ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

الرفيق نقولا داود… مثال وقدوة

عرَفت بلدة «جبرائيل» الحزب مع أوائل ثلاثينات القرن الماضي، عندما انتمى الرفيق نقولا خوري، ثمّ تبعه آخرون، أبرزهم شقيقه الأمين منير الذي تولّى مسؤوليات مركزية، وانتُخب عضواً في المجلس الأعلى، فرئيساً له.

أحد رفقاء بلدة «جبرائيل» المجهولين، كان غادر إلى منطقة نائية في البرازيل، وفيها تعرّف إلى الحزب، فأقسم ونشط وكان من أوائل مؤسّسي العمل الحزبي في مدن وبلدات منطقة «المثلث الميناوي» 1 من ولاية ميناس جيرايس، واستمر حتى آخر لحظات حياته، مؤمناً بالحزب، ملبّياً، معطاء، لا يتأخر عن موعد اجتماع، ولا يغيب. هذا الرفيق هو نقولا داود الذي كان منحه الحزب «وسام الواجب» بتاريخ 2/6/1990، وأقامت له «مفوضية أوبرلنديا» حفلة تكريمية حضرها منفذ عام الوسط البرازيلي 2 ورفقاء من برازيليا، غويانيا، آنابوليس، ومن بلدات محيطة بأوبرلنديا.

ولد الرفيق نقولا الياس حنا داود في بلدة «جبرائيل» ـ عكار في 15/11/1903، وعندما شبّ، وكان والده سبقه إلى البرازيل، غادر الوطن عام 1925 إلى بلدة «سان جوزي دو ريو باردو» في ولاية سان باولو حيث عمل في التجارة المتنقلة، كمعظم أبناء شعبنا الذين غادروا إلى البرازيل، فكان يتجوّل في المَزارع والأدغال سيراً على الأقدام أو على ظهور الدواب، متعرّضاً في أيّ وقت للموت.

عام 1927 تمكّن من افتتاح محل مع والده في جوار البلدة أعلاه، بعد أن أنهى والده شراكة تجارية له مع مواطن من «جبرائيل» هو ابراهيم الدريبي.

هذا الاستقرار جعله يشترك في صحف ومجلات اغترابية، منها «أبو الهول» و«القلم الحديدي» و«الرابطة» للدكتور خليل سعاده، التي راحت المقالات المميّزة التي تنشرها تؤثّر إيجاباً في تفكير الشاب نقولا، كغيره من أبناء الجالية الذين كانوا يتابعون بشغف مقالات الدكتور خليل.

في أواسط الثلاثينات وصل من بلدة «جبرائيل» الرفيق سامي الدريبي في فترة كانت بدأت الأنباء ترد عن انكشاف أمر الحزب عام 1935 واعتقال السلطات الفرنسية مؤسّسَه أنطون سعاده، فراح الرفيق سامي يتحدّث عن الحزب، عقيدة وأهدافاً، مصارحاً الرفيق نقولا أنه كان انتمى إلى الحزب في بلدته «جبرائيل» مع رفقاء آخرين، منهم حبيب داود.

وفي هذا المجال يقول الرفيق نقولا: «أعجبت بأهداف الحزب، خصوصاً أننا كنا نتشوّق إلى شخصية قيادية تعمل لاستقلال وطننا وسيادته، وتُحرّرنا من الأجانب».

«عند تولّي الأمين وليم بحليس 3 مسؤولية المنفذ العام في سان باولو، كتب له الرفيق سامي الدريبي وطلب إليه تزويده بنسخة عن مبادئ الحزب وقَسَم الانتماء، إذ كنت اتفقتُ مع مجموعة مواطنين في سان جوزي دو ريو باردو على الانتماء إلى الحزب، أذكر منهم سليم الخالد، جورج حنا عبود، أسعد داود، وهكذا تمّ انتماؤنا على يد الرفيق سامي الدريبي عام 1938».

«وفي عام 1944 انتقلتُ إلى أوبرلنديا بسبب حاجة أبنائي إلى مدرسة. فيها كان يقطن الرفيق عبود أندراوس، من بينو، وكان انتمى على يد الأمين وليم بحليس. معه بدأنا نسعى إلى تأسيس فرع حزبيّ في المدينة، فراح ينتمي على التوالي الرفقاء عبد الله حداد من الباروك ساسين جرجس، حبيب المعماري وجرجس الراسي من جبرائيل ، عبد القادر بكر من بلدة مشحى قرب جبرائيل محمد توفيق رعد من بعلبك وغيرهم، حتى أصبح عددنا عند إنشاء المديرية عام 1946، 18 رفيقاً، وتولّى الرفيق عبد الله حداد مسؤولية المدير فيها.

هذه النواة راحت تكبر وتنشئ فروعاً حزبية في مدن وبلدات مجاورة منها «Araguau» و«tupaciguara».

هذا ما حدّثني به الرفيق نقولا داود عام 1984 وهو كان شارف على 81 سنة. رغم ذلك لم يُعقد اجتماع حزبيّ واحد في مدينة أوبرلنديا إلا والرفيق نقولا من أوائل الحضور، ولم يأتِ مندوب أو مسؤول حزبيّ إلى المدينة إلا ووُجد الرفيق الثمانيني يصغي ويتتبع ويسأل باهتمام وقلق وإيمان عظيم.

ورغم تقدّمه في العمر كان الرفيق نقولا يتابع القراءة والاطلاع، و«يلتهم» صفحات مجلات الحزب من الغلاف إلى الغلاف، ما جعله في الجالية، وفي كل لقاءاته، إذاعة قومية اجتماعية متمتّعاً بثقافة عامة، وحزبية، جيدتين.

كنت أتوقف في «أوبرلنديا» كلما توجّهت لزيارة الوسط البرازيلي وفيه مديريات غويانيا، آنابوليس وبرازيليا. كان مفوض «أوبرلنديا» الرفيق سالم بربر 4 رفيقاً نشيطاً، صادقاً في التزامه وتعاطيه، أسّس حضوراً جيداً في الجالية إلى جانب خاله رجل الأعمال وصديق الحزب نعمان مشيلح. وصدف أن التقيت اكثر من مرة بوالدته الفاضلة التي عرفت كثيراً بـ«أمّ سالم»، وعندما زرت ملبورن في أستراليا تعرّفتُ إلى شقيقه الرفيق سامي الناشط والمسؤول حزبياً مع عقيلته الرفيقة جمانة.

وإني لا أنسى يوم زرت «أوبرلنديا» فترافقت مع الرفيقين نقولا داود وسالم بربر لزيارة الرفيق ابراهيم حبيب طنوس 5 في بلدة «آراشا». كما لن أنسى ذلك اليوم من عام 1990 عندما زرت الرفيق نقولا في منزله أودّعه قبل مغادرتي البرازيل عائداً إلى الوطن، فوجدته يقرأ مجلة «البناء» بشغف، وإذ رآني هبّ واقفاً بالتحية، لأعانقه، وأفرح به، وأشعر بالتيه والاعتزاز.

إن حزباً يبقى شيوخه على مضاء العزيمة، ويشبّ أطفاله على الإيمان به واليد المرفوعة بالتحية، هو حزب يبقى، يستمرّ، وينتصر.

معلومات

اقترن الرفيق نقولا من السيدة عزيزة نعمة نقولا من جبرائيل ومواليد البرازيل وأنجبا خمسة صبيان وفتاة واحدة: ناجي/ خبير عقارات، صلاح/ طبيب أطفال، الياس/ مهندس معماري، وليام/ طبيب قلب، إدوارد/ خبير محاسبة، ومارلين/ أستاذة جامعية فرع الرياضيات .

كان له حضوره المميّز في أوساط الجالية في مدينة «أوبرلنديا»، ومعظمها من عكار، كما أن لأبنائه حضورهم البارز أيضاً.

عُرف عنه صدقه، وفاؤه، إيمانه الفذّ بالحزب، وقوة منطقه.

رفيق آخر استقر في ولاية ميناس جيراس، هو الرفيق حبيب ابراهيم طنوس، من بلدة دير دلوم عكار . كان يقيم في بلدة «آراشا»، وله كتابات في التاريخ في مجلات الحزب، ومجلات اغترابية ومنها «الندوة» التي أصدرها الأمين عبد الله قبرصي في فترة إقامته في فنزويلا. تلقّى من سعاده أكثر من رسالة. بقي قومياً اجتماعياً حتى آخر زفرة من حياته. وكنت قد زرته في «آراشا» بصحبة الرفيقين نقولا داود، وسالم بربر من الحاكور ـ عكار وكان يتولى مسؤولية مفوض الحزب في مدينة «أوبرلنديا».

عن الحزب في «جبرائيل»

يروي الأمين د. منير خوري في كتابه «سفينة حياتي» أنّ المرّة الأولى التي سمع فيها بالحزب، عام 1933 حين كان شقيقه الأكبر نقولا، يتحدّث عن نشاط ونهضة لحزب سرّي، ويستفيض عن هذا الحزب بتكتم شديد وحماسة أشد، فدفعه فضوله، وكان لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر، إلى التساؤل لماذا هذا التكتم الشديد وكان الجواب: «بكرا بتكبر يا منير وبتفهم أكثر 6 ، وكبر الأمين منير. يقول 7 : «في صيف 1940، التقيت للمرّة الأولى بشاب يدعى أسد الأشقر في رحبة، القرية المجاورة لجبرائيل، وبلدة زوجته السيدة رؤوفة 8 . كان ذلك الشاب في أوج شبابه يتحدّث مع بعض أقرباء زوجته بحرّية عن الحزب وبحرارة وإيمان فائقين أثّرا فيّ وفي بعض أترابي في القريتين جبرائيل ورحبة».

استمرت اللقاءات بيننا وبين الأستاذ أسد أياماً نستمع إليه، نسأله ويجيبنا حتى «استوت الطبخة» كما يقول المثل العامي. والحقيقة أن الطبخة لي كانت «شبه مستوية» لا تحتاج إلى أكثر من جذوة خفيفة لتنضج. ونضجت. فانتهت تلك اللقاءات بِقَسَمنا اليمين الحزبي أمامه، وبحضور الرفيقين حبيب سكاف ونقولا يزبك، رحمهما الله 9 .

ويضيف الأمين منير خوري الصفحة 47 : «في الفترة الواقعة بين 1942 و1946 وهي الفترة التي تقاطعت فيها نشاطاتي الريفية مع نشاطاتي الحزبية في جبرائيل، انضمّ إلى الحزب مئات من الشبان والشابات في عكار عامة، وفي قرية جبرائيل خصوصاً، التي بلغ عدد المنتمين فيها ما يقارب من سبعين عضواً. كانت بعض الأمّهات يأتين متوسطات راجيات: دخلك يا أستاذ منير، دخّلي ابني معك بالجمعية. فقد كان ذلك أمراً طبيعياً لأن الحزب لم يكن يعني كثيراً للمواطن القروي البسيط، لا لفلسفته المدرحية ولا لعقيدته القومية بقدر ما كان يعني له من سلوك أخلاقي عند أفراده. إنّ الذي أثرّ فيهم كثيراً هو ذلك التغيير الجذري الذي أحدثه الحزب في نفوس أبنائهم وسلوكهم».

هوامش

1 أطلق اسم «المثلث الميناوي» على منطقة شاسعة من ولاية ميناس جيرابس، لأنها محاطة بولايات ثلاث: غوياز، ميناس جيراس، وسان باولو.

2 كان يتولّاها الرفيق خليل مسوح من مرمريتا المقيم في العاصمة برازيليا، التي كانت تضمّ مديرية كبيرة وناشطة.

3 وليم بحليس: من بلدة منيارة، مُنح رتبة الأمانة، تولّى مسؤولية منفذ عام وكان وجهاً بارزاً في الجالية.

4 سالم بربر: من بلدة الحاكور عكار . شقيق الرفيق سامي بربر المقيم في ملبورن، وتولّى مسؤوليات حزبية فيها.

5 ابراهيم حبيب طنوس: من بلدة دير دلوم عكار كاتب ومؤرّخ. وجّه له سعاده اكثر من رسالة، وله كتابات كثيرة في صحف الحزب، كما في صحف المهجر البرازيلي.

6 الصفحة 43، من «سفينة حياتي».

7 الصفحة 45 من الكتاب أعلاه.

8 رؤوفة الأشقر: هي الرفيقة رؤوفة خوري أمّ غسان التي كان لها دور بارز إلى جانب الأمين أسد الأشقر، رئيساً للحزب، ونائباً عن المتن الشمالي. وأحد أبرز قياديي الحزب.

9 لا يورد الأمين منير إذا كانت عبارة «قَسَمنا» تعنيه وحده، أو تعني آخرين من أترابه ممّن كانوا يحضرون اللقاءات مع الأمين أسد الأشقر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى