زيتوني: العالم لم يعد لعبة شطرنج محصورة بين الأسود والأبيض كما كان خلال الحرب الباردة

نظّمت الندوة الثقافية المركزية في الحزب السوري القومي الاجتماعي، لقاءً مع نائب رئيس الحزب الدكتور وليد زيتوني حول «مقدّمات سايكس ـ بيكو الأوروبية ونتائجها والاستراتيجيات الراهنة».

حضر اللقاء رئيس المجلس الأعلى الوزير السابق محمود عبد الخالق، وعدد من العمد وأعضاء المجلس الأعلى، رئيس الندوة الثقافية الدكتور زهير فيّاض، نائب رئيس الندوة إميل عكرا، إضافة إلى أعضاء الندوة الثقافية وعدد من الطلبة.

فياض

بدأ اللقاء بكلمة لرئيس الندوة الثقافية المركزية العميد الدكتور زهير فياض جاء فيها: سلسلة جديدة من اللقاءات الفكرية في إطار الندوة الثقافية المركزية نبدأها اليوم، نأمل من خلالها أن نحقّق إضافات هامة في سياق القراءات المعمّقة لتطوّرات المرحلة قوميّاً وإقليمياً وعالمياً، على هدي الزعيم سعاده وإرثه الفكريّ النهضويّ العام.

الندوة الثقافية المركزية هي تلك المساحة التي نودّ من خلالها أن نعيد فيها ترتيب أولوياتنا الفكرية لتتلاءم مع ضرورات الوصل الدائم للفكر بحركة الحياة النامية والمتطوّرة، في اتجاهات مختلفة ومتعدّدة السياقات.

فالندوة الثقافية كما أرادها سعاده هي مركز التفكير العقائدي في الحزب. وهي من خلال أبحاثها ونتائج هذه الأبحاث تحقّق المواءمة بين العقيدة والحدث، على قاعدة الأسس والقواعد الأصلية للنظرة القومية الاجتماعية.

زيتوني

بعد ذلك كانت الكلمة لنائب رئيس الحزب الدكتور وليد زيتوني، وممّا جاء فيها:

تأتي الندوة الثقافية هذه السنة لتفتح آفاقاً جديدة في الفكر النهضويّ، خصوصاً بعدما أثبتت الوقائع الحالية راهنيته وصوابية الطروحات الفكرية التي عالجتها هذه النهضة منذ بدايات القرن الماضي.

هذه المحاضرة جزءٌ من كتاب يصدر قريباً، يتناول الظواهر السياسية والاجتماعية والعسكرية التي رُصدت في بلادنا في العصر الحديث. وهو امتداد لمشروع كنت قد بدأت العمل به في كتابي السابق «مقاربات جيوبوليتيكية». كما آمل في أن أستكمل البحث في الجيو ـ استراتيجيات المستهدفة أمَّتنا. مع العلم أنّي سأتطرّق بشكل عام إلى استراتيجيات الدول الكبرى في المرحلة الحالية. «التمييز بين الجيوبولتيك والجيواستراتيجيا».

لم أتّبع المناهج المتعارف عليها «تاريخي، وصفي، تحليلي، وظائفي… إلخ»، إنما حاولت استقاء منهج خاص بالجيوبولتيك استناداً إلى فكر الزعيم سعاده، وسمّيته المنهج المدرحي، والذي يقوم على الأسس التالية:

ـ المجتمع، الوطن، الأمّة، الدولة جسد واحد متكامل.

ـ الأنطولوجيا «ما هو موجود»، والمعيار «وهو ما يجب أن يكون».

ـ الستاتيك والديناميك.

ـ العقل هو الشرع الأعلى الذي يحدّد الأهداف والوسائل.

ضياع الهوية القوميّة

دشّنت الحرب العالمية الأولى مرحلة ضياع الهوية القومية في منطقتنا، باتفاقية احتفالية، سمّتها «سايكس ـ بيكو». اتفاقية وضعتنا على خطّ الاشتباك الاستراتيجي المحدّد بجغرافيا الطوائف والملل والنحل.

غير أن النتائج التي رسمتها الاتفاقية، لم تكن وليدة ساعتها عام 1916، إنّما كان التحضير لها على قدم وساق من أمدية بعيدة زمنياً. ففي لحظة بروز الدولة القومية في القرن التاسع عشر، لم نكن جاهزين مادياً ومعنوياً لتلقّف فكرة التحوّل العالمي الحاصل على المستوى السياسي، وبالتالي لم نتلمّس بعد معنى الهوية القومية ومضمونها للأسباب التالية:

أولاً: وجودنا تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية التي كانت تعاني سكرات الموت نتيجة أوضاعها الاقتصادية المتردّية، وخساراتها العسكرية أمام القوى الاستعمارية آنذاك، وخصوصاً تدمير أسطولها البحري في نافرين عام1826. ثمّ عدم استقرار أوضاعها الداخلية على إثر انقلاب الثلاثي القومي الطوراني كمال أتاتورك، حافظ باشا، جمال باشا على الخلافة العثمانية المتلبسة اللبوس الايديولوجي الديني.

ثانياً: تدخّل الدول الكبرى في المناطق التي تسيطر عليها الخلافة العثمانية تحت عناوين رعاية الأقلّيات الطائفية. ومن خلالها، ركّزت على المستشرقين والدلالين والإرساليات لضرب البنى الجيو ـ ثقافية الموجودة، التي كانت تحتفظ لتاريخه بخصوصياتها القومية.

ثالثاً: كانت المنطقة تعيش حالة اقتصادية مزرية كمحصّلة للجشع الامبراطوري العثماني من جهة، وكنتيجة للهجمة البدوية الصحراوية التي قامت بها قبائل العنزي القادمة من الجزيرة العربية من جهة أخرى، حيث فاقت بهمجيتها واتّساعها ما فعله هولاكو. لقد دمّرت هذه الهجمة سبعة آلاف قرية وبلدة من حلب شمالاً إلى صفد وحيفا ويافا جنوباً، فحرقت جميع المحاصيل الزراعية وقطعت الأشجار ونكّلت بالسكان قتلاً وتهجيراً، تحت الرعاية العثمانية وأنظار القناصل الأوروبيين.

رابعاً: تردّي الوضعين العلمي والثقافي ودخول المنطقة في مرحلة الانحطاط بسبب الممارسات القمعية العثمانية وهجرة الكوادر العلمية، وتغلغل ثقافات غربية متعارضة مع القيم السائدة، لم تستسَغ حينذاك من قبل النخب المتلقّية.

خامساً: تحوّل عصبة الأمم إلى منظمة ضامنة لحقوق الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، على حساب الدول والشعوب التي كانت تحت مظلّة الدول المهزومة. حيث انتقلت هذه الشعوب من استعمار إلى استعمار آخر من دون أن يكون لها أيّ دور في تقرير مصيرها.

تحت مظلّة هذا الواقع، وفي غياب الأطر السياسية والثقافية والاقتصادية المحلّية الناظمة، تمدّدت المشاريع الجيوبولتيكة الإقليمية والدولية لتأمين مصالحها. اشتبكت وتشابكت على أرضنا وعلى حساب مصالحنا، فدخلنا في دوّامة اشتباك دائم ما زال مستمرّاً حتى يومنا هذا، من خلال دوائر ثلاث:

دائرة ذاتية: تختلط فيها قواعد الصراع ما بين الهوية القومية، والهوية الدينية، والهوية المذهبية، والهوية الاتنية، والهوية الاجتماعية مدنية وعشائرية والأنظمة السياسية والاقتصادية، والتشكيلات الكيانية التي أفرزتها «سايكس ـ بيكو».

دائرة إقليمية: تتنازع فيها مشاريع الدول الإقليمية التي بلوّرت هويتها القومية وعملت على أساسها مثل تركيا وإيران، وتلك التي لم تتبلور هويتها وتسعى إلى دور قياديّ إقليميّ «إسرائيل»، ومصر وادي النيل، والسعودية ممثلةً شبه الجزيرة العربية.

دائرة دولية: وقد تدرّج فيها الاشتباك تاريخياً، من صراع بين الامبراطوريات القديمة، ثمّ بعد الحرب الأولى بين الدول الاستعمارية الحليفة الذي أنتج «سايكس ـ بيكو»، مروراً بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق، وصولاً إلى اليوم بين الجيوبولتيك الأميركي المدعوم من أوروبا والحلف الأطلسي، والجيوبولتيك الروسي المتجدّد المدعوم من الصين ودول البركس.

في الواقع، لا يمكن الفصل بشكل كامل بين الدوائر الثلاث إلا لأسباب منهجية، بغية توضيح ما يمكن تسميته بهوامش حرّية الحركة المرسومة بدقّة من قبل الدائرة الكبرى. حيث برزت إشكالية تقدّم نفسها على الشكل التالي: هل الاستعمار هو ما أوجد المتناقضات التي تشملها الدائرة الأولى؟ أم أنّ هذه التناقضات البنيوية هي التي استجلبت الاستعمار إلى بقعة صراعاتها؟ بمعنى آخر «ما الذي جلب على أمّتي هذا الويل؟»، كما قال أنطون سعاده، وأردفه بسؤال آخر «من نحن؟».

هنا تتبادر إلى الذهن، التسميات التي أُطلِقت على هذه المنطقة. من «الشرق الأدنى» إلى «الشرق الأوسط الجديد»، و«الشرق الأوسط الكبير أو الموسّع»، التي إن دلّت على شيء فإنها تدّل على مضمون المشروع الجيوبولتيكي واستهدافاته. هي تسميات جغرافية متعالية تؤكّد على مركزية الغرب وتبعيتنا، وبالتالي ترسم حدودنا استناداً إلى خطوط أمنها القومي بالجيوش الجرّارة والأساطيل المنتشرة في البحار المحيطة، والهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصادية على برّنا. وعليه، استناداً إلى حقائق التاريخ والجغرافية والفكر العلمي الحديث، سنستعيد تعبير «سورية الطبيعية» كَاسم لهذه المنطقة، باعتبار هذا الاسم الأكثر التصاقاً بحضارة المنطقة وثقافتها.

لا شكّ في أنّ الاستعمار بأشكاله كافة، قد ركّز في المرحلة الأولى على تدمير البنى الثقافية الحضارية/الروحية باعتبارها جزءاً من العوامل المتغيّرة في تشكيل الأمّة، ليتسنى له في مرحلة لاحقة، النفاذ من التشرذم النفسيّ والثقافيّ لتقسيم الجغرافيا بشكل يتناسب مع أهدافه أولاً، وثانياً كي يؤمّن هذا التقسيم بقاء الإقليم الجغرافي بعيداً عن إمكانية التفكير باستعادة وحدته.

إنّ «سايكس ـ بيكو»، وهي اتفاق توزيع نفوذ بين قوّتين استعماريتين، لحظت من خلال ترسيمها سورية الطبيعية المسائل التالية:

ـ فصل مناطق الجذب الحضارية ما بين النهرين، بلاد الشام .

ـ إضعاف العمق الاستراتيجي لبنان بعمق أربعين كيلومتراً كذلك فلسطين .

ـ سلخ المناطق الساحلية عن الداخل. مثلاً، رغم اتّساع العراق، فهو لا يملك منفذاً بحرياً يتناسب مع مساحته أربعة كيلومترات على الخليج، الشام 2000 كيلومتر على البحر المتوسط ، رغم أن طول الشواطئ السورية على هذا البحر تبلغ أكثر من 800 كيلومتر.

ـ التحضير من خلال هذا التقسيم لما أصبح واقعاً في ما بعد، دولة يهودية في فلسطين، وسلخ لواء الاسكندرون وكيليكة وصولاً إلى ماردين، وربما دولة كردية في الشمال الشرقي.

ـ التقسيم على الأساس الطائفي.

أفقدت هذه الاتفاقية سورية الطبيعية السيطرة المباشرة على شرق البحر الأبيض المتوسط من خليج الاسكندرون حتى قناة السويس، كما أفقدتها القدرة على التحكّم بالممرّات المائية وحركة التجارة والنقل، وأبعدتها عن موقع قبرص الاستراتيجي، وحجّمت في الوقت نفسه قدرتها الطبيعية على المشاركة بمياه الخليج والبحر الأحمر.

باختصار، وضعت هذه الاتفاقية حدّاً لمعادلة قوة/سيادة التي تتمتع بها عادة الأمم في العالم، وهو ما أفقدها مركزها ودورها الجيوـ سياسي والجيو ـ استراتيجي بعد أن أفقدها دورها الجيو ـ ثقافي الحضاري في العالم. ولم تستطع مذّاك التاريخ أن تكوّن وضعاً يليق بها في مرحلة تنازع الأمم البقاء، بل جعلها في مهبّ مشاريع الآخرين.

يصعب الآن في ظلّ التشرذم الحاصل على مستوى كيانات الأمة في ما بينها وداخل كلّ كيان، وفي ظلّ الحرب الحقيقة الدائرة على أرضها، يصعب وضع تصوّر استراتيجيّ لدور مستقبليّ، من دون تحديد نقطة بداية مستقرّة ونقطة نهاية واضحة المعالم، موزّعة على مراحل تكتيكية زمنية، والعمل بشكل متوازن بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، شرط توفّر الإرادة السياسية، والتي يبدو أنّها بعيدة المنال حالياً، لارتباط النخب المحلية بمشاريع تكتيكية مفصّلة على قياساتها، وعلى حجم طوائفها و«جماهيرها» واثنياتها وعشائرها، وارتباط مشاريعها بالخارج. ويتعذّر، في الوقت نفسه، رسم النقاط المطلوبة للنهوض، من دون قراءة فعلية متأنّية لاستراتيجيات الآخرين الإقليمية والدولية، ومدى تأثيرها ومكامن الضعف والقوة فيها. هنا، تبرز مسألة الإدراك والفهم والتحليل، ثمّ وضع الأولويات والخيارات على مستوى بناء القدرة الذاتية والعوائق الناتجة عن التدخّل الخارجي على قاعدة عقلية بحتة. لأنّ العقل هو الشرع الأعلى، وهو بالتالي يحدّد الغايات والأساليب الواجب اتّباعها للوصول إلى الأهداف المرسومة، شرط مرحلتها والعمل على إقامة التوازن بين الغايات الاستراتيجية والأهداف المرحلية من دون طغيان أو تعارض بين الغايات والأهداف مصحوبة بتوفّر الإرادة السياسية.

تكاد لا توجد طريقة علمية أخرى للخروج من مأزقنا، رغم أنّ العوائق الداخلية كثيرة ومتشعّبة ومعقّدة لدرجة تدفع البعض إلى اليأس. غير أنّ وجود مشروع بنائيّ مستهدف واضح المعالم يبعث على الأمل، ويشحذ الهِمم، خصوصاً أن شعبنا يتمتّع بدينامية عالية، وقدرة أقرب ما تكون إلى المثالية على العمل والمثابرة لإنجاز ما يمكن تصوّره ووضعه موضع التنفيذ.

إنّ العالم لم يعد لعبة شطرنج محصورة بين الأسود والأبيض كما كان خلال الحرب الباردة وبين قطبين أساسيين فقط، بل تحوّل إلى لعبة أخرى، بما يمكن تسميته «المكعّبات البلغارية» ذات الأبعاد والألوان الستة، تلزم لاعبها أن يداخل بين الأبعاد والألوان لتحقيق الانسجام المطلوب والتوازن بين البعد واللون.

يستوجب فهم اللعبة الدائرة بمنطقتنا، الإطلالة على المشروع الأميركي الغربي بالدرجة الأولى، وتحديد ماهية أهدافه، والتحوّلات السياسية والميدانية لمساره كونه المشروع الأساس، والأكثر تجذّراً، كي نستطيع من خلال هذا الفهم النفاذ إلى إدراك المشاريع الأخرى الموازية أو المعارِضة، ليتسنّى لنا في ما بعد تحليل نقاط القوة والضعف فيه وفي مشاريع الآخرين، وبالتالي إيجاد المساحة الممكن للعمل عليها ومن خلالها لتحقيق مكان لمشروعنا.

إنّ الولايات المتحدة الأميركية، التي تبنّت استراتيجية الحفاظ على الدولار، والانصهار المجتمعي الداخلي وذلك من خلال النهب الخارجي وخلق عدوّ دائم، اعتمدت نظرية ألفرِد ماهان في بداية القرن الماضي، والقاضية بتطويق الدولة البحرية للدولة القارية البرّية، ثمّ العمل على إسقاطها من الداخل، وقد نجحت إلى حدّ بعيد في تعاملها مع الاتحاد السوفياتي السابق من خلال تعاظم قدراتها البحرية وإنشائها الأحلاف العسكرية الناتو، أسيان، والحلف المركزي ، وإمساكها بالمفاصل الاقتصادية العالمية، وجرّ القطب السوفياتي إلى سباق التسلّح. بعد هذا النجاح التاريخي، تطلّعت إلى تطويق الصين، فمدّدت حلف شمالي الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية وعزّزت وجودها في جنوب شرق آسيا بالقواعد العسكرية، وذهبت إلى تنظيف المسرح العالمي الوسيط الممتدّ من حدود الصين إلى البحر المتوسّط.

كانت الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تحقيقها، في المسرح الاستراتيجي الوسيط وهو المسرح الذي يشمل منطقتنا، تتلخّص بالبنود التالية:

ـ الحفاظ على أمن «إسرائيل»، وعلى «إسرائيل» كقاعدة عسكرية متقدّمة.

ـ أمن الآبار النفطية وأمن تدفّقها من خلال السيطرة البحرية وحرّية الملاحة التجارية، ومسك المنافذ المطلّة من البحر الأبيض المتوسّط وإليه.

ـ دعم الأنظمة القائمة التي تتبع سياستها للحفاظ على حالة استقرار أمنية وعسكرية تؤمّن موجبات النهب السهل للثروات المحلية.

ـ الوصول إلى حلّ نهائيّ في «الشرق الأوسط» يرسّخ وجود «إسرائيل». وزادت الولايات المتحدة على الركائز الأربع السابقة بعد 11 ايلول 2001 بنداً خامساً وهو محاربة الإرهاب، تماشياً مع قاعدة استراتيجيتها خلق عدوّ خارجي . إلا أنّ الأولويات الأميركية قد تبدّلت منذ عام 2013، فتصدّرتها مسألة محاربة الإرهاب نظراً إلى بروز ما سمّته «الإسلام الراديكالي» على حساب الإسلام المعتدل، والذي أصبح يشكّل خطراً داهماً على مصالحها في المنطقة وحتى في أوروبا والعالم. وهو ما دفعها بالفعل إلى القبول بعقد مؤتمر «جنيف 2»، وتثبيت تحالفها مع دول الإسلام المعتدل. وهو أيضاً ما جعلها بحالة إرباك بعد إزاحة «الأخوان المسلمين» عن الحكم في مصر خلال تحرّك الجيش في 30 حزيران 2013. أما التحوّل الثاني، فيبرز من خلال العمل لعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وقد ظهر موقفها جليّاً في ما يتعلق بالملفّ النووي الإيراني، والاتفاق مع روسيا على تدمير الترسانة الكيماوية السورية. وهو في الواقع ما اعتبرته إنجازاً لها بإبقاء «إسرائيل» متفوّقة عسكرياً لامتلاكها منفردةً السلاح النووي، وبالتالي استقرار المنطقة لضمان تدفّق النفط.

رغم ذلك، تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية بشكل درامتيكي في هذه المنطقة لأسباب عدّة، منها الأزمة الاقتصادية التي طاولتها بدءاً من عام 2008 نتيجة حروبها الخارجية في أفغانستان والعراق، وتكاليف انتشار قوّاتها على امتداد العالم. وربما لسبب جوهري آخر وهو بروز منافسين جدّيين على الساحة العالمية كروسيا والصين والهند وباقي دول البركس. وقد يكون من الأسباب أيضاً، تراجع أهمية هذه المنطقة استراتيجياً لاكتشاف مصادر طاقة ذات أهمية أكبر، وأسواق تجارة عالمية أوسع في آسيا والمحيط الهادئ.

أما القطب الثاني الذي ينافس الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، فهو بالتأكيد متمثل بروسيا الاتحادية، التي استعادت حركتها الاستراتيجية بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم. والاستراتيجية الروسية هي استراتيجية ثابتة كما قلنا سابقاً، وتتلخّص بالوصول إلى المياه الدافئة. وهي استراتيجية لم تتغيّر من عهد القياصرة كاترين الثانية، بطرس الأكبر مروراً بالاتحاد السوفياتي ووصولاً إلى الوقت الحاضر مع الاتحاد الروسي. أما أهمّ الملامح التي تعمل على أساسها روسيا الآن لخدمة استراتيجيتها، فتتلخص بالنقاط التالية:

ـ محاربة القوى التكفيرية لإبعاد شبحها عن الأراضي الروسية وخصوصاً في الشيشان، التي عانت طويلاً من العمليات الإرهابية.

ـ الاحتفاظ بسورية كحليف استراتيجي مطلّ على البحر الأبيض المتوسّط، وخصوصاً قاعدة طرطوس التي تشكّل عصب الأسطول الروسي على هذا البحر بعد فقدان روسيا قواعدها في ليبيا ومصر والجزائر. وهو ما يفسّر وقوفها بقوّة مع سورية على المستويات العسكرية والسياسية والدبلوماسية، لا سيما في مجلس الأمن الدولي.

ـ التواجد وبشكل قويّ خلف الدرع الصاروخية الأميركية الممتدّة من بولندا إلى تركيا مروراً ببلغاريا.

ـ تأمين تدفّق الغاز عبر السيل الجنوبي لشركة «غازبروم» إلى أوروبا، تماماً كالسيل الشمالي الذي يمرّ في أوكرانيا.

تسعى روسيا الآن إلى استعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق ونفوذه، مع تجنّب الوصول إلى سباق تسلّح مع الولايات المتحدة بغية الحفاظ على النموّ المضطرد في اقتصادها. غير أنّ الولايات المتحدة، وبتمويل صهيونيّ، استخدمت قوّتين محلّيتين لزعزعة الوضع الروسي: «الأصولية الإسلامية المتشدّدة»، و«الحركات النازية المتشدّدة» في أوروبا الشرقية، وخصوصاً الجمهوريات السوفياتية السابقة وعلى وجه التحديد أوكرانيا.

أما الاستراتيجيات الإقليمية، ورغم أهمّيتها، فلا تستطيع العزف منفردة خارج دائرة الاشتباك الدوليّ. قد تستفيد كلّ منها من التقاطعات المرحلية بين ما هو إقليمي وما هو دولي، إلّا أنّ حركتها مهما توسّعت، فإنّها تصبّ أساساً في خانة الأقطاب الدولية.

من المهمّ جداً تحليل مقوّمات العمل الإقليميّ، خصوصاً «الإسرائيليّة» والتركيّة والإيرانيّة والعربية، فيما يتعلق بمصر والسعودية وتأثيراتها على سورية الطبيعية. كما أنه من المهمّ قراءة الاستراتيجيات الصينية وتطلّعات الدول الكبرى الأخرى. غير أنّها واقعياً وعملياً، ليست خارج أداء كلّ من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت الراهن.

إن الإطلالة السريعة على المشاريع الجيو ـ بوليتيكية التي تستهدف منطقتنا ودينامياتها، لا تعفينا من الدراسات المتأنّية لكلّ منها. لكنّ الأولوية تبقى في وضع الحجر الأساس للخروج من مأزقنا، وتبنّي رؤية واضحة للنهوض على قاعدة الأسئلة التالية: من نحن؟ أين نحن؟ إلى أين؟ ما هي سبل الوصول؟

المراجع

ـ أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، «الدار العربية للعلوم»، الطبعة الثانية، 2010.

ـ وليد زيتوني، مقاربات جيوبوليتيكية، «دار فكر للأبحاث والنشر»، 2012.

ـ بيار سيليرييه، الجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا، تعريب عاطف علبي، «مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق»، 1993.

ـ ريمون آرون، «الجدل الكبير حول الاستراتيجية الذرّية»، «دار طلاس».

ـ أنطون سعاده، «المحاضرات العشر»، لجنة النشر، 1952.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى