17 عاماً من عمر التحرير…إعلاميون يروون الحكاية

تحقيق ـ عبير حمدان

بات العيد فتياً لم يبلغ العشرين لكنه يحمل شعلته المتّقدة على الدوام، إنه الجنوب بما يختزن من نبضٍ لا يستكين وقصص قد لا يكفي العمر المقبل لنعمل على توثيقها.. على هذه الأرض يستمدّ العشب اخضراره من نجيع أهلها ومن قاوم لأجلها.. على هذه الأرض أطفال كبروا دون خوف من شريط حدودي وأسلاك شائكة رفعها شبان من هذا الوطن قبل أشهر من إعلان تحرير القرى، يومها كانت قلعة الشقيف تتنظر سواعد الرجال والشيوخ والأطفال لتلفظ المحتلّ وترميه في غياهب الاندحار..

هنا يصبح القلم رصاصة وعدسة المراسل الحربي أيقونة، ولحظة العبور إلى جنوب القلب. إنه شهر أيّار الذي أعاد تشكيل التاريخ كما يجب أن يكون.. سبعة عشر عاماً من عمر التحرير ولم تزل الصور مُقيمة في الذاكرة، لم يزل التراب شاهداً كيف تلقفته أيادي الناس وقبلته وروته بدموع النصر، ولم يزل في جعبة من رصد تلك المرحلة الكثير من القصص التي تستحق أن نستعيدها هذا العام وفي كلّ عام…

إعلاميون عاشوا مرحلة الاحتلال وواكبوا التحرير وما تلاه من معارك حياتية واجتماعية يروون جزءاً بسيطاً من تجربتهم علّ حكاياتهم تساهم في إحياء الذاكرة القريبة لأجيال من المفترض أن تقدّس العيد وتبني رؤيتها المستقبلية على قياس الصمود وفعل المقاومة في مواجهة العدو التاريخي ليبقى وهم التطبيع سراباً، ولكي لا ننسى أنه «أوهن من بيت العنكبوت».

شعيب: الإعلام جزء من المواجهة

يؤكد الإعلامي الميداني علي شعيب وبعد 17 عاماً على التحرير أنّ مظلة المقاومة هي الرهان ومن هنا ينبثق الوعي الذي يدفعنا إلى الحفاظ على هذا الإنجاز، فيقول: «بالمعنى الميداني تبدّلت المشهدية في الجنوب كثيراً، خصوصاً أنّ تطورات كبيرة حصلت بين الأعوام الـ 17 التي مرت على التحرير على المستويين العسكري والشعبي وأبرزها عدوان تموز 2006، والعمليات العسكرية التي نفذتها المقاومة في مزارع شبعا رداً على اعتداءات «إسرائيلية» استهدفتها خلال هذه الفترة. بعد هذه المحطات خرجت المقاومة التي أعادت انتشارها بشكل غير مرئي على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة أقوى من ذي قبل وتعزّز احتضان شعبها لها بعدما أثبتت المعادلة التي فرضتها على العدو نجاحها من خلال تقلص نسبة الخروقات والاعتداءات خارج «الحدود» بشكل كبير الأمر الذي أدى إلى سيطرة حالة من الاستقرار لم تشهدها المنطقة الحدودية من قبل، ما دفع المغتربين وأهل القرى إلى العودة باستثماراتهم وأموالهم إليها، الأمر الذي انعكس نهضة عمرانية كبيرة في الجنوب على امتداد السنوات المنصرمة، حتى اعتُبر أكثر المناطق اللبنانية أمناً واستقراراً رغم ما مرّ على لبنان من تداعيات الحرب على سورية فكانت مظلة المقاومة هي الرهان ولم تزل. لا شك أنّ الجيل الذي عاش لحظات التحرير وواكب ما تلاه من إنجازات أصبح أكثر إيماناً بنهج المقاومة وهذا ما تجسّد بانخراط أعداد كبيرة من الشباب الذين كانوا أطفالاً آنذاك في صفوف المقاومة واستشهاد عدد منهم في مواجهة أدوات النظام الصهيوني في الإقليم وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على دراية ووعي بأهمية الإنجاز الذي تحقق عام 2000 وضرورة الحفاظ عليه.

وعن الواقعة التي حُفرت في ذاكرته خلال أيام التحرير، يقول شعيب: «يعدّ اليوم الأول من التحرير المحطة الأبرز في تاريخ عملي كصحافي في الجنوب على امتداد 25 عاماً. في ذلك اليوم كان كلّ شيء كالحلم. المشهد الخيالي هو الذي كان يحرّكنا، وقتها أُطلِق العنان للأحلام التي بدأت تتحقق الواحدة تلو الأخرى. لم يخطر في بالي أبداً أن أدخل قرية محتلة كان اسمها يقترن بموقع «إسرائيلي» يتعرض لهجوم من المقاومة أو عنوان يقوم به العدو باعتداء على أهلها ويتردّد على لساني على مدى أكثر من عشر سنوات سبقت التحرير. القنطرة بوابة التحرير مثالاً، عندما وصلت إلى البوابة الحديدية بسيارتي ترجلتُ وبدأتُ أصور عشرات الشبان وهم يهزّون البوابة لاقتلاعها.. مع كلّ هزة كانت الكاميرا تهتزّ لأنني كنت أشعر بأنّ يديَّ تمسكان البوابة.. بعد «اقتلاعها» هرعت إلى الداخل مع الشبان ثم تسلقت خلف أحدهم على دراجته النارية ونسيت فعلاً أنني أتيت بالسيارة ولم أذكرها إلا حين وصلنا إلى «دير سريان»!! عندما وصلنا إلى القنطرة بدأت ألتقط صوراً لكلّ شيء. لم أصور فقط الصلاة الجامعة في ساحة البلدة، بل الحجارة والشجر وجدران المنازل وأعمدة الكهرباء وكأنني أراها لأول مرة!! كنت أقول هذه شجرة في القنطرة وهذا حجر وهذا طفل وهذه عجوز من القنطرة وكأنّ كلّ شيء هنا هو من كوكب آخر!! إلى هذه الدرجة كانت تصرُّفاتنا محكومة بالخيال. ليس من الطبيعي أن نشاهد نائباً في البرلمان يهرول ويرقص ويصرخ كالأطفال، أو عالم دين يقوم بذلك!! لكنّ ذلك حصل في القنطرة وما بعد بعد القنطرة حين انهارت دفاعات العملاء اللحديين في اليوم الأول، حتى وصلنا إلى بلدة الطيبة إحدى أكبر قواعد العملاء حينها، بعدما مررنا في بلدات القصير وعلمان ودير سريان، وكان لي شرف تصوير ما اشتهر من شعار للتحرير تلك المرأة المبتهجة التي كانت تصرخ بأعلى الصوت «الحمدلله تحرّرنا».

ويفخر شعيب بأنه واكب المرحلة التي سبقت التحرير وعلى مدى 25 عاماً لقناعته بأنّ الإعلام سلاح فتاك في مواجهة التزلف والتضليل، وعن تجربته يقول: «في مواجهة العدو الصهيوني إبّان الاحتلال اندفع الشبان وحملوا البندقية لقتاله. أيقنت حينها أنّ الإعلام هو جزء من هذه المواجهة على الرغم من عدم وجود الإمكانيات، لأنّ كثيراً من الإنجازات لم يكن يصدقها الناس بسبب عدم وجود صورة توثّقها، وبسبب حالة الهلع الذي أشاعها العدو على شعبنا من خلال الإعلام وتصوير جحافل الدبابات وغيرها، لذلك كان لا بدّ من مواكبة تؤرخ المرحلة، فقرّرت أن أغطي النشاطات وحملات التعبئة وانخرطت في إحدى الدورات الإعلامية، خصوصاً أنني أهوى التصوير، وركزتُ في عملي على توثيق الاعتداءات «الإسرائيلية» والمجازر التي كان يرتكبها في القرى والبلدات الجنوبية، وبدأ العمل الإعلامي المقاوم يتطور حتى بات جزءاً أساسياً من المواجهة، واستمريتُ في هذا الدور حتى يومنا هذا واعتزّ بأنني كنت شاهداً على كلّ الانتصارات التي تحققت بدءاً من عمليات تبادل الأسرى مروراً بعدوان تموز 1993 تصفية الحساب ونيسان 1996 عناقيد الغضب وتحرير الجنوب عام 2000 وعدوان تموز 2006 وتحرير مدينة حلب 2017 من الإرهابيين، كلّ هذه التجارب علمتني أنّ الكاميرا والكلمة الحرة لا تقلّان أهمية عن البندقية والصاروخ لأنّ الإعلام في ماضينا وحاضرنا سلاح فعال إذا أجدنا استخدامه بالطريقة السليمة التي تخدم القضية والرسالة التي يحملها بعيداً عن السبق والادّعاء والتسلق والتزلف والتلفيق والتضليل».

جابر: تراجع الاهتمام الرسمي

بدوره، يعتبر الإعلامي كامل جابر أنّ الحوادث الجارية في منطقتنا اليوم سرقت من وهج إنجاز التحرير. ويقول: «ربما تكون الأحداث التي مرت خلال 17 عاماً، منذ تاريخ التحرير، قد سرقت بعض وهج ذلك اليوم، الذي صار عيداً للمقاومة والتحرير بتاريخ 25 أيار من كلّ عام، وما يسبقه أو يليه من احتفالات ومناسبات. في عام التحرير والعام الذي تلاه، أي عام 2001، كان الجنوب عامراً بالنشاطات والاحتفالات والزوار الذين يتقاطرون إليه من كلّ حدب وصوب من لبنان والبلدان العربية وحتى العالمية، وكانت ثمة محطات رمزية، على نحو معتقل الخيام، «بوابة فاطمة» والشريط الذي يواجهها، وموقع «العبّاد» وغيرها. يكفي أن نذهب اليوم، في أسبوع العيد أو يومه «الرسمي» لنجد أنّ هذه المواقع الرمزية قد خلت من الناس والزوار تماماً، والمدن الجنوبية التي كانت في عمق الاحتلال، كمدينة بنت جبيل والخيام وغيرهما، نجدها اليوم خالية من أي مظهر من مظاهر العيد، لتغيب المهرجانات وأعراس التحرير، بينما أقامت مدينة النبطية، مثلاً، والتي كانت تقع في منطقة خارج الاحتلال المباشر، قبل عام 2000، أسبوعاً كاملاً من الاحتفالات، وأقامت أنديتها وجمعياتها احتفالات موازية».

ويضيف جابر: «ربما لعب عدوان تموز 2006 من جهة، وما يحصل في سورية والمنطقة من جهة أخرى، إضافة إلى تراجع الاهتمام الرسمي بهذه المنطقة التي عاشت حرماناً طويلاً طوال ربع قرن من الاحتلال المباشر، وما تلا التحرير من تراجع في التقديمات وفرص العمل، فضلاً عن عدم تكريس عودة نهائية لمجمل أهالي المنطقة التي كانت محتلة، وارتباطهم بالإقامة والعمل في العاصمة بيروت ومناطق أخرى، واقتصار الإقامة على فئة محدّدة، خصوصاً كبار السن، على مدار السنة بنسبة تترواح بين 40 و50 في المئة، قد لعبت دوراً بارزاً، برأيي، في عدم اكتمال فكرة التحرير، وضمور وهجها ووهج أعيادها».

وعن المشهد الذي حفر في ذاكرته خلال أيام التحرير، يقول: «تكفي فكرة مراقبة مواقع الاحتلال كيف بدأت تخلو، الموقع تلو الآخر، ودخولي كإعلامي، مع زملاء لي، للمرة الأولى إلى مناطق كنا نستخدم أسماءها في تقاريرنا الإخبارية ونحن لا نعرف شكلها أو موقعها، أو طرقاتها وحاراتها، هذا الاكتشاف الجديد لجزء عزيز من الجنوب لا يمكن إلا أن يبقى في الذاكرة، فضلاً عن اندحار هذا المحتل بين ليلة وضحاها.

ولا بد أن أتذكر تلك السيدة التي خرجت بثياب العمل المزركشة في قريتها «القنطرة»، غير مصدقة ما يحصل، وأخرجت معها شوالاً من الأرز كانت تحتفظ به للأيام الصعبة، وتنثر الأرز على كل عابر نحو المنطقة المحرّرة وهي تردّد بلكنتها الجنوبية المميزة: «الحمدللي تحرّرني»، إنها فاطمة قشمر التي لها مني ألف تحية وتحية».

ولخّص كامل جابر تجربته قبل التحرير وخلاله، قائلاً: «أنا ابن منطقة كانت خارج المنطقة المحتلة، النبطية ـ كفررمان، وعانينا الأمرّين جراء القصف والاعتداءات التي كانت تطالنا من مواقع العدو وعملائه من التلال المشرفة، مثلنا مثل جميع القرى التي كانت تمتد على طول خط كنا نطلق عليه «خط التماس» أو منطقة الحزام الأمني. كانت تجربة مرة فقدنا خلالها كثيراً من أقاربنا وأصدقائنا وأهلنا الصابرين الصامدين، وكان عملي يحتم عليّ أن أعيش تجارب الناس وأن أصور همومهم وبيوتهم المدمرة وأبناءهم الجرحى أو الشهداء، وتهجيرهم أكثر من مرة، بما يحمله ذلك من مخاطر كانت تحوط مهنتي الإعلامية. جعلني التحرير أكتشف كلّ الجنوب وأتعرف على الجزء الآخر منه والذي ربما كانت معاناة أهله أصعب من معاناتنا بكثير، ومع الخلل باهتمام الدولة اللبنانية وتقديماتها. يكفي ما حصل بعد ذلك من معادلة النار بالنار، بين العدو والمقاومة، وأن نقف على مسافة ربما لم تتجاوز بعض السنتيمترات في بعض الأحيان بمواجهة أحد جنود العدو لنكيل له الشتائم والتحدي غير خائفين أو مرعوبين. ربما ما حصل في العام 2006، من عدوان كبير، سرق شيئاً من الفرحة الأعظم، لكن يكفي أنّ العدو اندحر عن أرضنا وعدنا إلى طمأنينة وطنية لافتة، بفضل جهد المقاومين وسهرهم ولم يعد هذا العدو موجوداً على أرضنا، ونحلم بأن يعمّ هذا الأمر على مزارع شبعا المحتلة لتكتمل الفكرة والفرحة».

أبو جهجاه: قيمة الانتصار

من جهتها، تعتبر الإعلامية نجلاء أبو جهجاه أنّ المقاومة تمكنت من بناء جيل يعرف قيمة الإنتصار، وتقول: «لم يزل العدو هو العدو الذي يتربص بنا، ولم تزل المقاومة له بالمرصاد. ما تغير بعد 17 عاماً من التحرير أنّ هذا العدو أصبح يحسب ألف حساب لأي خطوة عدوانية على لبنان وأصبحت المقاومة أشدّ بأساً من ذي قبل بفعل توازن الرعب الذي فرضته قوة المقاومة، ما يحفظ لأهلنا كرامتهم وأرزاقهم ومنازلهم. والدليل على الشعور بالأمان أنّ أهلنا قاموا بإعمار هذه القرى أجمل لا بل أروع مما كانت وهناك الكثير من القصور والصروح التي شُيِّدت في هذه القرى حتى المُتاخمة منها للاحتلال دفع أصحابها الكثير من عرقهم وأرزاقم وكأنّ لسان حالهم يقول باقون في هذه الأرض رغم كيد المعتدي. ليس هذا فحسب، هناك من أقام وأنشأ المشاريع السياحة على الحدود وفي القرى.

فعل التحرير وصمود المقاومة بنيا جيلاً يعرف قيمة الانتصار ففي كلّ زاوية من جنوبنا يوجد مقاوم وهذا الجيل الذي يبدو في الظاهر بعيداً عن ذلك عندما يطلبه الواجب سنراه في كلّ الساحات».

وتضيف في إطار متصل: «أذكر أنّ قريتي واحدة من القرى التي تدمرت كلياً لكنها عادت بفضل بنادق ودماء الشهداء وهى الآن قرية عامرة ببيوتها الجميلة وسكانها. وهناك حادثة تدمع عيناي حين أذكرها، فعندما ذهبت إلى منزلي المدمّر في قريتي التي احتُلّت لسنوات كانت الأعشاب العالية قد أخفت معالمه وكنت أحلم بأن أجد أي شيء يصلني بطفولتي لكن عبثا لم أجد.. وما حفر بذاكرتي أيضاً أنني رأيت العديد من سكان قريتي في الساعات الأولى للتحرير ينصبون الخيم للعيش في هذه القرية المدمرة كلياً والتي ليس فيها أدنى مستويات العيش».

أما عن تجربتها المهنية ما قبل التحرير وبعده، تقول: «هما تجربتان متكاملتان بين ما قبل التحرير وما بعده، بين الطريق إلى البيت والوصول إليه. هو ليس تحقيقاً للحلم فحسب بل تأسيساً لروح مقاومة بشكل جديد. الإعلام جزء من الكل الذي يحيط به، ودوره يلتصق بالمقاومة كي تتشكل قبضتها العازمة وأنا خلية في هذا الجسم لي ما له وعليّ ما عليه».

سعد: التصاق بالناس والمقاومة

يأسف الإعلامي حسين سعد لأنّ الانتصار الذي تحقق في العام 2000 لا يحتفل به اليوم كلّ اللبنانيين رغم أنّ المقاومة ثابرت منذ الثمانينات وصمدت ليثمر التحرير. ويقول: «بالتأكيد تغير الكثير خلال مرحلة التحرير على مستوى كلّ الوطن، ولكن للأسف ومن وجهة نظري هذا النصر لم يتجيّر بالمعنى الحقيقي لكلّ اللبنانيين إنما بقي انتصاراً في مكان معين وإطار محدّد، حتى أنّ اللبنانيين مختلفين على أبسط التفاصيل. والمؤسف أكثر عدم احتفال لبنان كله بهذه المناسبة وهذه من الحالات الفريدة في العالم. بالنسبة لي على الصعيد الشخصي هناك تغيير حقيقي في الواقع حيث تمّ الإثبات أنّ هناك مقاومة وإرادة وقوة لم تتزحزح منذ انطلاقتها في الثمانينات وحتى اليوم بقيت مثابرة وأثمرت هذا النصر الذي جعل شباب القرى الحدودية يعودون إلى بيوتهم، وهو الذي جعلنا نكتشف مناطق جديدة لم نكن نعرفها إلا من خلال معلومة أو اتصال، بعد التحرير بتنا نعرف هذه الأرض كما تعرفنا».

ويستطرد في ما يتصل بتجربته الميدانية، بالقول: «تجربتي الإعلامية امتدت حوالي 27 سنة من العمل الميداني وكنت أنقل صورة ما يحصل على أرض الواقع من مجازر يرتكبها العدو الصهيوني وبشكل عام كانت تجربة غنية على المستوى الشخصي وثمينة جداً حيث كان الحماس سيد الموقف مهما كان الواقع خلال الاحتلال، وهذا الواقع الذي كان في حينه اختلف اليوم حيث غابت الحماسة في غياب التغطية الميدانية. اليوم هناك تغطية للأنشطة فقط، بينما في السابق كنا ملتصقين بالمقاومة وبالناس الموجودين على الأرض وهذا يكفي لكي نبقى على تماس مع أرضه وناسه وشعبه، وكنا نأمل أن يتم إنقاذ البلد بعد التحرير لكي يصبح بلداً حقيقياً عوض أن يتحول إلى بلد مزارع وطوائف.

أما في ما يتصل بما تختزنه الذاكرة من وقائع قبيل التحرير وخلاله، ففي كلّ يوم كان هناك واقعة وحادثة وجميعها حُفرت في الذاكرة وبعمق ولكن لكثرة الحوادث التي مرت أصبحت كلّ حادثة جديدة تتفوق على ما سبقها، ولعلّ يوم التحرير ووجودك مع الأهالي وتوثيق عناقهم وشوقهم لأرضهم وأحبتهم هو الحدث المميز والكبير».

قشمر: صدق الانتماء

يسرد مراسل «أن بي أن» الإعلامي بلال قشمر تفاصيل معاناة أهل الأرض وفعل مقاومتهم وصولاً إلى مرحلة التحرير، فيقول: «تحولت عشرات القرى الجنوبية المحاذية للشريط الحدودي الفاصل بين لبنان وقلسطين المحتلة أثناء اجتياحه لجنوب لبنان تحت اسم عملية الليطاني في العام 1978 إلى قرى أسيرة محتلة. وأبقتها في كنف الاحتلال طيلة 22 عاماً تحت مسمى الحزام الأمني الذي يحمي شمال فلسطين المحتلة من صواريخ المقاومة الفلسطينية آنذاك…

22 عاماً هو عمر الاحتلال لمنطقة عزيزة من وطننا لبنان عانت الكثير من الاحتلال الذي عمل طيلة هذه الفترة بجهد متواصل ومختلف الوسائل سلخها عن الوطن ومحاولة صهينتها واتباعها للكيان الطامع لتحقيق الحلم التاريخي أنّ حدودك يا «إسرائيل» من الفرات إلى النيل.

ولكنّ إرادة أبناء الجنوب ورفضهم الدائم لوجود محتل على أرضهم وصمود أبناء الشريط الحدودي في وجه كلّ المشاريع «الإسرائيلية» ساهم في تحرير الأرض بفعل دماء آلاف المقاومين من كافة الأحزاب الوطنية وتضحيات أبناء المنطقة المحتلة الذين تحمّلوا عبء الاحتلال المتزامن مع حرمان كانوا قد توارثوه نتيجة غياب الدولة ومؤسّساتها عنهم».

ويضيف في نفس الإطار: «قبل التحرير كانت قرى التماس المحرّرة المقابلة لقرى الشريط الحدودي المحتل ميدان عملنا الإعلامي الدائم نتيجة لما تتعرض له العديد من هذ القرى إلى اعتداءات يومية متكرّرة ويذهب ضحيتها شهداء وجرحى ودمار للمنازل مما جعلها قبلة دائمة للإعلاميين لتغطية الأحداث في تلك الفترة ونقل وقائع الاعتداءات على القرى الجنوبية.

عند تخوم قرى التماس كنا ننظر إلى القرى المحتلة بشوق وحسرة، كيف لا ونحن أبناء تلك القرى وأبناء الجنوب وإعلاميين ننتمي إلى قضية وطنية وهي تحرير الأرض، لكننا كنا على يقين بأنّ هذه القرى ستعود إلى حضن الوطن وتتحرّر من قبضة المحتل نتيجة التضحيات المشتركة للمقاومين ولأبناء قرى الشريط المحتل الذين مهما تحدثنا عن معاناتهم نبقى مقصرين في إيفائهم حقهم».

وعن يوميات التحرير وأولى لحظاته يقول: «لم يكن يوم 24 أيار من العام 2000 يوماً عادياً بالنسبة إلى أبناء الجنوب الذين قدموا التضحيات في سبيل تحرير أرضهم التي احتلت منذ العام 1978 من قبل العدو الإسرائيلي الذي ظن أنّ وجوده فيها سيكون طويلاً ومرحباً به من دون أي حالة اعتراضية أو مقاومة.

ظهيرة ذلك اليوم نتوجه على عجل إلى المنطقة الواقعة بين بلدتي فرون والغندورية حيث الطريق المؤدي نزولاً إلى وادي الحجير وصولاً إلى بلدة القنطرة التي كانت أولى بوابات التحرير إلى قرى الشريط المحتل، على الرغم من القصف الإسرائيلي لجانبي الطريق كانت زحمة السيارات والمواطنين الحاملين لرايات المقاومة وسط فرحة عارمة بادية على أوجه الجميع صغاراً وكباراً مقاومين ومدنيين وصل الجميع إلى ساحة البلدة في أول مشهد من التحرير يشبه الأعراس القروية حيث الزغاريد والأهازيج والكلمات المعبرة عن فرحة التحرير وسط صور الشهداء الذين بفضلهم يكتمل النصر ونحصد ثمار زرعهم.

على تلة صغيرة يتوسط بلدة القنطرة موقع عسكري لجنود عملاء إسرائيل، أصرّ الجميع على ذلك الموقع الذي كان قد فرّ منه حاميته وكلّ من يخدم فيه إلى موقع بلدة الطيبة المجاورة فكان أول أعراس النصر في موقع عسكري حُرر على أيدي المقاومين، الذين خاطبتهم إحدى السيدات وقالت: «سلمت يداكم لولاكم ما شفنا هيك يوم».

في اليوم التالي بدأت تكرّ سبحة التحرير من البوابات المؤدية إلى قرى الشريط الحدودي المحتل تُفتح بأيدي أبناء تلك القرى على مصراعيها وبدأت مواكب المواطنين تسير باتجاه أرض سُلبت منهم طيلة 22 عاماً في مشهد أنطبع في ذهن كلّ من عايش وشاهد مراحل التحرير في تلك الفترة. ويدلّ ذلك المشهد على صدق انتماء أبناء تلك القرى لأرضهم التي زرعت بأجساد الشهداء ورُويت بدمائهم فكان التحرير.

آلاف العائدين إلى قراهم التي حرموا منها طيلة عقدين ونيف من الزمن إلى تلك القرى التي عشقناها قبل أن نلمس ترابها، هم وحدهم استطاعوا أن يُثبتوا للعالم أجمع أنه لولا تمسكهم بأرضهم ما كان هناك طعم للتحرير لأنّ من بقي وصمد حتى ذلك اليوم وحده يروي معاناته مع الاحتلال وحكاية التحرير التي ستبقى وسام عز يعلق على صدورهم وتسجّل في ذاكرة التاريخ.

اليوم وبعد مرور 17 عاماً على التحرير من يدخل إلى تلك القرى يشعر بالعزّ والفخر لأنه يطأ أرضاً أثبتت للعالم أنها الأرض التي تبلتع محتليها ولا تزال متشبثة بهويتها المقاومة، وتُربي أبناءها على ثقافة العداء لـ«إسرائيل» لأنها تشكل الخطر الدائم عليهم وستبقى مستعدة للمواجهة بيد تحمل السلاح وأخرى تحرث أرضاً زرعنا نصف أجسادنا فيها».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى