علي نسر… شاعرٌ ينشد الحنين إلى الطفولة

رنا صادق

يفيض إحساس الشاعر بمدارك الحنين وزوايا الطفولة وذكرياتها، ذكريات لها في نفس كلّ واحد منّا أثر. أثر بليغ يظهر في تصرّفاتنا الحياتية، لو لم نكن مدركين، لكن هذا الأثر يختلف عند صاحب النَّفَس الشعري كالشاعر علي نسر، الذي تثقب طفولته معظم ـ لا بل كلّ ـ أطراف قصائده بصورة أو بأخرى. لذا، يفيض منها الحنين والألم والذكريات.

طفيف الإحساس يسكن قصائده، وحبّ الشعر يغذّي دماءه، وأنين الماضي يطرق أبواب شعره، هو باختصار أكاديميّ وشاعر وصحافي، يختزل الإحساس شعراً ويسقي القوافي جمالاً. إذ يرى نسر أنّ الشعر يبقى والفنّ عموماً، الوسيلة التي يمكن التعويل عليها، فهو سبب من أسباب التنقية وتصفية النفس، هكذا وجده أرسطو حين دافع عن الشعراء ردّاً على أستاذه أفلاطون الذي لم يلق في الشعر والشعراء أهمية لأنهم يحاكون المحاكى من دون تعديل ذي قيمة في الوجود.

«وطن تنهد في ثقوب الناي» ديوان هو عبارة عن مجموعة من القصائد المتباعدة زمنيّاً، اصطفاها نسر لتكون ترجمة لما يختلج في صدره، فحاول ذلك، جامعاً بين الشعر الغزلي والوطني والطبيعة والحياة الاجتماعية، حتى أنّ هناك قصائد تجمع القصيدة الواحدة منها، في تلافيفها، هذه القضايا نفسها. فاختلطت الوجوه لتتنهّد من ثقوب الناي وطناً من أرض وأمّ حبيبة، وبيادر من طفولة لمّا تحن مواسم قطافها بعد. كما يسيطر الحزن والحنين على معظم قصائده كأن يبحث عن مكان مهجّس أو مكان الحلم، يرسمه في أفق المستقبل وبريشة جديدة، لكنّ ألوانها طفولية ولأنّها أكثر أماناً.

كان لـ«البناء» لقاء مع الشاعر علي نسر للغوص في مدارك أشعاره، نعرض تفاصيله في ما يلي.

القصيدة هي من الملاجئ والملاذات، فهي تشبه وسادة الحالم الذي لا رقيب على منامه، فيصبح الشاعر لا رقيب على قلمه وأفكاره، ويرمي فيها ما يودّ قوله في اليقظة والحقيقة ضمن حوائل وموانع كثيرة… ولكنّ هذه القصيدة التي تشكّل خمرة يسكر عبرها بعيداً من الواقع، قد تنقلب إلى النقيض، وتعمل في دخيلة صاحبها ما تعمله الخمرة حين يظنها الشارب محطة للفرح والنسيان فتنقلب إبرة تنكأ فيه الجراح والأحزان كما يشير نسر.

يعتبر نسر أنه على رغم أنّ شبح القارئ الذي يرافق قلم الكاتب منذ انطلاقة مشواره على أديم الورق، إلا أنّ موضوع الصدق والمصداقية، نسبيّ وليس قضية تقلق صاحبها في الشعر كباقي الأنواع الكتابية والإبداعية والبحثية والنقدية، لأنّ التفاعل بين القارئ والشاعر خصوصاً، يتفاوت بين قارئ وآخر، فما يراه أحدهم صدقاً حرّك فيه رواسب من مشاعر بسبب إزالة الغبار عن أقفالها، قد يجده آخر ضرباً من التخيّل الجميل، وقد يجدها ثالث ضرباً من تفريغ صاحبه ليس فيه من الصدق شيء. الشاعر ليس ملزماً في إقناع المتلقّي كباقي الأنواع الكتابية والتعبيرية. فالشعر ردّ فعل أولاً، وردّ الفعل يستملحه شخص ويصدقه في حين يستقبحه آخر ويكذّبه.

في سياق متصل، يذكر نسر أنه أنّى تتمّ الكتابة الشعرية، يشعر كمن يقف على الأطلال من دون وقوف حقيقي. فغالباً ما يسرقه مكان الكتابة فعليّاً أو تخييلاً، فيجلس قبالة ما يحتضن طفولته من حقول ووديان ونبع ذي عمر قصير، تقفز طفولته إلى أوراقه وتحرّك القلم، وترمي في الحبر مادة سريعة التذويب… ومن هذه الطفولة تنبري أنواع اللعب، والبراري والأم والحبيبة التي تشكّلت مع مرحلة الصبا من دون شكل نهائي لها، لكنها الرشفة الأولى من الكأس، وكأنّ كلّ ما يأتي بعدها يدخل في إطار البحث عن تلك الرشفة، فالطفولة هي المدماك الأساس في النصوص.

بعض الشعراء يعتبرون أن الشعر قادر على تغيير العالم إلى ما هو أنقى في ظلّ السلم بعيداً عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال، اذ يؤكد نسر أن الشعر والفنّ عموماً، وسيلة يمكن التعويل عليها، فهو سبب من أسباب التنقية وتصفية النفس.

وعن سؤاله ما إذا كان الشاعر ضيفاً على قصيدته أم العكس أو أن كلاهما في ضيافة المتعة الشعرية، كان جوابه: ليس هناك من ضيف أو مضيف أو ضائف في الكتابة الشعرية، هناك مائدة يستحيل ضيفها وضائفها وأطباقها كرقعة شطرنج، تتقاطع مربعاتها حيناً وتتوازى حيناً آخر، فالقصيدة وصاحبها يشكّلان جبلة مشتركة تحتاج إلى نفخ من روح الشاعرية.

ويشير نسر إلى أنّ الطفولة تشكّل مرجلاً من الأفكار الخام، ولكن يُزاد عليها ما تراكم من معارف خلال مراحل مختلفة، هذه التراكمات الكميّة لا بد من أن تصل إلى مرحلة التحوّل النوعي لذا، فالأفكار تتوالد من الحياة ومن كتب قرأناها وشعرنا أننا نسيناها. إذ يرى أن الشاعر هو قارئ تلقّى نصوصه وأفكاره متناثرة وصبّها في قالب واحد.

يقول الشاعر لويس أراغون: «لولا الشعر لأصبنا جميعاً بالسكتة القلبية»، وعن رأي نسر بهذه المقولة، قال: الشعر هو من الفنون الجميلة، وهو أقرب الفنون إلى النفوس البشرية والذوق لاعتماده على اللغة وسيلة تعبيرية. والفنون هي غذاء الروح وإكسير الحياة نحتاجه لضخّ دورة دماء الحياة القابلة للتوقف في معظم الأوقات لما استحال إليه هذا الكوكب من مرجل للسموم الفكرية والروحية واستحالت الحياة مشهداً للموت المرافق لحركة الإنسان الدائمة. فالإنسان يحتاج دائماً إلى ما يبعد أوردته من التخثّر والجفاف، والشعر هو ذاك المسيّل الأقدر على ضخّ الدماء بطريقة طبيعية في قلب الإنسان.

إلى جانب شغفه بالشعر، يعمل نسر في مجال الصحافة، ويؤكد أن الكتابة النقدية والفكريّة هي الأكثر تأثيراً اليوم، لأنها أقرب إلى الفعل من ردّ الفعل، ويكون الكاتب فيها باحثاً يتسلّح بأدوات الموضوعية وكشف الحقائق بطرق غير ملتوية. وهي الأخطر من الشعر، لأنّ القصيدة لصاحبها أولاً، بينما الكتابة النقدية والبحثية للقارئ أولاً، وعليها مسؤولية الحفاظ على الأمانة الموجودة بين يدي الكاتب. وفي هذا الخصوص يقول نسر: أنا لم أتخصّص في الإعلام يوماً، ولكنني أعرف من خلال تخصّصي في البحث والنقد، وممارستي الكتابة الصحافية المتواضعة، أنّ على عاتق الصحافي مسؤولية كالباحث الأكاديمي، متجرّداً من أناه، يفصل بين أيديولوجيته وما يتكلّم عليه ليكون الكلام أكثر موضوعية. إذ ينبغي وضع الأحكام المسبقة والقبلية جانباً، والانطلاق من الموضوع، لا من الذات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى