سورية الأسد

ناصر قنديل

– ربما كان في ربط اسم سورية باسم الرئيس حافظ الأسد، ومن بعده الرئيس بشار الأسد، ما يمنح الحق للبعض بقولهم إنه تحجيم لوطن بحجم سورية بربطه باسم شخص، مهما عظم اسمه وعلت مكانته، إذ كان الأمر يبدو من قبل كمجرد نوع من التقديس لرمز منح بلده خصوصية ارتبطت باسمه، ومكانة صعب أن تنالها مع سواه، وكان يحق للمناوئين أن يربطوا النزاع على الصلة بين سورية والأسد، حتى يظهروا سورياهم التي تستطيع أن تتحرّر من هذا الالتصاق، لتشرق أجمل وأعظم وأكبر.

– بعد الحرب على سورية لم تعُد المسألة كيف نجري كشف حساب مع الذين كانوا يسجلون اعتراضهم على هذا الربط. وقد رأينا سورياهم التي بشروا بأن الربط يقزّمها ويختزلها، وقد اختصر الواقع مشروعهم الفعلي لسورية بما قدّموه في الواقع علمانيين ودينيين وعروبيين. والقصد هنا نماذج لها رموزها في تشكيلات وشخصيات تصدّرت واجهة المعارضات السورية، اجتمعت تحت ما أسمته بالثورة السورية والذي أفضى إلى إقامة إمارات قتل وذبح فوق الأرض السورية وتهديد وحدتها واستجلاب كل أفاعي الأرض إليها، وبيع استقلالها الوطني والتنازل عن جولانها، وتحويلها مشاعاً أمام الغزاة والمتربّصين وتسييد شيوخ النفط بجهلهم وبعدهم عن كل حرية وديمقراطية وتقدير لحقوق الإنسان كمراجع في فقه الثورات على سورية والسوريين، وتلميع الإنكشارية بثوب عثمانية جديدة والحنين الاستعماري الفرنسي بثوب ديمقراطية حنونة، فتفوق نموذج سورية الأسد بعيون بسطاء السوريين، خصوصاً من أخذ منهم على حين غرة بأكذوبة الثورة، يترحمون على تلك الأيام.

– سورية الأسد التي نقصدها هي سورية التي بناها الرئيس حافظ الأسد ورعاها الرئيس بشار الأسد. وهي سورية التي منحت الأولوية لبناء الدولة القوية على مساحات الحرية والديمقراطية، ووسعت مساحات مساهمة الدولة في حمل أعباء حياة فقرائها، وعمّرت قراهم ورعت زراعتهم وساعدت في تحصين صحتهم وتحصيل علومهم، وأوصلت كل الخدمات إلى آخر قرية في أقاصي الجغرافيا السورية. وهذا ما كان موضع جدل في حياة الرئيس حافظ الأسد وما سبق الحرب على سورية من مسؤوليات الرئيس بشار الأسد، لأن سورية هذه يمكن وصفها اختصاراً بسورية الأسد كتدليل على هذه الخلطة الخاصة من عيارات الطابع الاجتماعي للدولة ومقادير الحرية والديمقراطية فيها، ومثلها عيارات علمانية الدولة ومدنيتها، فهي دولة تستقي كما يقول دستورها كثيراً من الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع، لكنها دولة تمنع رجال الدين من التعاطي في السياسة وتحصر حدود الدين بين أماكن العبادة والبيوت، وتلاحق المتطرفين وتكتم كل حسّ طائفي حتى لا يجرؤ أحد في سرّه أن يفكّر في طائفته وطائفة سواه، وتنفتح بالمقابل على عيش مشترك يعيشه السوريون بتنوّعهم بفرح التشارك في العيش ويقيمون ما وصفه البابا يوحنا الثاني بحوار حياة قلّ نظيره. وهو نموذج لم يرضِ العلمانيين ولا الدينيين، وكذلك كانت المعادلة بين السورية والعروبة لهوية يصعب اليوم تخيّل بديل منها إلا بالتشظي بين العصبيات الدينية والقبلية.

– سورية الأسد هي التي قام مفهومها للأمن القومي على معادلة العداء لـ«إسرائيل» كبوصلة لا تحيد عنها، فتنتصر للثورة الإيرانية وفقها، وتخالف الحرب العراقية على إيران بسببها، وتقيم أوسع مدى ممكن من التضامن العربي منعاً للتفريط بها، وتنصر كل مقاومة على أساسها، وتقدّم للدولة مفهوماً دبلوماسياً يربطها بأوسع تحالفات على أساس تطبيق القانون الدولي والقرارات الأممية، ولا يزعجها وجود مفردة السلام هنا ويقينها أن إسرائيل دولة عاجزة عن السير بسلام ينسجم بالشكل والجوهر مع نصوص القانون الدولي وروحه، فتنشئ استراتجيتها على ثنائية الانفتاح على كل مبادرات دولية لحلّ سياسي وفق القانون الدولي، وبناء القوة والقدرة تحت شعار التوازن الاستراتيجي الذي يشلّ يد العدوان ويهيئ القدرة للتحرير. وهذا كله اجتهاد خاص يختص بسورية الأسد ولم يكن يرضي دعاة السلام ولا الذي يقولون بأن إشهار سيف الحرب المعلن هو الحل.

– في الاختبار الذي عاشته سورية خلال سنوات الحرب عليها، كانت فرصة ذهبية بالمعنى العلمي للحكم على هذا النموذج في بناء دولة في العالم الثالث وسط بحيرات الهيمنة الأميركية المفتوحة على شهية النفط المخزون تحت ترابنا، والدفاع عن وجود «إسرائيل» المتشبث بما فوق التراب وتحته، ليسهل الحكم لهذا النموذج بما له وما عليه، وإذا كان مبكراً الحديث بحكم نهائي للمعادلات التي تجسّدت في نموذج دولة سورية الأسد، فإن كل المؤشرات تقول إن مقدار الحرية والديمقراطية ومثلهما مقادير العلاقة المركبة بالدين، وكذلك العلاقة المتشابكة في مفهوم الأمن القومي بين التمسك بالقانون الدولي والمقاومة والممانعة، كان المقدار العبقري الذي صنع مكانة سورية وقوتها وثباتها والذي يصعب تخيّل قيامتها مجدداً على سواه، والذي يشكّل العبث به بداعي طلب المزيد من أي شيء من ميزاتها مصدراً لاختلال خطير لميزانها.

– رحم الله الرئيس حافظ الأسد في ذكرى الرحيل، وحمى الرئيس بشار الأسد الوفي القومي الأبي الأصيل، ونصر الله سورية الأسد وأعادها أجمل وأقوى وأشدّ منعة وأرفع مكانة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى