إضاءة

مشهور خيزران

حين يصبح الحبر أحمر، وحين تتألّق عينا الأديب، ستخالها تترقب حدوث أمر ذي بال. وفي حين ثانٍ، ستجده كطفل استحفه الفرح. ثم لا يلبث في حين آخر يستحيل عجوزاً يستخرط في البكاء إذا ما نظر في المرآة تنبئه أخاديد الوجه، أن العمر يدوي به قطاره وهو يدنو من محطته الأخيرة، ثم يروح إلى راحلة أوراقه، يحثّها بليل ارتحاله إلى عوالمه الوهمية غير المرئية وغير المحسوسة، كمشعوذ يستحضر شياطين «وادي عبقر»، ويشرع معهم يكتبون على صفحة الغيبوبة أنفاساً من رئتي الإبداع بالحبر المدمّى.

بعد قراءتي للأديب السوري المهاجر طلال مرتضى مواد أدبية زفرها من كبد حرّى أثخنتها الغربة بالجراح، اجتاحتني مَلَكة الكلمات كما تجتاح زوبعة رماد موقد. رحت والليل والوطن نرنو إلى الموج الهارب بالأقلام والدفاتر والقصائد وحقائب الرؤوس المحشوّة بالذكريات والأحلام، نرنو بعين مستعبرة مخضلة لنبكي وطناً من اللحم والدم، يلوح بيد مبتورة الأصابع مودّعاً من فوق شرفات السفن المبحرة بالأفئدة والدموع إلى الحزن البعيد. وأستانف ارتحالي والليل ووطني إلى خيمة شاعر الحبّ والوجع طلال مرتضى، طائراً بجناحَي ذاكرتي إلى ماضٍ لنا في الخيمة الأدبية التي كانت بيت ملقانا الأدبي والتي تنام الآن تحت رمادها بلا عينيها وبلا رئتيها في حي الحجر الأسود الدمشقي، الذي هو الآخر استحال دريساً تسكنه الغربان الخفافيش.

ألبث… أقرأ المرتضى وحزني يربو على حزن فرس على فارسها وافته المنيّة وهو يسري صوب مضارب يروم وصال خليلة ننتظر، أو كزاغبات القطا لم تكسُ الأيام بعد أجنحتها لتحملها على النجاة من جارف السيل.

ها هي الأمنيات تتساقط قتلى من على أفنانها وقد غزاها التصوّح والاصفرار في تربة أرض لا قمح فيها ولا أرغفة، بعد أن حصدتها الذئبان والوطاويط. وبهذا الليل ذاته لا شيء سوى العتمة التي تتمترس في خنادق السماء ولا شيء يسمع في الأرجاء سوى تلقيم وخرطشات وقلوب تلفظ خفقاتها الأخيرة، ثم يتلوه عويل تتقطع له أكباد الصخور.

ثمّ يجبن القمر يلوذ مرتعداً في خيمته. لن يمر هذا العاشق الليلة بقريتنا الجنوبية، فالخاطفون وقطّاع الطرق في كلّ درب ومنعطف. واستأنفت أقرأ أنفاس الأديب المرتضى وهو يدقّ للمرّة الألف مع الأديبة المبدعة غادة السمّان «جدار خزان غسان» وغيرها ممن تناولهم، يكتب منه لهم ولهن وعنهم، رسائله بحبر رئتَي الروح. يقرع بوابات الشرايين النازفة من ياسمين شامه، يواجه بشجاعة الإعلامي الأديب أولئك الممنوحين شهادات الدكتوراه الصفراء، بمختلف الاختصاصات ممهورة بخاتم البصاطير مذيلة بأقلام السياط، وحماة الديار يعزفون على أوتار أرواحهم للوطن أنشودة البقاء، رغم جوع أطفالهم وتجويعهم وعريهم وبردهم ونحيب زوجاتهم وأمهاتهم عندما تحملهم كفّ الوطن إلى التراقي.

الأديب طلال مرتضى قلم يسلك شعاب الصفحات، ينقل خطواته فوق انزياحاتها وتوعرات وهادها، كمطارد الظباء حافي القدمين وما من نعل يحول بين اللحم وحصى القفر المدبّبة وأشواكها، وفي مسير القلم الميمّم نحو الشمس في الدرب بين كلّ حصية وحصية تكمن العقارب، تتربص بالأقلام العابرة إلى الحقيقة. إلى حيث الوطن يتشظّى ويُنهَب وما فتئ يقاوم هذا الأوغاريتي الذاهب في الأتون يحترق ولصوصه يطلقون على جوعاه رصاصة الرغيف.

أطمئنك أيها المبدع أنّ ملايين الأعين تنبت في وجه سورية، تقاوم بالحدقات والأهداب الغزاة الآتين سيولاً من قيح دمامل الذئب الغربي وبخواء البطون، تقاوم قادة الدكاكين ومواخير داعرات لياليهم.

لا شيء أيها المبدع السنابلي يقدر أن يمنع الغيم من الهطول ولا شيء يقدر أن يمنع الشمس من تلوين السنابل بلون الذهب.

نعم، ورغم الأمل المشوب بالخوف والصقيع، فما من كرباج يقدر أن يسلخ ملايين مسامات الجلد برمّتها بالمطلق. وما من جائع مضطهد مهزوم إلى الأبد وبالمطلق.

ولا هزيمة للأقلام الصحافية الناقدة المذخرة بحبر الضوء بالمطلق، ولا لقبضة الفرمان لسحق هذه الأقلام، ستبقى للأبد أنيابه في فكّيه مدى الحياة وبالمطلق.

قرأت لك «آلهة الخصب نانو»، و«حجاز»، و«خطيئة التفاح»، وغيرها وغيرها وغيرها… ترسلها رسائل شوق للجمال والحقيقة.

قرأتها وأنا المصاب بلوثة الأدب والجمال أغرف منها وأعبّ من منهلها، كما يعبّ ظامئ الصحراء من ضرع ناقته، إذا ما فرغت قربته من الماء واشتدّ الهجير.

كتبت حين وصلت حدّاً من الانصهار متدفقاً أسبح في رقراقها من ضفة الغلاف إلى الغلاف وأنت تميط بِيَد الحرف اللثام، عن وجوه فاقدي الأخلاق في وطننا الذي يستشهد كل يوم ويولد من رماده كلّ ثانية.

طلال مرتضى، أيها الموجع، الموجوع، معك سأظلّ أصرخ بهذا الكون الظالم السافل من فوق خشبة مسرحي، سأركب جناحَي قصيدتي المجنونة أطير بها إلى الشمس، سأركب عاتيات الموج أبحر إلى شاطئ إنسانيتي، سأكتب بالزفير المتجهنم شهيقاً لفقراء الأرض أهلي، سأطير إليك أعود بك إلى مطارح هوانا وملاعب طفولتنا، لننفخ في ما تبقى من عسيس الجمر تحت رماد خدمتنا.

طلال… واقفاً سأفرغ محتويات كأس شوقي في جوف رسالتي إليك، كي يتضرّج لوني الأحمر أكثر.

مخرج وفنّان مسرحيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى