«محبس»… القتال بالحبّ في عمق الحقيقة الموجعة

داليدا المولى

الفيلم اللبناني «محبس»، يُعتبر نموذجاً في إمكانية المخرج والسيناريست أن يقدما وجهة نظر جديدة وناجحة لا تفقد الموضوع رونقه وسحره، وأن يعكسا من المعاناة والحزن، فرحاً وتسامحاً في سياق كوميديّ يخرج المُشاهد من عمق الاغتراب الموجود بين الشخصيات.

جمالية الصورة التي قدّمتها المخرجة صوفيا بطرس في الفيلم وواقعية ما يدور بين الشخصيات من الجانب الإنساني أعطى الفيلم بُعداً اجتماعياً رغم ابتعاده عن النظرة السياسية إلى كلّ ما دار ويدور في المنطقة، والتي تشكل محور الإشكالية في القصّة.

قدّم فيلم «محبس» رغم الكوميديا التي تتجول بين مَشاهده، حالة مركّبة ومعقّدة تحوي بين سطورها قدراً كبيراً من النضج والجرأة والقدرة على المواجهة واتخاذ القرار، حتى لو كلّف ذلك مواجهة المجتمع والعائلة والذات في مكان ما.

الشخصيات في الفيلم لم تقلّل شيئاً في التعبير عن معاناتها، بل إن الجانب العاطفي قويّ ويصل إلى المُشاهد اللبناني والسوري على حدّ سواء وهو المستهدف من وراء هذا التجاذب في الكره والحبّ.

اللافت أنّ السيناريو أسقط الخلفية السياسية للأحداث، وسلّط الضوء على طرفَي النزاع من زاوية عائلية أكثر. إلّا أن تطوّر الأحداث كشف عن وعي الشخصيات وعمقها، تلك الشخصيات التي تمرّ أمام المُشاهد إن لجهة طريقة التحدّث والتفاهم أو لجهة مراجعة الذات واحتساب الخطأ والصواب، وأيضاً قبول الذات والتعامل مع مشاكلها وإنصاف الآخرين. وكل ذلك في إطار الحبّ والحقد، ما أضاف تساؤلات تجسيداً لتيّارين يتعاملان مع الإنسان من زاويتين مختلفتين.

روح الفيلم، هي التعاطف الكامل مع الطبيعة الإنسانية المحبّة، والانحياز المطلق إلى فكرة التسامح، والرفض الواضح لأيّ قانون جامد وأحمق يجعل من الإنسان حبيساً لحقد الذاكرة. تنسجم هذه النظرة تماماً مع واقع التفاعل الذي يربط دمشق وبيروت والحبّ المتولّد دائماً بينهما رغم كلّ شيء.

شكّل «محبس» رسماً لقصة يومية، من المستغرب ألا تطرأ في البال، بكل ما فيها من طبيعة التواصل واسع الموجود حقيقةً بين اللبنانيين والسوريين، ولحظة إعتاق الانقسامات وربط ما انقطع. طارحاً السؤال الأهمّ: ماذا لو التقينا على الحبّ في وجه الحقد؟

وفي حين يتمّ التعاطي مع حالات زواج اللبنانيات من السوريين وبالعكس كمحرّمات ضمن مجموعة صغيرة من كلا الطرفين، إنما لا شكّ في أن لوجودها واقعاً يحيا بيننا كل يوم. التفاعل بين دمشق وبيروت، والحلم المنتقّل على جنبات هذا الاتصال الحياتي يمتثل أمامنا في فيلم «محبس»، سالفاً، وحاضراً ومستقبلاً، يُرسم ببساطة وبراءة على صفحات الحبّ الذي يجمع بين «سامر» الدمشقي علي الخليل و«غادة» اللبنانية سيرينا الشامي ، بكل فرح وحزن وجمال وصعوبات هذا الوصل يبقى للقلب الحكم الأخير في هذه العلاقة المنتصرة في النهاية على تركة الماضي بين الجانبين.

في مشهدية جميلة وخفيفة الظلّ تدور كلها خلال يوم واحد، يبدأ «محبس» في حضن بلدة صغيرة في لبنان، على وقع انهماك والدة العروس «تيريز» جوليا قصار بالتحضير لزيارة عريس ابنتها «غادة» للمرة الأولى، للتعرّف إليه وإلى عائلته. في حين يمر سريعاً انهماكها بحزنها على أخيها الذي غادر الحياة نتيجة الأحداث العسكرية بين لبنان والشام، والصلة التي حافظت «تيريز» عليها رغم مرور عشرات السنوات، مشكّلاً بذلك محور عدم تقبّلها أيّ وجود سوريّ، عامّاً كان أو خاصّاً.

في المقلب الآخر عائلة «سامر»، الشاب الدمشقي الناجح فخر أمّه وأبيه. وفي إطار كوميديّ خفيف تبدأ المحادثة بين أمّه نادين الخوري وتُظهر سريعاً أنها تأتي من خلفية ثرية. وأبوه الفنان المتألّق بسام كوسا الذي يعكس حسّاً فكاهياً وعفوية في تصرّفاته، والكلّ يعكس طيبة وصدقاً ومحبة رغم المظاهر التي تعيش الأمّ فيها، وهي غير راضية بدورها عن زواج ابنها بفتاة لبنانية لا ترقى إلى «معايير البيئة الشامية».

هي الحواجز النفسية تظهر بين الحين والحين في إطار كوميديّ دراميّ أجادت صوفيا بطرس المزج بينهما خلال تطوّر قصة الفيلم، وانتقال علاقة الأهل من فصل إلى آخر، وانكشاف الأسرار خلال ساعات قليلة.

يبدأ نهار الخطبة بصدمة والدة «غادة» التي تكنّ البغض لأيّ سوريّ، بصدمتها بـ«سامر» وعدم تقبّلها الزواج، ونسجها مقالب عدّة بهدف التفريق بينه وبين ابنتها. وتعكس شخصية «تيريز» الكثير من الانطباعات في الذاكرة اللبنانية والكثير أيضاً من عدم إمكانية نكران التقارب الهائل بين البلدين إلى جانب ما تتمتع به من حسّ وثقة بنفسها، جعلاها في نهاية الفيلم تترك خاتم زواجها من دون أيّ تداعيات نفسية. لتصل أخيراً وبعد سلسلة من الأحداث إلى قبول واقع الارتباط الموجود فعلاً والتصالح مع ذاكرتها وذاتها.

إذاً، هو الحبّ ما انتصر في زمن التهجير والحرب، والوجه الذي يتطلع بأمل إلى المستقبل ويعزف على الصلة الوطيدة بين الشام ولبنان والتي لا يمكن أن تقطعها الأزمات. هذا ما حاولت صوفيا بطرس أن تتركه على الوجوه وفي المصطلحات المستخدمة وكلّ ما يحيط بهذين المتحابّين.

ويبقى أفضل ما في الفيلم، أنه يمنح مُشاهده أملاً رغم كلّ شيء، ففي حين تزدحم الذاكرة بالموت والتهجير، هناك أرواح محبّة تولد من قلب المأساة، تعيد إلى الوجوده ابتساماتها ورونقها وتطلّعها إلى الحياة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى