أيّ نموذج للدولة نريد؟

د. زهير فياض

لا شك في أنّ الجدل السياسي القائم حالياً في لبنان يتركز بشكل أساسي حول قانون الانتخاب، إضافة طبعاً إلى العديد من المسائل المتعلقة بالمقاومة، والملف الاقتصادي – الاجتماعي، وطبيعة النظام السياسي اللبناني بما يؤدّي إلى رسم الدور المستقبلي لهذا الكيان، من خلال تحديد الهوية السياسية له وسط هذا الكمّ من صراعات كبرى تشهدها المنطقة بأسرها، والتي يشكّل لبنان بطبيعة الحال – ساحة أساسية من ساحاتها. هذا الجدل يحمل أهمية بالغة نظراً لتداعياته على واقع الدولة في لبنان ككلّ، وعلى كامل التركيبة السياسية فيه، وعلى شكل الحكم والنظام فيه، وعلى التقاطعات المشتركة التي تواجه دول المنطقة ككلّ.

لذا، من البديهي القول إننا نحيا زمن تحوّلات سياسية ذات طابع استراتيجي في مسار الصراع الأساسي الذي يواجه شعبنا في كياناته ودوله ضمن حدود سايكس – بيكو وما بعد سايكس بيكو، حسب الخطط والمشاريع التي تزدحم في أجندات الدول الأجنبية التي تنظر إلى بلادنا باعتبارها مركز ثقل أساسي في تحديد شكل وجوهر ترتيبات النظام العالمي الجديد الذي لم تتحدّد ملامحه بعد، بالنظر طبعاً – إلى تعدّد القوى المتصارعة حول العالم، وتغيير الكثير من موازين القوى محلياً وإقليمياً ودولياً، وهذا ما سيترك بطبيعة الحال بصماته على الحاضر والمستقبل ليس فقط في لبنان بل في المنطقة كاملة، التي تواجه أخطاراً هائلة لا بدّ من مواجهتها وفق رؤية استراتيجية واضحة في الفكر والاقتصاد والسياسة والأمن والتربية وفي مناحٍ مختلفة ومتعدّدة، وإلا ستدفع المنطقة بأسرها ومن ضمنها لبنان أثماناً باهظة إذا لم ننجح في ترسيخ النموذج المأمول في بناء وعي وطني وقومي شامل يؤسّس لبناء مفهوم عصري للدولة والمجتمع على قاعدة معرفية ترتكز بشكل أساسي على بلورة رؤية استراتيجية وخطة للمواجهة تقوم على بناء الحكم الرشيد، فصل الدين عن الدولة، تعزيز مفهوم المواطنة، وتقوية الشعور بالانتماء إلى المجتمع، إلى الوطن، والتأسيس لعلاقة جديدة بين المواطن والدولة.

من هذا المنطلق، لا يمكن فصل النقاش في لبنان عن النقاشات التي تجري في المحيط القومي نظراً للبعد الاستراتيجي التكاملي بحكم التاريخ والجغرافيا والعمق الحيوي الاستراتيجي للبنان والتأثيرات المتبادلة مع هذا المحيط.

وأيّ قراءة سياسية للواقع السياسي اللبناني وتفصيلاته لها ارتدادات تتخطّى الواقع اللبناني، وبهذا المعنى، فإنّ النقاش القائم حالياً حول قانون الانتخاب في لبنان لا يعدو كونه تفصيلاً بل شأن أساسي ذو طابع هام في رسم شكل الحكم والنظام في لبنان تحديداً، كذلك شكل أنظمة الحكم في البيئة الطبيعية كاملة، من سورية الشام الى العراق.

لذا، فالرهان حالياً هو في القدرة على مواجهة التحديات السياسية القائمة بروية ووعي، لرسم صورة للبنان نموذجية يتغلب فيها العقل على كلّ النوازع والغرائز الجزئية ومشاريع التشظية والتقسيم والتفتيت والتفخيخ لبنية مجتمعنا، مع ما تحمله لو نجحت في تدمير القاعدة الأساسية للاستقرار والسلم الأهلي المجتمعي ليس فقط في لبنان بل في بلادنا كلها.

تتشابه الظروف في المنطقة، نظراً لتشابه الوقائع والحقائق الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية على مدى مساحاتها، وربح معركة بناء الدولة في لبنان على قاعدة المواطنة والهوية والانتماء القومي سيشكل زخماً وسنداً ودعماً قوياً لانتصار مفهوم الدولة، وفق هذا المنظور في المحيط.

ولعلّ المدخل الحقيقي لريادة لبنان وتحقيقه النموذج المأمول، هو في القدرة على إنتاج قانون انتخابي حقيقي لا يُعيد فقط إنتاج السلطة السياسية فيه، بل يُعيد صياغة المفاهيم الوطنية والقومية الإنسانية «المبتورة» في أتون الصراعات الجزئية المجانية العبثية التي دفع لبنان ثمنها غالياً من أرواح أبنائه ومستوى عيشه وحياته بشكل عام، وهذا لن يتحقق إلا من خلال قانون انتخابي عصري خارج القيد الطائفي يعتمد النسبية ولبنان دائرة واحدة بما يؤدّي الى تحقيق غرضين أساسيين:

الهدف الأول: إنتاج وتجديد السلطة السياسية في لبنان بما يخدم قيام حكم ونظام سياسي عصري يتصدّى للمشاكل والتحديات في السياسة والاقتصاد والتربية والأمن والثقافة والمقاومة وغيرها من المسائل.

الهدف الثاني: ترسيخ مفهوم جديد للمواطنة يتخطّى الانتماءات الجزئية ليؤكد وحدة الحياة والمصير الواحد للإنسان والمجتمع.

هذا المسار ضروري، ليس فقط للبنان بل لدول بلادنا كلها بما يهزم فعلاً مشاريع التقسيم والفدرلة والتفتيت التي تطلّ برؤوسها، إما من نافذة الصراع العسكري المسلح لا سيما في سورية الشام والعراق أو من خلال مفاعيل سياسية تمزق بنية المجتمع ويأتي على رأسها ما يتمّ تسويقه من مشاريع قوانين انتخابية تساهم في تعميق الانقسام الأفقي والعمودي للمجتمع وتخلق حواجز نفسية وروحية تشكل توطئة لقيام فدراليات واقعية على أرضية الصراعات الداخلية التي لن تؤدي إلا إلى الخراب وعلى المستويات كلها.

السؤال اذاً: أيّ نموذج للدولة في لبنان نريد؟

عميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى