سمير جبّور: «BDS» أشهرت سلاحاً فاجأ المحتلّ وأربك خططه ومشاريعه

حاورته: داليدا المولى

سمير جبّور، الفلسطينيّ المغترب جسداً عن أرضه، والمنغرس روحاً ونضالاً في كلّ شبرٍ من تراب فلسطين، تفتّح وعيُه على أهمية حمل راية المسألة الفلسطينية إلى العالم، وتبيان حقيقة ما يجري في تلك الأرض المنسيّة من اضطهاد للبشر والحجر والتاريخ والمستقبل. جعل من يراعه سلاحه الأمضى في التعبير عن مقاومته، وهو المدافع الشرس عن قيمه إنصافاً للشعب الفلسطيني في وجه التسويق الغربيّ للكيان الصهيوني. من هنا، لا يعود مستغرَباً أن يكون جبّور عضواً فاعلاً في «الحملة العالمية لمقاطعة الاحتلال»، ومهتماً بانتشار عملها. لذا، عمل على نقل ما يدور في الكواليس السياسية والصحافية لكيان العدوّ حول هذه الحركة وبأقلام محلّلين وسياسيين صهاينة، ليكوّن أمام القارئ العربيّ فرصة التعرّف إلى نتيجة الجهد المبذول في هذه الحملة.

كتابه الأخير «الحملة العالمية لمقاطعة الاحتلال من منظور صهيونيّ ويهوديّ»، ليس أول إصدار للباحث سمير جبّور في هذا السياق، مساهمة منه في إغناء المكتبة المقاوِمة، ولكشف أكاذيب الكيان المحتلّ بلغته ووثائقه.

حول بداية حملة المقاطعة «BDS» وما الدوافع التي تحمله إلى العمل في صفوفها، يورد جبّور: في الحقيقة، إن حملة المقاطعة العالمية ضد الاحتلال للأراضي الفلسطينية في عام 1967 لم تأت من فراغ، فقد جاءت بعد نصف قرن تقريباً من الاحتلال العسكري غير القانوني وغير الشرعي والذي لم يكن له مسوّغ في القانون الدولي، ولا مثيل له في التاريخ المعاصر. إنّ الشعب الفلسطيني لا يزال يعاني من أطول احتلال إحلاليّ في التاريخ المعاصر. فقد جرّب هذا الشعب جميع الوسائل للتخلّص من الاحتلال: قرارات ومبادرات أممية ومؤتمرات ومشاريع دولية تطالب «إسرائيل» بإنهاء الاحتلال، وعشرات من جولات المفاوضات المباشرة وغير المباشرة للتوصل إلى حلّ عادل. ناهيك عن انتفاضتين أو ثلاث… وكان السبب الوحيد لفشل هذه المساعي كلّها، رفض جميع الحكومات الصهيونية الاعتراف بوجود احتلال وإنهائه، وتملّصها من الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. وبدلاً من ذلك، واصلت ممارساتها العنصرية ضدّ سكان المناطق المحتلة من سلب للأراضي والاستيلاء على المياه الجوفية لتثبيت ركائز المشروع الاستيطاني. وبالتالي، دأبت على تسريع وتيرة إنشاء المستعمرات اليهودية لخلق أمر واقع على الأرض يصعب تغييره من المنظور الصهيونيّ. إلى جانب الاعتقالات والإعدامات وهدم المنازل وإقامة الحواجز الإذلالية في جميع المناطق المحتلة، حتى داخل مناطق السلطة.

ولكن طلائع نخب الشعب الفلسطيني، وأصدقاءهم في العالم، والمدافعين عن حقوق الإنسان، قرّروا إشهار سلاحٍ فعّال لحمل «إسرائيل» على إنهاء الاحتلال، ألا وهو سلاح المقاطعة. على خلفية وضع الفلسطييين الذي يرزحون تحت الاحتلال اللاإنساني، انبثقت فكرة المقاطعة «بي دي إس» التي تعتبر جزءاً من الردً

الاستراتيجي على ممارسات الاحتلال، ووسيلة فعّالة من المقاومة الشعبية والمدنية السلمية. فانطلقت هذه الحركة في 9 أيلول 2005 بإصدار نداء لمقاطعة «إسرائيل»، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها. هذا النداء الذي وقعّت عليه أكثر من 170 مؤسّسة فلسطينية من المجتمع المدني، مثّل كافة الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية، انبثقت عنه «BDS» في ما بعد، ليمثل أوسع ائتلاف لجميع الفلسطينيين في كلّ مكان. وشاركت في ذلك النداء قوى شعبية فلسطينية، واتحادات نقابية وائتلافات سياسية، في أراضي الـ1967 وفي الشتات وفي أراضي 1948، وكان هذا تمثيلاً مميّزاً، يجمع للمرّة الأولى منذ عقود، فلسطينيي 1948 و1967 والشتات من جميع المشارب السياسية والايديولوجية والفكرية على خطة وبرنامج واضحَين، يستندان إلى مواثيق شرعة حقوق الانسان.

وقد أطلق على هذه الحركة العالمية لمقاطعة الاحتلال، اسم «مقاطعة وفرض عقوبات وسحب استثمارات Boycott Divestment and Sanction»، واختصاراً «BDS». حتى تنصاع «إسرائيل» للقانون الدولي بالكامل وتلتزم بحقوق الشعب الفلسطيني.

مغزى وأساس

وتوضيحاً لمغزى المقاطعة وأساسها العملي يقول جبّور: تعتبر المقاطعة أسلوباً سلمياً وقانونياً تلجأ إليه الشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال، ونموذجاً للمواجهة والمقاومة المشروعة ضدّ المحتل، كي تحقّق هذه الشعوب تطلّعاتها إلى إنهاء الاحتلال، وبالتالي تحقيق حرّيتها واستقلالها وتقرير مصيرها. فهذه حركة عالمية تسعى إلى كشف ممارسات الاحتلال الصهيوني اللاإنسانية واللاأخلاقية، وغايتها فضح عنصريته ووقف كافة أشكال التطبيع معه، كما تدعو إلى مقاطعة الشركات والهيئات الداعمة للاحتلال، معتمدة على ثلاث ركائز رئيسة هي: المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، حتى تنصاع «إسرائيل» للقانون الدولي بالكامل، وتنهي احتلالها للاراضي التي اغتصبتها عام 1967، والاحتلال ـ الاستيطاني والأبارتهايد برمّته وتعترف وتلتزم باحترام الحقوق الاساسية للاجئين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم وفق قرار الأمم المتحدة 194.

إنها وسيلة مشروعة للاحتجاج والضغط. هي ليست معادية للسامية كما يدّعون، لأن أعداداً غفيرة من الأفراد والمنظمات اليهودية خارج فلسطين المحتلة وداخلها يدعمون المقاطعة. وهي غير عنفية كما ذكرنا، وتقوم على مبادئ القانون الدولي وتدين كلّ عمل ظالم.

مقاطعة عابرة للقارات

أهمية حملة «BDS» بحسب الباحث سمير جبّور تتركز في أنها: مقاطعة ذات نمط سلميّ وطابع لاعنفي، حضارية ذات نَفَس طويل، تعدّ في جوهرها شكلاً من أشكال المقاومة المشروعة. ولا تنحصر فعالياتها داخل المناطق المحتلة وحسب، بل تتجاوزها إلى جميع أصقاع الارض، لذا يمكن أن نطلق عليها «مقاومة عابرة للحدود والقارات». وهي تتجاوز الحكومات، لأنها تخاطب الشعوب والأفراد. انها مقاومة من نوع آخر تعيد إلى الأذهان الحركة ضد الابرتهايد في جنوب أفريقيا. وهذا أحد اسباب القلق الذي تسبّبه لقادة «إسرائيل».

يتركّز النشاط الأساسي لحركة المقاطعة جغرافياً في بعض الدول العربية والمناطق الفلسطينية المحتلة والبلدان الأوروبية وبلدان أميركا الشمالية وجنوب أفريقا وبعض دول أميركا اللاتينية على رأسها البرازيل. وقد استهدفت الشركات التي تساهم في تعزيز الاحتلال. وقد لاقت نجاحاً باهراً في الجامعات والمعاهد العلمية وصناديق تقاعد وبنوك رئيسية كبرى. وغدا الكثير من حرمات الجامعات الأميركية مناطق محظورة امام ألأكاديميين «الإسرائيليين» الذي يعارضون المقاطعة.

إن ناشطي الحملة والحركات الاجتماعية وحركات حقوق الإنسان يشنّون حملات واسعة النطاق في دول أميركا اللاتينية والعالم العربي أيضاً ضدّ الشركات التي تشارك في جرائم «إسرائيل» مثل شركة «G4S» العالمية للأمن تنشط في ست قارات التي تزوّد السجون «الإسرائيلية» والحواجز والمستوطنات والشرطة والجدار العنصري بالخدمات الأمنية. فهذه الشركة مثلاً خسرت السنة الماضية عقوداً واستثمارات ضخمة في الكويت والأردن وكولومبيا. فقد أعلنت أنها ستبيع أشغالها في الأراضي المحتلة التي تبلغ قيمتها 80 مليون جنيه استرليني.

كما أن المقاطعة الثقافية الأكاديمية تحقّق إنجازات سريعة في الأميركيتين والعالم العربي. إنّ عدداً كبيراً من الطلبة في شيلي وقطر اتخذوا قرارات عدّة تأييداً للمقاطعة. وقد أعلن مئات من الأكاديميين والمثقفين في البرازيل والخليج العربي عن انضمامهم إلى حملة المقاطعة. فقد شهدت السنة الماضية خمس دول في أميركا اللاتينية وسبع دول عربية أكبر مهرجانات لمناسبة «أسبوع مقاومة الأبرتهايد الإسرائيلي».

أوجه عمل المقاطعة: من الاقتصاد إلى المجالات كلّها

بالنظر إلى عمل الحركة ومجالاتها، يوضح جبّور: إن المقاطعة التقليدية هي في جوهرها مقاطعة اقتصادية. وعلى رغم أنّ الاقتصاد «الإسرائيلي» يتكبّد خسائر جسيمة من جرّاء هذه المقاطعة ويضيق المجال هنا لطرح المزيد من التفاصيل، إلّا أنّ «إسرائيل» ليست مسيّسة كثيراً للمقاطعة الاقتصادية التي خبرتها في الماضي. فهي كانت قادرة على التعويض عن خسائرها من المساعدات الأميركية، ناهيك عن تبرّعات يهود العالم. فعلى سبيل المثال، موّل الملياردير الصهيونيّ جاريد كوشنر، صهر ترامب الذي عيّنه لمتابعة ملفّ الشرق الأوسط، وحده، إنشاء جزء من المستعمرات الصهيونية. إنّ قادة «إسرائيل» أكثر حساسية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية وتأثيرها على الرأي العام.

لقد تنبّه مؤسّسو حركة المقاطعة إلى هذا الأمر، ودرسوا مواطن الضعف عند الصهاينة في الساحة الدولية. فقرّروا بناء المقاطعة على استراتيجية استهداف عددٍ من القطاعات والمؤسّسات الاقتصادية، شركات كبرى مثل «سودا ستريم» الناشطة في المناطق المحتلة وصناديق تقاعد مثل إدارة صندوق التقاعد الهولندية «PGGM» مؤسّسات أكاديمة مثل الجامعات والمعاهد العلمية والروابط الطلابية والنقابات المهنية وفعاليات فنية وشركات تأمين كبرى. فكشفت مصادر إعلامية عبرية النقاب عن أن أكبر شركة تأمين في النرويج «كي أي بي»، مثلاً، سحبت استثماراتها من شركتين دوليتين كبيرتين لتصنيع مواد بناء، بسبب نشاطهما في الضفة الغربية المحتلة. وأوضحت الشركة النرويجية أن شركتَي «هايدلبرغ سيميت» و«سيميكس» تشغّلان، بواسطة شركات «إسرائيلية» تابعة لهما كسّارات في الضفة الغربية المحتلة، وتستغلان بذلك موارد طبيعية في مناطق محتلة بصورة مخالفة لمعاهدة جنيف. وتردّد أنّ قرار الشركة النرويجية هو نوع غير مألوف من مقاطعة أنشطة «إسرائيلية» في الأراضي المحتلة، إذ إنّ قرارها ليس مقاطعة منتجات المستوطنات ولا الشركات التي تصنعها، إنما مقاطعة شركات دولية لديها علاقات اقتصادية مع شركات «إسرائيلية». وأبدت شركة «أورانج» الفرنسية للاتصالات استعدادها لقطع العلاقات مع كيان الاحتلال، والتخلّي فوراً عن التعاون مع شركة «بارتنر» «الإسرائيلية»، التي لديها أنشطة في المستوطنات في الضفة الغربية.

هوليوود تقاطع!

وفي سياق المقاطعة الثقافية يورد جبّور: إن حركة المقاطعة تلاقي نجاحاً منقطع النظير على الصعيد الفنّي، إذ إن فِرقاً فنية أوروبية وأميركية امتنعت عن تقديم عروض في الأراضي المحتلة استجابةً للمقاطعة. ويخضع الموسيقيون الذين يقدّمون حفلات لضغوط من حركة «بي دي اس»، مع وجود مغنّي «بينك فلويد» روجر واترز بين الداعمين للحركة.

وقبل أيام معدودة، عُلم أن كيان العدو عرض على 26 من النجوم الكبار في هوليوود بينهم ليوناردو دي كابريو ومات ديمون وغيرهما، رحلات فاخرة مجانية إلى الكيان، لكن أحداً من هؤلاء لم يلبّ الدعوة حتى الساعة. وأعلن مسؤولون «إسرائيليون» وقتئذٍ أنهم يرغبون في إظهار «صورة إسرائيل الحقيقية خلال النزاع». ويقول الباحث في العلاقات «الإسرائيلية» ـ الأميركية دان روتيم إنّ «إسرائيل» أرادت استغلال النجوم «كطريقة لكسر الانطباع أنّ هناك نوعاً من العزلة أو المقاطعة». وتقول المتحدّثة بِاسم «الصوت اليهودي للسلام» وهي منظمة يهودية تدعم المقاطعة ضدّ الاحتلال غارانتي سوسنوف، إن هذا الموقف يأتي في إطار حملة واسعة للمقاطعة الثقافية.

لا شكّ في أنّ امتناع هذا العدد الكبير نسبياً من نجوم هوليوود، التي كانت تعتبر معقلاً للدعاية الصهيونية، له دلالة مهمة تتمثل في حقيقة ان مؤسسات بحجم هوليوود لم تعد حكراً على الصهيونية، وأن رياح التغيير بدأت تهبّ على الاحتلال وممارساته لتعصف به من دون رجعة.

وبحسب مركز الأبحاث «بيوPew»، إنّ النسبة المئوية من الديمقراطيين الأميركيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين قد تضاعف منذ عام 2014. وفي عام 2016 كانت هذه النسبة أكبر من نسبة الديمقراطيين الذين يتعاطفون مع «الإسرائيليين» 40 في المئة مقابل 33 في المئة على التوالي . ولا شكّ في أنّ حملات المقاطعة لعبت دوراً مهمّاً في هذا التحوّل حيث ساهمت في التوعية حول واقع الاحتلال.

كنائس كبرى تدعم المقاطعة

ويضيف جبّور في تعدّد أوجه المقاطعة: لاقت حركة «بي دي أس» تجاوباً واسعاً أيضا من قبل عدد لا بأس به من الكنائس الكبرى في أميركا الشمالية مثل الكنيسة الكبرى في كندا، وهي الكنيسة البروستانتية، والكنيسة المتّحدة الكندية، والكنيسة المشيخية الأميركية، والكنيسة الميثودية، والكنيسة اللوثرية الإنجيلية، وكنيسة يسوع الموحّدة. وقد اتّخذت هذه الكنائس قرارات مهمّة في دعم المقاطعة وقطع علاقاتها التجارية والاستثمارية مع شركات مهمة، وألغت معها عقوداً بملايين الدولارات. ونشير هنا إلى أنّ البيان الذي أصدره المسيحيون الفلسطينيون بِاسم «كيروس ـ فلسطين» كان له التأثير الأكبر في الاستنهاض الروحيّ لهذه الكنائس.

تمييز المنتجات الصهيونية دعماً للمقاطعة

حول هذا الموضوع يقول جبّور: تعتبر الحكومات الأوروبية رائدة 14 دولة أوروبية في وضع علامات على المنتوجات التي مصدرها المستوطنات لكي يعرف المستهلكون مصدر هذه المنتوجات والامتناع عن شرائها. وقد ساد تخوّف بين الأوساط «الإسرائيلية» من إرشاد دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين بوضع شارات على منتوجات المستوطنات لتمييزها من غيرها.

وكان يائير لابيد وزير المالية الصهيوني سابقاً، قد علّق على المقاطعة الأوروبية بقوله: «إذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، فإن الصادرات الإسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي وحده ستعاني من أضرار بنسبة 20 في المئة، وسوف تتوقّف الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الاتحاد، وسوف تتكبّد الصادرات خسارة قيمتها 20 مليار شيكل في السنة». وقال معلّق «إسرائيلي»: «إنّ المقاطعة الأوروبية حلّت مكان المقاطعة العربية».

لقد أثار قرار الاتحاد الأوروبي وضع إشارات على منتوجات المستوطنات حفيظة قادة «إسرائيل». فقد دعا عدد من وزراء الحكومة الصهيونية الاتحاد الأوروبي إلى عدم المضيّ قدماً في خطّته الرامية إلى وضع إشارات خاصة على المنتوجات «الإسرائيلية» القادمة من المستوطنات في المناطق المحتلة. وزعم رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو أنّ خطوة الإتحاد الأوروبي غير مبرّرة وتشكّل تشويهاً للعدالة والمنطق.

«BDS» وجنيف… والأمم المتّحدة

وحول السند القانوني لعمل الحملة يقول جبّور: إنّ حملات المقاطعة بالدرجة الأولى إلى حقيقة وجود احتلال لا تقرّه أيّ مواثيق دولية ولا تعترف به رسمياً أيّ دولة في العالم. وقد استلهم مؤسّسو حركة المقاطعة ضدّ «إسرائيل» مبادرتهم من حركة المقاطعة في جنوب أفريقيا الحركة ضد الأبرتهايد التي كانت سائدة في القرن العشرين. إضافة إلى ذلك، تقوم حملات المقاطعة على مبادئ القانون الدولي، والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، لا سيما قرارات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ومبادئ محكمة العدل العليا، والمنظمات غير الحكومية وقرار الأمم المتحدة 194 الخاص بعودة اللاجئين وقرار التقسيم. ومعاهدة جنيف الرابعة بالطبع. فعلى سبيل المثال، تنتهك «إسرائيل» المادة 76 من معاهدة جنيف الرابعة التي تحظر نقل السجناء الفلسطينيين من المناطق المحتلة إلى السجون «الإسرائيلية». كما أنها تعارض إنشاء مستعمرات غير شرعية على أراضٍ محتلة… إلخ.

يقتضي التعامل مع هذه المبادئ دولياً بواسطة المطالبة بتطبيق جميع المعاهدات والقوانين الدولية على ممارسات دولة الاحتلال. مثلاً، أدانت محكمة العدل العليا إنشاء المستوطنات اليهودية وتشييد الجدار العنصري. وطالب مجلس الأمن الدولي «إسرائيل» مؤخراً بوقف الاستيطان في الضفة والقدس الشرقية المحتلتين، في قرار 2334 تبنّاه بعدما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت عليه وفي خطوة نادرة، أدّى امتناع واشنطن عن تبنّي القرار الذي أيّده 14 عضواً في مجلس الأمن من أصل 15.

أبرز تأثيرات المقاطعة على «الإسرائيليين»

أخذت ترتسم أمام «الإسرائيليين» بحسب جبّور، حالة من القلق على مستقبل علاقات «إسرائيل» الخارجية وصورتها أمام المجتمع الدولي وعدم القدرة على التنبؤ بـ«كرة الثلج هذه»، كما وصفها أحد المعلّقين. ومن دلائل القلق أيضاً تبرز الاعترافات التالية: حملة المقاطعة العالمية تشوّه الصورة التي خلقتها «إسرائيل» على مدى سنوات طويلة، من صورة «الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» إلى صورة الدولة التي تحتلّ أراضي جيرانها وتقيم عليها مستعمرات غير شرعية، الدولة التي تنتهك حقوق شعب بكامله بشتّى أنواع الاضطهاد في ظلّ احتلال عسكري بغيض، حملة المقاطعة تخلق وعياً متزايداً إزاء حقوق الشعب الفلسطيني وهي تخاطب العقول والضمائر والوعي الجماعي. إنها انتفاضة بأسلوب مختلف.

إنّ هاجس المقاطعة لدى «الإسرائيليين» وأنصارهم يتمثّل أيضاً في اتّساع المقاطعة الأكاديمية الثقافية التي اجتاحت عدداً كبيراً من الجامعات الأميركية والأوروبية وغيرها، وكذلك المعاهد التعليمية والثقافية. أبرزها اتحاد دراسات الشرق الأوسط لأميركا الشمالية «ميسا» التي ينضوي تحت لوائه 2700 عضو من منظمات وهيئات بحثية. وكان آخرها ما أعلنه مجلس جامعة البابوية الكاثوليكية في شيلي UC عن قرار ينصّ على دعم حركة مقاطعة «إسرائيل»، وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها ومطالبة الجامعات الأخرى بإلغاء اتفاقياتها مع الجامعة العبرية في القدس والمعهد «الإسرائيلي» للتكنولوجيا في حيفا «تخنيون» المشاركَين في انتهاكات «إسرائيل» للقانون الدولي. وتلا ذلك أنه خلال عام 2015، صوّت 73 في المئة من أساتذة كلّية الدراسات الشرقية والأفريقية «SOAS» في جامعة لندن وطلبتها وعامليها لصالح مقاطعة «إسرائيل» أكاديمياً. كما صوّت 68 في المئة من طلبة جامعة «Sussex» بـ«نعم» لمقاطعة «إسرائيل».

وعليه، إنّ انتشار المقاطعة الأكاديمية عزّز الهواجس الصهيونية من تأثيراتها البعيدة المدى، فعلى حدّ قول أحدهم، إن أكثر ما يثير القلق من المقاطعة في الجامعات الغربية أن ناشطي «بي دي إس»، يدركون جيداً أن الجامعات الأميركية الرائدة هي مستنبتات للقيادات الأميركية المستقبلية. والقصد من ذلك أنهم سيدخلون البيت الأبيض بوجهات نظر معادية لـ«إسرائيل».

الكيان الصهيوني يردّ

يتركّز بحث إصدار الباحث سمير جبّور على هذا الشأن تحديداً وعليه يقول: أسفرت حملات المقاطعة عن ردود فعل غاضبة من قبل الأوساط الرسمية «الإسرائيلية» التي كثّفت هجومها على المطالبين بالمقاطعة نظراً إلى الخطر الكبير الذي تطرحه والتي تهدّد بحسب قولها استراتيجية مصلحتها القومية.

واعتبرت «إسرائيل» أنّ هجومها المضادّ على نشطاء حملة المقاطعة من أولوياتها، الأمر الذي دفع «الكنيست» إلى عقد جلسة طارئة لمناقشة تعزيز مكانتها العالمية وصورتها، وكان ردّ الفعل الأساسي يتمثّل بإعلان الحكومة «الإسرائيلية» أنّ حملات المقاطعة هي تهديد استراتيجي لـ«إسرائيل». وقد تكاتفت الحركة الصهيونية العالمية والحكومة «الإسرائيلية» من أجل التصدّي لتلك الحملات، فاتّخذت الإجراءات التالية:

ـ إنشاء منظمة صهيونية تحت اسم «Stand With Us» قفوا معنا مكرّسة اهتمامها للقيام بأعمال ضدّ المقاطعة.

ـ سنّ «الكنيست» قانون المقاطعة، الذي يعاقب كل من يطالب بمقاطعة «إسرائيل» ويتيح ملاحقته قانونياً وتغريمه بدفع تعويضات وفرض عقوبات على المؤسسات التي تدعو إلى مقاطعة الاحتلال.

ـ تكليف شعبة الاستخبارات العسكرية بتتبّع نشاطات حركات المقاطعة في الخارج.

ـ رصد ملايين الدولارات تُنفَق على إنشاء فِرق عمل تتولّى مكافحة المقاطعة.

ـ تهديدات من المسؤولين الرسميين باغتيال رموز حركات المقاطعة العالمية. وقد برز منهم يسرائيل كاتس وزير الاستخبارات والمواصلات الذي أعرب عن الحاجة إلى تنفيذ اغتيالات محدّدة، وتكثيف الجهود لاستهداف قادة حركة المقاطعة ونشطائها.

مع تنامي المقاطعة في الدول الأوروبية والأميركيتين، يبقى السؤال الأهمّ حول عملها داخل فلسطين المحتلة والعالم العربي. وحول هذا الشأن يقول جبّور: أُطلِقت في الضفة الغربية حملة واسعة تناشد الجمهور بمقاطعة منتوجات وخدمات صهيونية. وعلى الإثر، غدت رفوف أجزاء كبيرة من الدكاكين في الضفة الغربية فارغة. ولم يكن في الإمكان شراء منتوجات من شركات مثل «تنوفا» و«زوغلوبك» و«تبوزينا» وغيرها. فقد انضمّت سبعون دكاناً إلى حملة المقاطعة التي أطلِقت بصورة رسمية في جنين، وهي آخذة في الاتّساع لتشمل مدناً مثل الخليل ونابلس ورام الله أيضاً. وفي بيت لحم ومدن وقرى أخرى في مختلف أنحاء الضفة والقدس الشرقية لوحظت استجابة واسعة من قبل الجمهور ورجال الأعمال. على خلفية تطور حركة المقاطعة العالمية لإنهاء الاحتلال التي تكتسب زخماً دولياً، جرت خلال السنوات الأخيرة محاولة لتحقيق مقاطعة لمنتوجات «إسرائيلية» في الضفة، كجزء من نضال شعبيّ سلميّ. يبدو هذه المرة أن الحملة تنجح في حشد تعاطف الجمهور عن طريق حملة إيجابية تشجّع الشراء من أماكن تقاطع المنتوجات «الإسرائيلية» وتوفّر بديلاً عنها. وقال أحد أصحاب المحلات الفلسطينية: يبدو أن الموزّعين «الإسرائيليين» بدأوا يشعرون بلسعة المقاطعة. إذ أعلنت شبكة محلات المواد الغذائية الفلسطينية «برافو» عن إزالة المنتوجات «الإسرائيلية» عن رفوف محلات السوبرماركت التابعة لها. أما بالنسبة إلى قطاع غزة، فلا تصل إليها المنتوجات «الإسرائيلية»، علماً أنّ حركة «بي دي اس» لها ممثلون في قطاع غزّة وهم نشيطون للغاية.

مقاطعة وكتاب

وحول كتابه «الحملة العالمية لمقاطعة الاحتلال ـ من منظور صهيونيّ يهوديّ»، حيث يرد في القسم السابع منه تحت عنوان «نظرة اليمين الصهيونيّ إلى دور المقاطعة وأهدافها»، يوضح سمير جبّور: إنّ الحركة الصهيونية و«إسرائيل» تجنّدان كلّ طاقاتهما لمكافحة سلاح المقاطعة الذي لا سيطرة لهما عليه، بعكس الحال في ميادين القتال. حيث ضمنت «إسرائيل» تفوّقها العسكري على الجيوش العربية. فقد عكست وسائل الإعلام الصهيونية مواقف حكومة العدوّ. واستندت هذه المواقف إلى التحريض والتهويل والتلفيق ثمّ الوقوع في تناقضات. فمن جهة، وفي مقال نُشِر على موقع «قف معنا»، وهو موقع أنشأته الحركة الصهيونية لمحاربة المقاطعة الدولية، بعض ما جاء فيه، أنّ «الصراع في الشرق الأوسط كان يحسم في ميادين القتال. بيد أنّ BDS تستخدم الآن السلاح الأحدث لنقل الصراع إلى الساحة الإعلامية الدولية». ويرى المقال أنّ المقاطعة تشكّل خطراً على رفاهية «إسرائيل». كما أنه استعرض جميع أشكال المقاطعة الحديثة: مقاطعة ثقافية، اقتصادية، نقابية، كنسية، سياسية، رياضية، أكاديمية ومقاطعة رحلات سفر دبلوماسية ومقاطعة الناطقين الموالين للحكومة «الإسرائيلية». وفي السياق، يزعم اليمين الصهيونيّ أنّ «بي دي اس» هي إرهاب معادٍ للسامية، وفيه اتّهام واضح ضدّ ناشطي المقاطعة بأنهم «يحاولون الخروج من صورة الإسلام المتطرّف الإرهابي، وعرض جبهة جديدة». ويزعم أنّ المقاطعة تهدف إلى «تدمير دولة إسرائيل»، وهي في أساسها «مقاطعة إيقاظ الوعي». وتردّد المصادر الصهيونية المزاعم التقليدية التي تستخدمها «إسرائيل» لتسويغ مخطّطها التوسّعي وأعمالها العدوانية ضدّ العرب. ولطالما زعمت أنّ العرب سيقضون على «إسرائيل»، في الوقت نفسه كانت لـ«إسرائيل» اليد الطولى في الحروب العدوانية التي شنّتها ضدّ الجيوش العربية. ربما يبالغ اليمين الصهيوني من أخطار تسببها المقاطعة على مستقبل «إسرائيل» باعتبارها تشكّل «تهديداً استراتيجياً»، و«تهديداً وجودياً» كما أنها تهدف إلى «تشويه صورة إسرائيل في العالم» و«القضاء عليها». إن هذه المزاعم الصهيونية، انطلاقاً من عدم اعترافها بوجود احتلال، فإنها تنسب أيّ عمل ضدّ الاحتلال وكأنه موجّه ضدّ «دولة إسرائيل»، وضدّ الشعب اليهودي، لتأليب الرأي العام على رموز المقاطعة واستدرار العطف على مواقف «إسرائيل». وقد لمسنا هذا النهج الدعائي منذ قيام «إسرائيل». بيد أن حركة المقاطعة العالمية تمكّنت من توصيل رسالتها إلى الرأي العام العالمي. إن هذه الحركة السلمية لا تهدّد أحداً، إنّما هي موجّهة ضدّ الاحتلال وممارساته، وسلاحها كلمة الحقّ والعدل الإنساني.

دور الأحزاب والمجتمع المدنيّ

وبالإشارة إلى الدور الذي يمكن أن تضطلع به الأحزاب ومؤسّسات المجتمع المدنيّ والمواطنون في الوطن والمغتربات لدعم الحملة، يعتبر جبّور أنّ الأحزاب والهيئات السياسية والاجتماعية ومؤسّسات المجتمع المدني في الوطن والمغتربات مسؤولة لجهة نشر كلمة المقاطعة وشرح أهدافها ومراميها. ففي الوطن، المطلوب من مؤسّسات المجتمع المدني الضغط على حكوماتها لدعم المقاطعة بدلاً من لجوء بعضها إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ. ويجب أن تشكّل المقاطعة مساحة واسعة للنقاش العام وعقد ندوات تشرح نشاطالت المقاطعة وأهدافها ومراميها. وفي كندا بدأنا بإجراء ندوات في تورنتو وسوف تعقد ندوات مشابهة في بعض المدن الكندية الأخرى.

والمطلوب من التجمعّات العربية في المغتربات حثّ أعضاء البرلمانات في البلدان التي يعيشون فيها على دعم المقاطعة واتّخاذ مواقف رسمية تدعمها. على سبيل المثال نجحت بعض الجهود في حمل برلمان مقاطعة أونتاريوعلى اتخاذ قرار بغالبية كبيرة يدعم المقاطعة. ولكن برلمان كندا الفدرالي أصدر مرسوماً ضدّ المقاطعة بسبب النفوذ الصهيوني المتصاعد في كندا.

ويعزو جبّور أسباب النجاحات النسبية التي تحققها المقاطعة إلى الخطاب الإعلامي الذكي، لترويج حركة سلمية، غير عنفية قائمة على حقائق دامغة، لا تستطيع «إسرائيل» إخفاءها. وربما هذا ما أقلق الصهاينة الذين اعتادوا على استغلال الخطاب الإعلامي العربي الذي كان يركّز على التهديدات الفارغة التي لم يكن لها أيّ غطاء. كما أن قادة المقاطعة طرحوا أهدافاً عملية للحملة لاقت قبولاً عالمياً واسعاً على خطى غاندي ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا الذين ساهموا في تغيير مجرى التاريخ.

وهكذا، كانت الأرض خصبة إذن، لتجد حملات المقاطعة نجاحاً واسع النطاق، لا سيما أنّ «إسرائيل» دولة عنصرية ابرتهايد ودولة كولونيالية، وتمارس جميع صنوف الاضطهاد والمذابح ضدّ الشعب الفلسطيني منتهكة الحقوق الاساسية للانسان الفلسطيني. والعالم يراقب ويشاهد صوراً مروّعة للاحتلال ويستخلص العِبر.

وأخيراً، حول الرسالة التي يعمل على توجيهها من خلال عمله التوثيقيّ المهمّ باللغة العربية تحديداً، يقول جبّور: توخيّت من هذا العمل التوثيقي إطلاع القارئ العربي على وجه مضيء من النضال العام ضدّ المحتلّ الصهيوني في مناخ مظلم في المنطقة العربية في هذا الوقت العصيب. ورسالتي تتلّخص في أنّ «إسرائيل» لن تستطيع التهرّب من التزاماتها الدولية. وأردت أيضاً طرح مقولة مهمة أن لدى الشعب الفلسطيني بصورة خاصة والشعوب العربية بصورة عامة خيارات متعدّدة لمقاومة الاحتلال سواء للمناطق الفلسطينية او لمرتفعات الجولان السورية. وأردت القول أيضاً إنّ الشعب الفلسطيني لم يستسلم للاحتلال رغم ما يعانيه من سوء عذاب مرير. فإذا خذلته الدول العربية، فإنه قادر على تجنيد الرأي العام للوقوف معه في نضاله. ورغبت في أن يدرك كل مواطن في العالم العربي أنّ الحركة الصهيونية أخفقت حتى الآن في إضفاء شرعية على احتلالها، وهي لا تستطيع أن تخدع الرأي العام كلّ الوقت بمزاعم أسطورية لا تمتّ إلى الواقع بِصِلة. كما أنها لا تستطيع الهروب من العقاب الشعبي ومحاسبة الرأي العام. وهذا ما تحقّقه حملات المقاطعة التي أشهرت سلاحاً فاجأ المحتل وأربك خططه ومشاريعه. علاوة على ذلك، أردتُ التوضيح أنه ليس من الصعب تجنيد أنصار للفلسطينيين في العالم لأنهم يعيشون في واقع مكشوف، وحقائق قائمة على الأرض في عصر وسائل الاتصال الإجتماعية الجماعية. ولهذا، من المتوقع أن تتّسع المقاطعة وتأخذ أحجاماً واسعة النطاق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى