لعبة الأمم الناخب الأكبر لحاكم الإليزيه!

أسامة العرب

لطالما توهّمنا بأنّ الديمقراطيات المزعومة تمنح شعوبها مفاتيح الخزائن وصناديق الاقتراع، ولطالما كان مالك المال والنفوذ هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة بتعيين أو توظيف الحاكم الجديد، وإيمانويل ماكرون لم يُخالف الحقيقة حينما قال بأنّ نتائج الانتخابات الرئاسية قد ضربت بنية النظام السياسي الفرنسي الذي ارتكز منذ عقود على احتكار السلطة وكرسي الأليزيه بين مرشحي اليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي. فالنتائج الحاصلة تشير إلى فشل المنظومة السياسية القديمة والأحزاب التقليدية في فرنسا، وذلك بعدما باتت الرئاسة بين وجوه جديدة عديمة الخبرة مثل إيمانويل ماكرون، ووجوه أخرى متطرّفة وعنصرية كمارين لوبان.

والحقيقة أنّ الأزمة الداخلية التي تعاني منها فرنسا، ابتدأت منذ أن فشل ديغول بالخروج من مطرقة التدخل الأميركي، إذ وجدت فرنسا نفسَها بين خيارين، الأول أنها لا تريد لأميركا أن تهيمن عليها عسكرياً وسياسياً وثقافياً، والثاني أنها لا تريد في الوقت نفسه مواجهة الولايات المتحدة حفاظاً على مصالحها. ولقد كانت هنالك محاولة فرنسية ألمانية لإيجاد وحدة أوروبية يمكنها أن تقاوم الهيمنة الأميركية على أوروبا ببعديها الاقتصادي والسياسي، وقد حققت الكثير من خططها، فعلى الصعيد الأوروبي تجلّى الأمر في إنشاء العملة الأوروبية الموحدة اليورو، والسوق الأوروبية المشتركة وعلى صعيد العالم الثالث، تجلى الأمر بالتمهيد لإقامة شراكات أوروبية متوسطية، إلا أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية التي امتدّت للاتحاد الأوروبي قلبت هذه المعادلة رأساً على عقب.

ولهذا، فإنّ مارين لوبان قد أعلنت مراراً وتكراراً عن تأييدها الخروج من الاتحاد الأوروبي للتخفيف من الضغوط الاقتصادية على فرنسا والتقرّب من روسيا، والتصالح معها من خلال خطة شاملة تبدأ برفع العقوبات الأوروبية عنها، وصولاً إلى الانفتاح السياسي عليها. وإذا ما انضمّت فرنسا إلى ركب المنسحبين من الاتحاد الأوروبي، فلن يعود باستطاعة هذا الاتحاد أن يفتح الآفاق لألمانيا كعملاق اقتصادي، ما سوف يؤدّي لتقوقعها من جديد داخل حدودها، ومن هنا ستكون الهزيمة القاسية لها وسينتهي الدور الدولي الذي تلعبه المستشارة الألمانية عندما يتفتّت الاتحاد الأوروبي. وما أدلّ على ذلك، سوى هزيمة ميركل في الانتخابات الإقليمية في مسقط رأسها ماكلنبورغ فوربرومن، عقاباً لها على تبنّي سياسات معارضة لسياسات الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم. هذا عدا أنّ ظاهرة الذئاب المنفردة القادمة من رحم اللوبيات اليهودية والتي تسعى لتشويه صورة الدين الإسلامي، ترفع وسترفع من حظوظ كلّ الأحزاب اليمينية الأوروبية الشعبوية بالوصول إلى الحكم.

وبالتالي، فالأسباب نفسها التي أوصلت ترامب لسدّة الرئاسة، من المرجّح أن توصل مارين لوبان مستقبلاً للرئاسة في 7 أيار المقبل، لا سيما أنّ محاولة الخروج من الاتحاد الأوروبي تلقى دعماً كبيراً من الرئيس الأميركي ورئيسة الوزراء البريطانية، وإنْ كانت «إسرائيل» قد اتخذت موقفها المبكر بمقاطعة لوبان بسبب رفضها تحميل بلادها مسؤولية المحرقة اليهودية المزعومة، إلا أنّ حصص ماكرون ليست معدومة، لا سيما بعدما قدّم وعوداً للجاليات اليهودية بأنه سوف لن يعترف بفلسطين كدولة حتى لو أفشلت «إسرائيل» مبادرة حلّ الدولتين، ما جعل اليمين واليسار الفرنسيين يلتفان حوله لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة.

ولكن في ما عدا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، فلا توجد أية متغيّرات تتعلق بسياسة الدولة الفرنسية العميقة التي لها مؤسّساتها وتقاليدها، والتي لا يمكن أن تتأثر بوصول شخص جديد إلى سدة الرئاسة، لا سيما السياسة الفرنسية حيال «إسرائيل» والتي تعود إلى العام 1946 عندما رعت فرنسا الهاغانا الذراع العسكرية الرئيسية للحركة الصهيونية، وعندما وقعت في العام 1955 مع «إسرائيل» اتفاقية سرية تامة سمحت للأخيرة بامتلاك القنبلة النووية، حيث أشرف الفرنسيون على إقامة مفاعل ديمونة في صحراء النقب. كما ساهمت فرنسا في برنامج «إسرائيل» الصاروخي، حيث كان الصاروخ «الإسرائيلي» شافيت عام 1960 ثمرة هذا التعاون، والذي ساهم بخسارة العرب لحروبهم معها. كما زوّدت فرنسا تل أبيب بطائرات ميراج 3 التي استعملها الجيش «الإسرائيلي» بكثافة في حرب حزيران 1967. وقد عرفت العلاقات الفرنسية «الإسرائيلية» في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي طابعاً حميمياً خاصاً جسّدته التصريحات المتكرّرة له والمؤيدة لـ«إسرائيل»، من ذلك تصريحه بامتناعه عن مصافحة كلّ من يرفض الاعتراف بدولة «إسرائيل». ومثلما نُقل عنه أنّ أمن «إسرائيل» خط أحمر، وأنّ قيام دولة «إسرائيل» معجزة، وأنه كان الحدث الأهمّ في القرن العشرين.

أما سياسة الدولة الفرنسية حيال منطقة الشرق الأوسط فثابتة أيضاً، ويمكن الرجوع الى قول بريجينسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» للتأكد من ذلك، حيث قال: في ظلّ النظام الدولي الجديد، يمكن القول بأنه ليس لأوروبا أيّ دور يُذكر خارج إطار سياسة الولايات المتحدة، وهذا الأمر ينساق على فرنسا وسياساتها الخارجية التي أصابها العجز جراء التسلط الأميركي، فهي وإنْ أرادت في بعض مواقفها التميّز عن السياسة الأميركية، إلا أنها في نهاية المطاف تعود الى الظلّ الأميركي بإرادتها أو بسبب ضعفها.

بالنتيجة، فإنّ التحولات الدولية كلّها التي تجري في أوروبا اليوم وخارجها، تلخصها صحيفة الإندبندنت البريطانية بأنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعرض تغيير سياساته في الشرق الأوسط، مقابل تخلّي حلفاء الصين عنها وتحسين العلاقات مع روسيا، وما الاستدارة التركية المشروطة نحو موسكو إلا ضمن هذا الاتجاه.

ما معناه بأنّ القوة الاقتصادية والعسكرية للصين التي تمتلك آلاف الرؤوس والقنابل النووية، باتت تقلق واشنطن. ومخاوف الأخيرة من الصين تصبح مبرّرة عندما نعلم بأنّ صندوق النقد الدولي يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين بحسابات تعادل القوة الشرائية في عام 2019 إلى 26.867 ترليون دولار، بينما يقتصر الناتج المحلي الإجمالي الأميركي على 22.174 تريليون دولار، أيّ أنّ حجم الاقتصاد الصيني يُتوقع أن يفوق حجم الاقتصاد الأميركي بنحو 21 في المئة في ذلك العام.

وبالتالي، فبعد تضعضع الاتحاد الأوروبي جراء أزمة الديون الأميركية، من الطبيعي أن تشعر واشنطن بالخطر الصيني المتصاعد، وأن تسعى لغلق الممرات البرية والبحرية المتعلقة بالطاقة في وجهه، ولدعم استقلال التايوان عن الصين ومحاولة إبرام اتفاقيات عسكرية معها والوقوف لجانب اليابان في الجزر المتنازع عليها مع بكين، ونشر عشرات القواعد العسكرية التي تهدّد الأمن القومي الصيني وأبرزها قاعدة باغرام في أفغانستان، والدرع الصاروخية المنشورة في كوريا الجنوبية.

ولهذا، فمن غير المستغرب أن يرتفع منسوب التوتر السياسي والديبلوماسي ما بين أميركا وبين الصين وحليفها الاستراتيجي كوريا الشمالية. ومن غير المستغرب أن يقرّر رئيس كوريا الشمالية كيم يونج إخلاء العاصمة الكورية الشمالية من ربع سكانها أيّ حوالي 600 ألف مواطن استعداداً للحرب مع أميركا، وتهديده بالردّ على أيّ هجوم نووي أميركي على بلاده بالمثل. الأمر الذي أدّى إلى تراجع ترامب عن تهديداته لكوريا وظهوره بمظهر الزعيم المتهوّر الذي يفتقد للخبرة في إدارة الأزمات الدولية. ونخلص للقول بأنه ليس في السياسة الدولية لا صداقات ولا عداوات، وإنما مجرد مصالح. وعليه، فإنّ التقاء مصالح دولة الاحتلال مع مصالح القوى العظمى أدّى إلى تقسيم بلادنا واغتصاب فلسطين والأراضي المقدّسة، إلا أنّ المصالح كعادتها تبقى مصالح والحق كعادته يدحض وسيدحض الباطل ولو بعد حين.

محامٍ، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجَّرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى