«الوصول»… محطّة أولى على الخشبة وتحدٍّ سوريّ!

النمسا ـ طلال مرتضى

قال لي: سنصل رغم الصعاب والمعوقات كلّها.

لم نتردّد لبرهة في ركوب الخطر، كان الهدف متمثلاً بالمنارة التي نستقي بها تفاصيل الطريق. نعم.. ما كان يشغلنا حينذاك سوى هدف الوصول.

لم نكن كغيرنا حين اعتلينا سدّة البحر، لم نكترث لقصص الحيتان التي لم تعد تستطيع السباحة لكثرة ما أكلت من لحم السوريين. لهذا، كانت رحلتنا مختلفة، مختلفة جداً، عندما عاركنا البحر العتيد لأقلّ من عشرين ساعة بساعتين أو أقل.

حين أخذني دوار البحر، ظلّ هو يراقب المنارات، علّنا نرسو ذات جزيرة يونانية. وعندما قذف الربان بنا في جزيرة غير مأهولة عند فجر بارد، لم أصدّق أننا كسرنا خشم البحر. لا قلّة يقين، جلّ الحكاية، حينما وضعت قدمي على اليابسة، شعرت كأنني أدوس على فراش من اسفنج. لم أكن أعلم أنّ الخدر أخذني، كي أتأكد من أنني على الأرض استلقيت على ظهري وتلمّست نتوءات الصخر مليّاً. لم أنتبه لغياب شريك الدرب حينذاك.

هو الآخر عند لحظ الوصول عانق صخرة يونانية وبكى مثلي.

عندما وقعنا في فخّ مباغت بين حدود مقدونيا وصربيا، لم نكن جاهزَين بما فيه الكفاية لمثل هذه المفاجأة قبل بزوغ الشمس، لم يكن هناك متّسع من وقت للتفكير، كان الارتجال سيّد الموقف حينذاك، وكان القلب واحداً والجهة التي قذفنا بأرواحنا تجاهها واحدة. في العتمة كنّا نعتقد أننا ارتمينا من مسافة مترين، لم نكن نعلم أننا رمينا بأرواحنا من علًّ فوق شجرة عليق شائكة.

سألنا بعضنا في وقت واحد: «فيك شي؟» وكان الجواب واحد: «لا ما فيا شي… هيا للنطلق بعيداً».

كان لا بدّ من الارتماء في النهر، كي نضع بيننا وبين البوليس المرابط حدّاً طبيعياً، كان جرف النهر مرتفعاً قليلاً وعرض النهر لا يتجاوز خمسة أمتار. كانت فقزتنا واحدة حينذاك وكادت تكون قاتلة. لم نكن لنرى أن منسوب الماء لم يكن أكثر من نصف متر أو أقل، كادت عظامنا تتكسر حين ارتمينا في قاعه، ركضنا.. ركضنا نحو الغابة بسرعة فهد، ودلفنا داخل ساق شجرة معمّرة حُفرت ساقها عمداً لاستقبالنا.

سألني: «هل ماء النهر ساخن؟».

أجبت: «أعتقد لأنني أشعر بالماء الساخن يجري من كلّ أنحاء جسمي».

ضحكنا حينذاك من البرد… أسناننا كانت تصطك ببعضها. كان الماء الساخن وقتئذ، نزيفاً منفلتاً من وجوهنا، ومن كلّ مكان طاولته شجرة العليق. لم يكن البتة ماءً ساخناً، وجوف الشجرة لم يكن محفوراً بيد فنّان أو قاطع حطب، بل أن أحدهم حرق جوف ساقها، اكتشفنا ذلك في الصباح التالي، إذ إننا كنّا في مفحمة!

بصراحة، الضحك مع الوجع له طعم مغاير.

لن أحدّثكم عن رحلتنا في القطار المقدوني، التي بدأت من الساعة الحادية عشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً داخل مستوعبات مغلقة «حاويات» بإحكام، حيث كنا والموت وجهاً لوجه، أراد خنقنا علناً مع مئات اللاجين، لكن هذا المعتوه كان ينكزني ويردّد بتهكّم: «بتعرف… رح نوصل… رح نوصل».

في الرواية التي بدأت كتابتها عن طريق الوصول، مقام آخر من الوصف، كي لا أفسد عليكم القراءة حينذاك. قرّرت القفز اليوم طويلاً وطيّ سنتين من الهجرة نحو القارة العجوز.

نعم، وصلنا، كما كان يقول. وهنا افترقنا، كلٌّ أخذته مقاطعة، صاحبي ليس مثلي، لم يوفّر جهداً في تعلّم لسان البلاد، دأب بكلّ ممكناته ليكون فاعلاً، وكما كان يقول لي: «تأكد أننا سنصل». قلت له: «ستصل».

رفيق الطريق والحكاية، الإعلامي السوري على الحسن، على درب الوصول، يضع اليوم لُبنته الأولى من خلال «الوصول».

«الوصول»، مسرحية قام بكتابتها بالمشاركة وبلغة البلد المضيف اللغة الألمانية، ودخوله بالعرض كممثل على الخشبة، والمسرحية بالتأكيد تتناول حكايات اللاجئين حين وصولهم، ضياعهم وخوفهم، وذلك لعدم معرفتهم لغة البلد أو عاداته وتقاليده والشعور بالفقد للأهل والوطن الأمّ.

علي الحسن عبر نصّ متّصل منفصل من تأليفه جسّد روح اللاجئ وشوقه إلى البلاد والأولاد، وكرّس كلّ ما يلزم كي يوصل الصورة كاملة في عيون الجمهور النمسوي. ظلّ أميناً حتى النهاية مع ذاته أولاً ومع البلاد التي تركها، حين رسمها بالتصاوير البهيّة منتصف بقعة الضوء فوق الخشبة.

المسرحية بعنوان «الوصول» «Ankommen»، فكرة ورؤى المخرجة الفنانة النمسوية أوتا باور Uta Bauer، وعلي الحسن ـ سورية، وإخراج أنديرا بلاس Andera Plass. والعرض الأول كأن أمس، 28/5/2017 في مدينة تراون Traun النمسوية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى