أبناء الحياة أسرى وشهداء..

جانيت الحسن

شهيرة المواجهة الفكرية الرمزية بين الشاعر الجنوبي اللامع سعيد فياض في بيت شعري قاله، معناه: شهر نوار لا سقتك الغوادي ولا نبتت فيك نبة خضراء.. وفيه يعاتب بحدّة شهر أيار الذي ظلم الشهداء فأودى بهم معلّقي الجسوم على حبال مشانق ينقرها طير ويحوم حولها ذباب، وخلفهم زوجات ثكالى وأسر مكلومة يتيمة!

فكان ردّ تموز، الشاعر القومي فؤاد سليمان، ما معناه: لو لم يكن لنا في نوار شهيد لما ارتفع لنا ألفُ علم.

يتّضح الفارق الجوهري بين مدرستي التفكير الذي ينتمي كل منهما إليها. مدرسة هي نقيض الأخرى. مدرسة البخل بالتضحية والحرص على النفس وعلى الدم تمسّكاً بحياة فردية، هي نقيض المدرسة القومية التي تؤسّس نفساً عامة ووجداناً عاماً. فلا تقوم حياة المجاميع إلا بتضحيات أفرادها في سبيلها لتبقى، والأهمّ من البقاء نفسه هو تجويد الحياة العامة وتساميها.

الشهادة، من حيث هي بذلٌ وعطاء، ليست غايةً من أجل ذاتها، فتكتفي لتكون الحافز والواسطة والغاية، بل قيمتها الجليلة تكمن في كونها لأجل غاية أنبل من الحياة الفردية نفسها. غاية خدمة إيمان أسمى، قضية عليا، أكانت دفاعاً عن وجود أمة، أم تبشيراً بفكرة خلاص عام، أو جهاداً في سبيل قيم نبيلة يكون التفريط بها انحطاطاً لحياة أمة أو جماعة عامة.

الشهيدُ، وقيمة الشهادة أن تكون خياراً كان يمكن الاستغناء عنه لو أراد من اختاره، ليكون الاستشهاد تعبيراً قاطعاً عن وقفة عز وخيار يساوي الوجود.

كان يمكن لسقراط أن يكذِّب نفسه نعم، أنه شيطن الآلهة وأفسد عقول الناشئة. ويستغفر متّهميه على ما «ارتكب» ليعفوا عنه، لكنه هكذا يكون ألغى القيمة الحية في رعّادته كنبض فلسفي، التي بقيت أبدَ القرون تُلهم وتوحي وتؤيّدها بطولة الفكر والتفلسف.

كان يمكن لأنطون سعاده، أن يساوم ما سُمّي «المحكمة» التي قاضته بتهم مفبركة، حكمُها إعدام جسدي وحشرت في ما سمّته حكماً إجراءات قام بها سعاده المحكوم عليه، وفق نظرته القيمية للحقيقة وللإنسان والحياة ومعنى الوجود ومعنى رسالته نفسها. كان يمكن لغير سعاده أن يساوم بطريركاً أو مطراناً أو يرتجيه ليبيعه الشيخ رئيس جمهورية لبنان الصفقة ويتمّ إسقاط «الحكم». لكن في أيٍّ من هذه المثالب اغتيال عميق وماحق لأصل النظرة الجديدة للإنسان وقيمة الحياة المؤسسة للحقيقة التي قيمتها الأسمى بطولة مؤمنة فاهمة.

عظمة الشهادة هي الخيار الطوعي النبيل، بصحة من عقل المختار وبدنه، ومن دون أي قسر أو إكراه، وبوعي مطلق للآلام والنتائج والظروف، ولا تفتّ كل هذه من عزمه في الخيار الحاسم. هذا الخيار الحاسم هو فداء نقي. ترفّع عن تعلّقات الآن واللحظة والهنا.. وأنت وهو وأنتن وأنتم، وهنّ وهم.. كل هذا يغيب بين أولويات الشهيد ليبقى في بؤرة وجدانه القَسَم الذي يَسِمُ حياته كلَّها. فبالقسم أصبح وقفاً على ما أوقفه من أجله. وتحوّلت الملكية ملكية الحياة والدماء.. من شخص فرد إلى الموقوف لها أمّة أو له شعب ، ولو لم يكونا قد قبلا ما تمّ وقفه لهما.

هكذا، لا نفهم الشهادة الحقيقية إلا من جلالة الهدف الذي تحقّقت لأجله. والأمم الحيّة حريصة على حُسن الحكم والتوصيف بلفظة شهيد لتكون دقيقة ونقية وطاهرة وجليلة من سويّة رفيعة.

الشهيد هو شاهد يقدّم شهادته. شهادتُه دليل وجود وفعل وحضور قضيته وحقه وعقيدته التي ضحّى في سبيل عزتها أو كرامتها أو انتشارها أو استُشهد خلال التبشير بها.

القتيل الشريك في عدوان ليس شهيداً. الشهيد موسوم بفضيلة الدفاع عن.. وحيث يستحيل أي خيار آخر غير الدفاع، وحيث يكون التقاعس عن هذا الدفاع المقدّس نذالة مطلقة تُفقد المرء أية قيمة جديرة من حياته في قيم المجتمع.

فلسطين المغتَصَبة الشهيدة حقٌ مطلق.عدالة مطلقة، لأن الاحتلال شرّ مطلق. الدفاع عنها واللهج بحقها وتنكّبه رسالة حياة والتطوّع في سبيل كرامتها وكرامة أهلها وشعبها وحقوقها نبل مطلق والقتال لأجل حريتها انتماء مطلق للحق وللتاريخ الأرضي السماوي، البشري الإلهي.

وسورية الأم، المضرّجة بالوجع والكبر، بالنبل والتاريخ، بدمشقها وعمانها وحلبها، بدرعاها وسويدائها، بدير زورها وحسكتها، بببيروتها وقدسها وطرطوسها ولاذقيتها، بحمصها وتدمرها، بكيليكيتها وماردينها وديار بكرها واسكندرونها.. هي المحجّة والكعبة وعمود السماء.. أيّ حق أنبل وأجلّ من ترابها وطهره؟ أي كرامة تبقى بلا سورية؟ أي عزّ إلا وتاه بعد فلسطين ولا يُستعاد إلا بحريّتها؟

فما بالكم تجتمعون وتفرّطون في ما ليس لكم وليس منكم ولستم منه؟

أيّ خبز يمكن تذوُّقه وأمعاء تيبّست من الماء والملح ومن نفاق سلطة ونافذين لم يخجلوا من خزي ما يرتكبون!

أيّة أبجدية يمكن أن ترتقي إلى سرّ الدم الذي ينبثق من جرح شهيد وضحكات رضيعة تتردّد في أذنه ووجدانه لحظة تعفّره بالتراب؟

أيّة قيمة تعلو على سمو مقاومة، سيفنا المنار، حيث نبا كل سيف غيرها، فكانت الحسم والمرتجى؟!

أيّ شرف يوازي جيشنا السوري وقواه الرديفة نسور زوبعة ومعراج فداء، التي تخلّت عن أي غرض من الدنيا لأجل الوطن: شهيد زفير ليبقى يتنفّس..فيحيا؟!

الدماء التي تهدونها قرابين حبّ هي ضمانة قومية: أننا هنا، وسنبقى، وأننا باقون جيشاً سورياً، يحمي سورية، وينتصر ولا ينتظر عرباً تفكّ خيامها وتباشر الرحيل إلى الإنسانية ولا «مجتمعاً دولياً» مضرّجاً بدم الضحية وملوّثاً بصراخها!

ناشطة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى