامرة والتي أنا شخصياً أجاهر بوجودها الطبيعي، ولم أكن مضطراً لمواربة الحديث عن وجودها القوي في الإعلام كما فعل الكثيرون، خصوصاً قبل و بعد حدوث موجة «الربيع العربي»…

إنّ الأحداث التي جرت في سيناء والعريش مؤخراً وتتحدث عن تغلغل لتنظيم داعش، والذي هو من اسمه «تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق»، وبدء موجة لتهجير المسيحيين من بيوتهم وأحيائهم التي يسكنوها، تؤشر لعدة ظواهر سوف تأخذ بمصر إلى جملة من الأزمات المستجدة التي لا يعرف كيفيات تطورها.

إنّ دخول تنظيم داعش إلى سيناء يؤشر إلى تمدّد هذا المشروع إلى باقي الدول العربية لمحاصرة مصر من مشرقها ومغربها لوجوده في سيناء وليبيا وينذر بأحداث مصرية متلاحقة تبدأ بالإرهاب ضدّ المسيحيين وضدّ الدولة في آن معاً لتدخل مصر في كماشة وردود فعل وأفعال تسوقها إلى دوامة جديدة لا يعرف منتهاها.

من هنا… ومن واقع ومنطلق الفكر المغيّب منذ بداية القرن الماضي عند تشكيل الأنظمة السياسية في العالم العربي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى بالمرحلة الأولى، ثم التبدّلات التي حدثت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتغيّرات التي حدثت في الموجة الثانية، حيث دخلت تلك الدول بمنظومات حكم نشأت بنتيجة انسحاب أنظمة الاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي بشكل أخصّ، والذي ترك قبل جلائه… تأثيراته الواضحة على النخب الفكرية والسياسية القائمة في تلك الدول وخاصة في مصر وسورية والعراق ولبنان والجزائر كدول جمهورية، ناهيك عن الأنظمة الملكية التي تمتعت بترتيبات أخرى أجرتها تلك الدول الاستعمارية، وبالتالي فقد نشأت علاقات جدلية أحياناً، وصراعية وملتبسة أطواراً كثيرة، بين تلك النخب والأنظمة الناشئة في ما بعد الاستقلال، أدّت إلى سلسلة الانقلابات والتغيّرات السياسية التي حدثت فيها… ثم وانتهاء – بالتقليعة الجديدة – في شكل الانقلاب السياسي، الذي لا يشبه سابقاته باستهداف الحكومات، وإنما ذهب هذه المرة لاقتلاع الدولة من جذور تكوينها كما جاء في ما سمّيبـ«الربيع العربي»…

إنّ مصر بالتحديد تعيش حالة من الفصام السياسي والفكري بين نخبها، وحتى ما تطرحه من شعارات، وبين ما تمارسه من سياسات، وانسحب الأمر على فترة الرئاسات الثلاث السابقة لما بعد عهد الاستقلال وطرح فكرة القومية العربية في مواجهة الفكر الانعزالي الذي نما في عهد أنور السادات ولاقى رواجاً كبيراً في أوساط نفس النخب التي كانت تروّج للفكر القومي العربي أو كثير منها وليس كلها بالطبع.

إنّ البدء بمشروع تهجير المسيحيين من أحيائهم ينذر بالنسبة لنا في سورية بما يشبه ما جرى في العراق والشام عبر آليات الاحتلال الأميركي المباشر للعراق من جهة وتحويل النظام السياسي إلى التركيبة الطائفية التي تنهي إمكانية وجود الدولة المركزية القوية والقادرة، وتجعل البلد عرضة لقوة أصغر فصيل من لون طائفي محدّد، فيستطيع التمدّد وقضم الجزء الأكبر من البلد خلال فترة قصيرة، كما جرى عند احتلال الموصل، ثم التهجير بالقوة الناعمة الأميركية وليس بالاحتلال المباشر كما حدث في سورية، ولكن لنفس الهدف، بحيث يتمّ تسخين الحالة الأمنية والضغط الاقتصادي والمعيشي الكبير وضرب رموز ذات بعد ديني محدّدة، ثم فتح أبواب الهجرة إلى كندا ودول غربية أخرى أمام اللاجئين… والمسيحيين بالتحديد، وبشكل أكثر تيسيراً وهو ما يؤدّي إلى ذلك النزيف المستمرّ… لنجد بعد فترة بأنّ مفعول القوة الناعمة لا يقلّ خطراً عن القوة الخشنة، وأنّ القوة الوحيدة التي استطاعت وتستطيع أن تعاكس حركة القوة الناعمة الأميركية مع موجة «الربيع العربي» في سورية، هي قوة الفكر والتنظيم القومي الاجتماعي الذي استطاع ردّ الهجمة بشكل جزئي أو كلي في مناطق حيوية وهامة فكرياً، وهذا مهمّ بسبب ترسيخ الانتماء القومي، وأمنياً بسبب الانخراط في مشروع الدفاع عن الدولة وما سينجم عنه حتماً من مفاعيل في العمل التنموي والثقافي وغيره…

وبالتالي فإنّ النخب الفكرية والسياسية المصرية مدعوة إلى مراجعة فكرية تقوم فيها بالتعرّف إلى الفكر السوري القومي الاجتماعي وبحث الحالة الصراعية الفكرية الإيجابية التي يمكن أن ينجم عنها مواءمة فكرية لحاجات مصر دون أن تدخل في التجاذب القسري الذي عاشته بين فترتي جمال عبد الناصر التي رفعت شعار القومية العربية وزجّت نفسها في مشاريع كان بعضها نازفاً لأسباب بنيوية، وبين فترة أنور السادات الانعزالية التي لم ترد تصويب عثرات الفترة التي سبقتها بشكل إيجابي بقدر ما أرادت أن تخدم المصالح الاستعمارية من خلال ذلك الطرح المعاكس والذي أدّى إلى كلّ ذلك العماه الفكري المنتشر على امتداد العالم العربي، والذي أدّى بالنتيجة إلى سهولة تسلل ما سمّي بموجة «الربيع العربي»…

فهل نشهد يوماً ولادة الحزب المصري القومي الاجتماعي…؟ ويقوم بفتح الحوار مع حزبنا من أجل تشكيل جبهة عربية واحدة تتصدّى لكلّ موجات التفتيت والتهديد التي تطال دولنا جميعاً كما طرح الزعيم سعاده… من يدري…؟

وكيل عميد الخارجية ـ الشام ـ في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى