ملامح أولية لاستراتيجية ترامب في العراق وسورية

صراع الأجهزة الاستخباراتية ومؤسسة الرئاسة الأميركية تزداد حدة، في الآونة الأخيرة. تقلص خيارات الطرفين يفتح كوة ضئيلة تكفي لتسريب بعض المعلومات الموثقة عن الطرفين. بيد انّ احتدام الصراع دفع الفريقين لاستنهاض الجدل حول المخاطر الاستراتيجية للولايات المتحدة، والبحث عن «خطة طريق» تصلح للبناء عليها استراتيجية معينة.

في منتصف الشهر الحالي، الذي صادف انقضاء ست سنوات على الحرب الكونية على سورية، دعا السيناتور النافذ جون ماكين الى بلورة «استراتيجية جديدة الآن أكثر من ايّ وقت مضى»، في ما يخصّ سورية تحديداً، وامتداداً في العراق وعموم المناطق الملتهبة في الإقليم. ماكين من أشدّ المؤيدين لإنشاء «مناطق آمنة وعازلة» داخل الأراضي السورية.

قبل ذلك بأيام معدودة، أعلنت واشنطن عن إرسالها «قوات أميركية إضافية» لسورية «للمساعدة في معارك استعادة الرقة» من تنظيم داعش على أمل ان تشكل «حاجزاً» لتركيا من استهداف الأكراد الموالين لأميركا، لا سيما تلك المجموعات المنخرطة في «وحدات حماية الشعب» التي تعتبرها «كفوءة وفعّالة.. خاصة بعد ان خذل الجيش الحرّ واشنطن كثيراً».

توقيت واشنطن إعلانها لم يأتِ اعتباطياً بل تزامن مع انفضاض لقاء عسكري رفيع المستوى جمع قادة أركان تركيا وأميركا وروسيا في انطاليا بغية «تفادي ايّ تصادم محتمل» بين القوات المتعدّدة. كما أنه ترجمة عملية لوعود الرئيس ترامب الانتخابية وما تبعها بشأن سورية بأنه «عازم على تكثيف الحرب ضدّ داعش…» وميله لإنشاء «تعاون مع روسيا» في ذاك الشأن.

ايضاً، يأتي الإعلان بالاتساق مع برنامج تسليح «سري» لوكالة الاستخبارات المركزية الموسوم ببرنامج «خشب الجميز Timber Sycamore» تمّ إعداده لتسليح نحو «80 مجموعة» مختلفة من المسلحين في سورية، أبرز عتادها تزويدها بعدة «مئات» من صواريخ موجهة مضادة للدروع من طراز «تاو».

البعد العسكري البارز في السياسة الأميركية توّجه أيضاً وزير الخارجية الجديد، ريكس تيلرسون، باستضافته مؤتمراً مطلع الأسبوع الحالي يضمّ نحو 68 مسؤولاً أجنبياً من الدول المنخرطة في «التحالف الدولي لمكافحة داعش»، حضره وزراء خارجية وقادة عسكريين على السواء، وانضمام ممثلين عن «وحدات حماية الشعب» الكردية.

أمام هذا المشهد المتصاعد لعسكرة الحلّ في سورية رغم الادّعاء بالعكس، من الضروري الإشارة لما أطلق عليه «استراتيجية الاستدارة الأميركية نحو آسيا»، لمواجهة كلّ من الصين وروسيا. اذ انّ تلك «الاستدارة» لم تجد ترجمة تخفيضاً او تقليصاً للوجود العسكري الأميركي في المنطقة العربية، لا سيما العراق وسورية واليمن وليبيا والصومال.

يتجدّد التساؤل في الداخل الأميركي ولدى «حلفاء» واشنطن في المنطقة العربية ان كان لإدارة ترامب «استراتيجية» حقيقية واضحة المعالم، من شأنها المحافظة على أشكال الدول الإقليمية المؤيدة، بعد شكاويها المستمرة لما اعتبرته إهمال ادارة الرئيس أوباما لها وتوجيه الأخيرة الزخم الرئيس من الأولويات والاهتمامات نحو شرق آسيا.

ترامب: استراتيجية أم اضطرار؟

بداية، استراتيجية الولايات المتحدة الكونية لا تتبدّل مع حلول رئيس جديد في البيت الأبيض، كما انّ الرئيس ليس العنصر الأساس او الحاسم في بلورة عناصر خطط استراتيجية إذ هي موضوعة أمامه منذ زمن، صاغتها المؤسسة العسكرية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وعليه التفاعل معها وتحديثها وفق المتغيّرات الدولية والمكانية.

الاستراتيجية الأميركية الخاصة بسورية تمّ «تحديثها» منتصف الصيف الماضي، ابان استعار السباق الانتخابي، من قبل مجموعة تابعة لمراكز أبحاث «يمينية» عرفت باسم «المجموعة الاستراتيجية»، أصدرت مذكرة تحت عنوان محاربة تنظيم القاعدة في سورية للمجموعة الاستراتيجية، من أبرز أعضائها «شارلز ليستر، عضو في معهد الشرق الأوسط وجنيفر كفاريلا، من معهد الدراسات الحربية»، وآخرين ممن لديهم ارتباطات بوزارة الدفاع مباشرة.

الأجواء السياسية آنذاك كانت ترجح فوز المرشحة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، المعروفة بتأييدها «لتدخل عسكري أميركي حاسم» في سورية. طالبت المذكرة «الرئيس المقبل» بالمبادرة لإعلان «منطقة محظورة على القصف الجوي» في سورية، تمهيداً لإنشاء «مناطق آمنة». وبلغت جرأة التحدي بإحدى اعضاء المجموعة، ميشيل فلورني، أن خاطبت روسيا وسورية قائلة «إنْ قصفتم المجموعات المسلحة التي نؤيدها وندعمها، سنقوم بالردّ واستخدام وسائل موجهة لتدمير.. القوات السورية». كما طالبت المجموعة الحكومة الأميركية لاحقاً «بتسليح المعارضة المسلحة المعتدلة بصواريخ محمولة مضادة للطيران».

مرحلة ما بعد الانتخابات الراهنة شهدت نشاطاً متجدّداً لتلك «المجموعة الاستراتيجية»، بإعادة صياغة مذكرتها الأصلية ولكن بحلة جديدة تقدّم للرئيس ترامب تحت عنوان «استراتيجية شاملة واستباقية لمكافحة الإرهاب عبر انخراط القوى السورية المعتدلة.. وتهديد النظام بالقوة العسكرية الأميركية».

في المقابل، فإنّ رواية وكالة الاستخبارات المركزية عينها تأتي على نقيض الفريق الاستراتيجي. الصحافي الشهير في يومية «واشنطن بوست»، والمقرّب من أروقة الوكالة المركزية، ديفيد أغناطيوس، أوضح أبعاد المأزق الأميركي والرهانات على «80 مجموعة مختلفة» درّبتهم وسلحتهم بلاده للإطاحة بكيان الدولة السورية.

وقال في عموده الثابت، بتاريخ 15 كانون الأول/ ديسمبر 2016، انّ «كافة مجموعات المعارضة السورية تمّ استيعابها وانخراطها في نطاق نظام حكم سياسي عسكري تسيطر عليه القاعدة.. الولايات المتحدة أخفقت في التراجع عن تحالف قوى رعتها وعززتها لمناهضة الرئيس الأسد».

في معرض آخر، نقل أغناطيوس عن مصادره في المؤسسة العسكرية قولها «إنّ الجيش السوري هو المؤسسة الوحيدة الملتزمة بمقاومة كلّ من القاعدة وداعش».

أمام الرئيس ترامب خيارات محدودة، وفق دائرته الضيقة، في سعيه لبلورة سياسة «أكثر فعالية من سياسات سلفه الفاشلة» في سورية. ويمكن للمرء ان ينظر الى اللقاء «الأول» لدول التحالف الدولي، سالف الذكر، على انه خطوة أولى في ذاك الاتجاه، ويوفر معالم سياسة مستقبلية يمكن البناء عليها.

لعلّ أبرز التطورات في «عهد ترامب» إحجامه عن المراهنة على العامل التركي، خاصة في البعد العسكري، بخلاف مراهنة الرئيس أردوغان على انّ مجيء ترامب سيرافقه تغيّر في السياسة الأميركية بالإيجاب نحو تركيا في أعقاب فشل الانقلاب العسكري.

ونُقل عن دائرة ترامب الصغرى تقييم المؤسسة العسكرية الأميركية للجيش التركي الذي يهدّد به أردوغان ليل نهار كي يصغي إليه أحد ما. البنتاغون تعتبر جيش أردوغان تعرّض لحملات تطهير واسعة نالت من جهوزيته العسكرية وقدرته القتالية، وأضحى «في حال فوضى عامة يعاني من تفشي سوء الانضباط وتقلص التزامه بالقتال العسكري».

هذه المقدّمة كانت ضرورية للإجابة على التساؤل من يدير الاستراتيجية الأميركية، والتي تخضع للمؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى.

اذن، ماذا ينتظر سورية في عهد ترامب. الثابت للحظة انّ قادة البنتاغون لا يحبّذون انخراطاً أميركياً قوياً في سورية، بدليل الخطة المعدّة من وزير الدفاع الجديد مايك ماتيس، بعد تكليف الرئيس ترامب له. عناصر الخطة/ الاستراتيجية شبيهة الى حدّ بعيد بالخطة المقدمة للرئيس السابق أوباما والتي تراهن على تماسك القوى الكردية، بدعم أميركي مباشر، لمحاربة داعش وهزيمتها في «عاصمتها» الرقة.

العنصر الجديد في خطة البنتاغون هو التحوّل المرئي في «توجيهات» مؤسسة راند، التي تتلقى تمويلات كبيرة مباشرة من البنتاغون. قبل «عهد ترامب»، حثت المؤسسة صنّاع القرار على إقامة «مناطق لا مركزية في سورية بحماية دولية»، ايّ أميركية استناداً الى وثيقتها الثلاثية بعنوان «خطة سلام لسورية: مناطق سيادية متفق عليها، اللامركزية، وإدارة دولية». الخطة الاولى بتاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015 الثانية بتاريخ 7 حزيران 2016 والثالثة مطلع العام الحالي .

اما ما بعد ترامب، فقد عدّلت المؤسسة خطابها، 26 شباط الماضي، بمطالبة الرئيس وفريقه «العمل على تحقيق مستويات تعاون أفضل مع روسيا» في سورية. وجاء في مطلع الدراسة انّ «آفاق الإطاحة بنظام الأسد والانتقال المرئي لتسلّم المعارضة المعتدلة السلطة أضحت أضعف مما قبل».

بعض عناصر «استراتيجية ترامب» تشاطر تلك التي اعتمدتها إدارة سلفه الرئيس أوباما بالاعتماد على نشر قوات عسكرية «تقليدية بشكل مؤقت» في ساحات القتال او بالقرب منها، وتعزيزها بوحدات مدفعية محمولة جواً فضلاً عن قوات مشاة البحرية المرابطة في المياه القريبة، ونحو 2500 عنصر مشاة كامل الجهوزية في الكويت من الوحدة القتالية الأبرز، الفرقة 82 المحمولة، التي تعتبر رأس الحربة في العمليات الأميركية.

بالمقارنة، استراتيجية إدارة الرئيس أوباما اعتمدت على مهام القوات الخاصة وسلاح الطيران، ومن فرط الاعتماد عليهما آنذاك عانت تلك القوات من الإعياء وصعوبة الحفاظ على الطواقم البشرية واستهلاك المعدات بنسب متسارعة.

بما انّ معالم الاستراتيجية المطلوبة لا تزال غير متداولة تزداد مساحة التكهّنات سلباً وإيجاباً. يومية «وول ستريت جورنال»، 9 آذار الحالي، أوضحت انّ الإدارة الأميركية «تواجه انقسامات داخلية حول الاستراتيجية التي ينبغي انتهاجها لهزيمة داعش في الرقة دون التعرّض لتركيا». وتمضي بالقول انّ أحد الخيارات قيد البحث مساهمة القوات الأميركية وحلفائها في استعادة الرقة «ومن ثم تسليمها للحكومة السورية…» بيد انّ قراراً بهذا الشأن لن يخرج الى حيّز التنفيذ قبل انتهاء الاستفتاء التركي على التعديلات الدستورية منتصف الشهر المقبل، حسب الاعتبارات الأميركية.

كما انّ لأميركا اعتبارات إضافية لتركيا محورها موقف حلفائها الإقليميين، السعودية و»إسرائيل» تحديداً. من بين التقييمات العملياتية الصادرة عن البنتاغون، تقول إحداها إنّ «تركيا وقطر والكويت والسعودية خسرت القتال في سورية»، نتيجة الهزائم المتتالية التي تلقتها المجموعات المسلحة المموّلة منها ليس في حلب فحسب، بل في الجولات الأخيرة في حمص وحماة وغوطة دمشق. اأما الهجوم الأخير على دمشق «فقد استنفذ أغراضه.. وواكبه فشل كبير في الهجوم على مدينة درعا».

أما تصريحات الرئيس ترامب النارية حيال سورية في الفترة الاخيرة، فهي نتاج أزمة ذاتية يعانيها على خلفية صراعه مع الأجهزة الاستخباراتية بشكل أوّلي، ولا يعوّل على مضيّه قدماً لإنشاء «مناطق آمنة»، كما تريده مؤسسة راند، الناطقة باسم التيارات المتشدّدة والبنتاغون على السواء.

اما المرجح إقدام ترامب عليه هو الرهان على توريد وحدات إضافية من القوات الأميركية، محدودة العدد، هدفها الرئيس، كما يعتقد، هو رفد القوات الكردية الحليفة التي ستتخذ مواقع متقدمة في معركة استعادة الرقة المنتظرة.

ترامب والعراق

ساد اعتقاد داخل حلقة واسعة من مستشاري ترامب بأنّ مصلحة الولايات المتحدة في العراق وسورية تقتضي «السماح» لمقاتلي داعش بمغادرة مدينتي الموصل وتلعفر باتجاه الأراضي السورية وتوظيفهم في تصعيد المواجهة العسكرية مع الجيش السوري في محيط مدينة تدمر. وسرعان ما انقلبت الرهانات نتيجة اتفاق وتنسيق بين العراق وسورية بملاحقة الأولى لمجاميع داعش داخل الأراضي السورية باستخدام سلاح الطيران، وما أُشيع لاحقاً عن «تعاون استخباراتي وأمني» متقدّم بين البلدين.

ويمكن البناء على تلك النتيجة بأنّ رهانات الولايات المتحدة تسخير تنظيم داعش لاستنزاف سورية وإطالة أمد معاناتها أضحت تواجه مقاومة عراقية، لا سيما وهي تحتفظ هناك بعدة قواعد عسكرية وعديد من قواتها المسلحة التي ستصبح هدفاً بالتوازي مع درجة انخراطها في سورية.

في مؤتمر التحالف الدولي، سالف الذكر، أشار وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى قناعة إدارته بأنّ «القوة العسكرية الصرف باستطاعتها وقف اندفاعة داعش في ساحات المعركة، لكن القوة المطلوبة حقاً هي القوة المجتمعة لأطراف التحالف لتنفيذ المهمة والقضاء على التنظيم».

واستدرك بالقول انه يتعيّن على أطراف التحالف الالتزام بخطة شاملة عمادها التدابير الجمعية لمكافحة الإرهاب. من بينها «استمرار عمليات مكافحة الإرهاب وتعقب الأجهزة الأمنية للعناصر المخلة داخل كلّ دولة على حدة ضرورة حشد الجهود لملاحقة تنظيم داعش وتمدّده داخل عدد من الدول واستغلال إمكانيات جهاز الانتربول الدولي لصدّ وقطع كافة طرق المواصلات وتواصل التنظيم على الصعيد العالمي». ثانيا «تعزيز آفاق التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بين كافة الدول المعنية».

في ما يخصّ العراق وسورية، خاطب تيلرسون ضيوفه بالزعم انّ العالم «سيشهد قريباً تطوّراً في طبيعة المواجهة بالتحوّل من مرحلة العمليات العسكرية الكبرى الى مهام إرساء الاستقرار»، وما يتبعها من «جهود لنزع الألغام وإعادة العمل بالخدمات الطبيعية بتوصيل الماء والكهرباء».

على صعيد التحرك السياسي، لم يشذّ تيلرسون عن العموميات قائلاً انّ بلاده تنوي «الاستمرار في جهود التوصل لحلول سياسية لكافة النزاعات السياسية والطائفية التي أسهمت في تجذّر داعش.. واستمرار دعم قوى التحالف في برامج تدريب قوات الشرطة الأمنية».

مصير القوات العسكرية الأميركية في العراق جاء على لسان وزير الدفاع جيمس ماتيس، معلناً تأييدة «لإبقاء قوات عسكرية أميركية في العراق بعد الانتهاء من معركة تحرير الموصل الدائرة. « وشاطره رئيس هيئة الأركان، جوزيف دانفورد، أمام لجان الكونغرس المختصة بشؤون القوات العسكرية، قائلا انّ «قوات الأمن العراقية ستحتاج لدعم الولايات المتحدة لعدة سنوات مقبلة».

مركز الدراسات العربية ـ الأميركية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى