«الإقليم» والفساد السياسي يعرقلان التسوية في لبنان

د. وفيق إبراهيم

هناك عاملان يمنعان اعتماد سياسة «الغلب» في لبنان، أحدهما هو النظام الطائفي والآخر هو الفساد السياسي…

وفيما يفرض العامل الأول وجود كلّ المكوّنات الطائفية في المؤسسات السياسية بميثاقية عجيبة، يدفع العنصر الثاني نحو «التحاصص» التحالفي الفاسد في إدارة المال العام بين ممثّلي هذه المكوّنات للتغطية الوطنية الشكلية.

فمن الذي يعرقل إذاً إنتاج «تسوية طائفية» حول إنتاج قانون «انتخاب طائفي»، لا سيّما أنّ الحصص العددية للمذاهب «مقدّسة»؟

السبب الأول هو تقسيم الدوائر الانتخابية بما يؤدّي إلى تلاعب مسبق في نتائجها… هذا ما حصل في مرحلة النفوذ الماروني الذي سيطر على غالبية المقاعد المسيحية، وعلى قسم من مقاعد المسلمين. فقادت «السياسة المارونية» البلاد بدعم غربي فرنسي ولاحقاً أميركي لأكثر من نصف قرن، وأسّست الهيمنة على الوظائف الأساسية في البلاد إلى درجة أنّ كلّ الفئات الطائفية أصبحت تعتبر الوظائف العليا جزءاً مقدّساً من تراثها التاريخي لا يمكن التنازل عنه، مثل قيادة الجيش ومديرية المخابرات ومصرف لبنان والأمن العام ومجلس الإنماء والإعمار وقيادة قوى الأمن وصناديق المال.

وهذا ما جرى أيضاً ابتداءً من 1990، حيث تمكّن الرئيس الراحل رفيق الحريري بعلاقاته الجيدة مع السوريين والسعوديين من إحداث تغييرات في الدوائر على مستوى عديد الناخبين وعدد المقاعد في آن معاً. فنجح بالتأسيس لأكبر كتلة نيابية موالية له أتاحت إمساكه بالمؤسسات العامّة، مع إنجازه لمحاصصة مع قادة مسلمين آخرين صاروا حلفاء له، وشخصيات مسيحية أصبحت جزءاً من كتلته.

لقد اتّسمت مرحلة «ما بعد الحريري» بانسداد سياسي كامل، فافتقدت «الساحة الطائفية» إلى «سياسي قوي» متفرّد يمثّل مشروعاً إقليمياً يستطيع من خلاله الإمساك بالداخل اللبناني… حاول رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري ولم ينجح، وكذلك فعل رؤساء حكومة آخرون فنالهم ما أصابه، والسبب أنّ كلّ القوى الطائفية اللبنانية الأخرى تنبّهت إلى «الأبعاد» التي مثّلها الراحل الحريري، وقوّته في الربط بين السوريين والفرنسيين والسعوديين في آن معاً. وعندما اصطدمت القوى الإقليمية والدولية الداعمة له في ما بينها، سقطت الحريرية السياسية.

يتّضح إذن أنّ السبب الثاني الذي يعرقل إنتاج قانون جديد للانتخابات هي الخلافات المستعرة بين قوى الإقليم، والنافذة تاريخياً في لبنان، كانت فرنسا لاعباً نافذاً متفرّداً، لكنّها أخلت الساحة بعد تراجعها العالمي للقوّتين الأميركية والمصرية التي أنتجت في ستينات القرن الماضي مرحلة فؤاد شهاب.

ومع تراجع الدور المصري، أصبح القرار السياسي في لبنان رهناً بتوافقات بين ثلاث قوى، الأميركية والسورية والسعودية، إلى أن انفجرت الأوضاع في سورية فحلّت إيران بدلاً منها في التأثير على لبنان. وبما أنّ الصراع في الإقليم يتصاعد بين واشنطن والرياض من جهة، وطهران من جهة ثانية، فإنّ انعكاسه على الساحة اللبنانية أمر حتمي، ولم يعد بوسع القوى الداخلية تأمين تبرير سياسي إقليمي لأية تفاهمات داخلية، فكيف يمكن أن نوجّه سيلاً من الشتائم والاتهامات بالعمالة لقوى في الإقليم، ونعقد اتفاقاً سياسياً مع تنظيمات سياسية لبنانية موالية لها؟ أليس هذا ما يحدث بين حزب الله المؤيّد لإيران وحزب المستقبل السعودي؟

أمّا عن الجانب المسيحي، فيمرّ حالياً بمرحلة تعويض «الخسائر الدستورية» التي تكبّدها في المرحلة الحريرية، والمناسبة مؤاتية، لأنّ الرئيس الحالي للبلاد هو العماد ميشال عون الذي يتمتّع بشعبية مسيحية كبيرة في لبنان. ومع غياب زعماء فعليّين للأقليّات المسيحية في سورية والعراق وفلسطين ومصر، يمكن القول إنّ الرئيس عون هو زعيم للمسيحية العربية من دون منازع.

هناك عامل آخر يدفع المسيحيين اللبنانيين إلى التشدّد في إنتاج تسوية لقانون الانتخاب، أوّلها ما يحدث لإخوانهم في الإقليم… مسيحيو سورية عرضة للهجمات الانتحارية والقاتلة، والتهجير وكنائسهم تحترق ويجري تفجيرها أمام كاميرات الإعلام الغربي الذي لا يعير مثل هذه الأمور أيّة أهمية. وكان عدد المسيحيين السوريين يزيد عن المليوني نسمة، فكم بقي منهم على أرضهم التاريخية؟

وينسحب الأمر على مسيحيّي العراق الذين طردتهم قوى الإرهاب من مواطنهم التاريخية في العراق، فتشرّدوا في أقصى الأرض حتى أنّهم وصلوا إلى السويد والدنمارك والنروج. هذه البلدان التي أعطتهم جنسياتها، لأنّها اعتبرتهم قابلين للاندماج السريع في ثقافتها.

أمّا مسيحيّو مصر، فهم عرضة بشكل دائم لاستهدافات إرهاب القوى الإسلاموية من سلالة القاعدة وانحرافات الإخوان المسلمين، ويتصاعد تفجير كنائسهم على الرغم من أنّ أقباط مصر لم يحملوا مشروعاً سياسياً غربياً مناهضاً للدولة المصرية، ومن أصل اثني عشرة مليون قبطي، لم يبقَ على أرض الكنانة إلّا أربعة ملايين فقط. وسبب النزوح هو الإفقار التاريخي والإرهاب الإسلاموي وعجز الدولة عن الدفاع عنهم، مع تردّد المؤسسة الدينية في جامع الأزهر في كشف الغطاء الديني عن الإرهاب المنتحل صفة الإسلام.

ولم ينجُ مسيحيو فلسطين من المصير نفسه، لكنّ الإرهاب الذي هجّرهم هو الإرهاب اليهودي الذي احتلّ فلسطين وطرد أهلها من المسلمين والمسيحيين مانعاً تطوّرهم.

لذلك، فإنّ الإرهاب الإسلاموي الذي يضرب في الإقليم وسحب الصلاحيات الدستورية التي كان يتمتّع بها الرئيس اللبناني المسيحي، هي عناصر فرضت على القوى المسيحية الحالية أن تحاول الاستفادة من وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة البلاد، لتأمين قانون انتخابات جديد يؤمّن الحصانة الدستورية للمسيحيين اللبنانيين في آخر معقل عربي لهم يتمتّعون فيه بشيء من حرية الحركة… من دون أن ننفي إمكانية وجود طموح سياسي شخصي لقيادات في التيار الوطني الحر المؤيّد لعون، ومن دون أن ننكر أيضاً وجود مسعىً من التيار الوطني الحر للسيطرة على المسيحيين ولبنان في آن معاً.

هذه هي العناصر التي تعرقل حتى الآن إنتاج قانون جديد للانتخابات النيابية، وهي تجمع بين العناصر الإقليمية والإرهاب العالمي والطموحات الداخلية، فهل يستطيع الوزير جبران باسيل، بصفتَيه، الأولى كونه صهراً للرئيس عون، والثانية رئاسته للتيار الوطني الحر، أن يمرّر مشروعه الانتخابي الواضح المرامي والأبعاد الطائفية والشخصية. لكن هناك قوى لبنانية أخرى وازنة داخلياً، ولديها أدوار وعلاقات على المستويين الإقليمي والدولي، تعرض بدورها اقتراحات بمشاريع انتخابية تؤدّي إلى هيمنتها، كما توجد قوى مذهبية وطائفية بوسعها تعطيل كلّ الاقتراحات بقوّة بقوة «الميثاقية» التي تمنع ما يسمّى «الغلب الطائفي»، أيّ بما يشبه استعمال «الفيتو» في مجلس الأمن. أليس هذا ما يفعله الوزير وليد جنبلاط عندما يعترض باسم الطائفة الدرزية على اقتراح قانون لا يوائم زعامته؟ محركاً القوى الشعبية والدينية عند اللزوم؟

ويبدو أنّ الكاردينال الماروني بشارة الراعي هو الوحيد الذي يتجرّأ على السياسيين، بدليل أنّه دعا في عظة الفصح ما أسماه الجماعة السياسية إلى عدم استعمال الطوائف لتأمين سيطرتها على المؤسسات والإدارة العامّة والمال العام، كما تفعل دائماً.

فهل يستجيب سياسيو «الجماعة السياسية»، كما وصفها الراعي، لنصائحه؟ الوقت لا شكّ ضيّق، وهناك ضرورة «للاعتراف السياسي بالآخر» مهما كان حجمه متواضعاً، وعلى أسس تراعي متطلّبات الاندماج الحديث بين ابناء الطوائف، ولا تتسبّب بتفجير طائفي يطيح ما تحتويه دولة لبنان الكبير، الذي جعلوه صغيراً جداً ومرشّحاً لأن يصبح ايالات عثمانية صغيرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى