«فطّوم حيص بيص»… رحلت

جهاد أيوب

نجاح حفيظ لا نعرفها جيداً، لكننا نعرف جيداً فنانة تشبهها اسمها «فطّوم حيص بيص». دخلت ذاكرتنا برشاقة الحضور والبسمة الكاسحة والطيبة العفوية والتواجد الثاقب من دون تعمّد ومن دون فذلكة.

عفوية كانت، ولم تزعجنا مهما انقلب الدور وارتفع الصوت وتكاثرت الحركة والإيماءات. وذهبت من الاداء الكوميدي إلى لحظة درامية مشبعة بثقافة فنانة فطرية تعشق التمثيل حتى ذاب التمثيل فيها.

«فطّوم حيص بيص» فرضت وجودها يوم كان الفنّ السوري التلفزيوني يعتمد على ثالوث الدراما آنذاك دريد لحام «غوار الطوشة»، ونهاد قلعي «حسني البورزان»، ورفيق سبيعي «أبو صياح». كانت نجاح تبحث عن فرصة لنجاحها، وكانت أسماء عدّة تشاركها البحث رغم بدايات شهرة ذاك الثالوث الذي أصبح ثنائياً تحت لواء «دريد ونهاد»، وكان «صحّ النوم» الحدث، وبداية النجومية الصارخة الفعلية رغم البدايات التأسيسية مثل «حمّام الهنا»، و«مقالب غوّار»، وغيرها من أعمال صغيرة وضعيفة ومتواضعة.

«صحّ النوم» بداية تأسيسية لكثيرين من نجوم سورية وصولاً إلى العالم العربي، وفي مقدّم هؤلاء النجوم نجاح حفيظ حيث أصبحت «فطّوم»، وياسين بقوش وأبو عنتر.

هذه الأسماء طغت على الأسماء الحقيقية لأصحابها، لتصبع أسماء فاعلة اختزلت كل الأدوار. وكان لـ«فطّوم حيص بيص» الانتشار الأكبر. رُكّبت عليها النكات، وصُنعت حول اسمها السوالف الضاحكة، وحيكت حول شخصيتها الفنية قصص جميلة كثيرة.

حاولت نجاح أن تخرج من «فطّوم» إنما من دون جدوى، ولعبت أدواراً كثيرة لكننا لم نتقبّلها إلا بكركتر «فطّوم» كما حال «غوّار» و«ياسينو» و«أبو عنتر» و«أبو صياح». ربما «غوّار» و«أبو صيّاح» تخطّيا مع الزمن والعمر والشيخوخة تلك الشخصيات بذكاء من رفيق سبيعي ودريد لحّام، وهذا الأخير بصعوبة تقبّل الجمهور العربي ما لعبه من أدوار خارج «غوّار» وبحذر، بينما الأسماء الأخرى التي ذُكرت لم تفلح رغم تجريبها، وتنقّلها من حالة إلى حالة، وسجنّاهم بكركتر يشبهنا، ويعيش بيننا، ويفرض بصمته هنا وهناك وفي كل الاحوال، أردنا مرافقتهم لنا، وأصبحوا من الذاكرة الشعبية العربية من دون مقدرة على إلغاء صوَرها فينا ومعنا وفي فنوننا.

«فطّوم حيص بيص» من واحات ذاكرتنا الفرحة، ومن البصمات الضاحكة الكبيرة، وكلّما الأجيال الجديدة تتعرّف إليها تعاود اكتشافها والتعلق بها كحالة رفاق دربها ممّن ذكرنا.

لها نكهتها ونوعها ولونها، وفرضت فطرتها بدقة، واستمرت في ممارسة تقديم أدوارها بالفطرة وهذا ما أبقاها متربعة في الذاكرة، وأصرّت أن تسبق إطلالتها بجلجلات ضحكتها فصرنا نعلم بقدومها قبل مشاهدتها.

«فطّوم» نكهة في الكوميديا العربية لا نملّ منها، ولا نشعر بأنها أنهكت، وقيمتها بأنها أصبحت ذاكرة ستدرّس كشخصية شعبية عبر كتاب الفنانين المقبلين.

«فطّوم» نوع في الكوميديا العربية لم تتصنّع في فرض البسمة، ولم تهرّج وتتعمّد الحركات البالية والغبية والساذجة كي نضحك على الممثّل، بل فرضت علينا بفضل نوع ما تقدّمه أن نضحك على الدور، وهذا جعلها تتربع وتتفوّق في الذاكرة العربية، لا السورية فقط.

«فطّوم» هي لون في لعبة الكوميديا المشغولة بدراما الموقف، تصل في لحظة إلى الميلودراما لتشغل فكرك ودموعك، وبسرعة البرق توصل لك دراما الكوميديا لتشعل فيك البسمة من دون تطويل الاداء، وهذا هو سحر الموهبة الفطرية.

قد يعيب على «فطّوم» أنها لم تثقف شخصيتها، فبقيت سجينة «فطّوم»، ولكن مع الزمن اكتشفنا أن أجمل ما في موهبة نجاح حفيظ عدم ثقافتها لأنها حافظت على «فطّوم» الشعبية والطبيعية، ولم تنظر فيها وحولها، لذلك في كل إطلالة تلفزيونية لها نراقبها بحبّ ومحبة وعطف، ونشعر بمعرفتنا لها كواحدة قريبة منّا، وقد تكون جارتنا، وأنها ليست غريبة عنّا.

رحلت «فطّوم حيص بيص» مساء السبت الماضي، حملت معها كل تلاشي صوَرنا ونحن نمزّق وطننا، أمسكت بالشمس في يد، وفي اليد الثانية زرعت داخل تراب سورية كل جهود فرحها وشخصية «فطّوم»، وأعمالها الإذاعية والسينمائية والمسرحية والتلفزيونية علّنا نستكشف أصول الفنّ الفطري المشغول بتعب الناس البسطاء والغلابة والأثرياء وهمومهم وفرحهم وأحلامهم.

رحلت نجاح حفيظ أو «فطّوم حيص بيص» كي تصفعنا، ورغم أنها في هذا الرحيل ارتاحت لكونها لم تعد تشعر وتشاهد أوجاع الوطن، ولكنها تركتنا نتخبّط بكذبة العيش والمصير، ولنتكالب على تجريح تحطيم الإنسان في الوطن وفكره وفنه وثقافته.

«فطّوم» أنت ذاكرتنا الشعبية اتفقنا معك أو نظرنا إلى الفن الفطري، لكوننا نحبّ الطعن بالسكين، ونعشق الغدر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى