ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

نوّاف حردان وسعاده في المهجر

الأمين عبد الله قبرصي

الحديث عن الأمين نوّاف حردان لا ينتهي بمقال، كتاب أو أكثر. عنه يصحّ أن يكتب الكثير، روائياً، أديباً، مؤرّخاً، ومناضلاً مميّزاً بالفكر والساعد والتفاني والعطاء المستمر.

حبّذا لو تهتم فروعنا بإحياء ذكرى الذين تميّزوا من أبنائها، شعراء أو ادباء أو فنانين، وتسعى لأن تُطلق أسماءهم على شارع أو ساحة، أو يقام لهم نصب أو تمثال، أو تنظّم الفروع ندوة أو تصدر كتاباً أو كتيّباً يحكي عن مسيرتهم، وعن عطاءاتهم الغنية. فإذا كانت جمعيات ثقافية أو أهلية تعنى بإحياء ذكرى شعراء وفنانين، ألا يستحق رفقاؤنا ممّن تميّزوا في أيّ حقل أن تعنى الفروع الحزبية بواجب الحفاظ عليهم في ذاكرة أبناء بلدتهم، والمحيط؟

ونحن إذا استعرضنا أسماء الشعراء والفنانين الذين عرفهم الحزب، على مساحة الكيان اللبناني أو مثلهم على مساحة الوطن والمهجر، لسجلّنا المئات، معظمهم كتبنا عنهم، ونقترح على من يرغب الاطلاع على أيّ منهم أن يدخل على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info …

من هؤلاء، الأمين نوّاف حردان الذي، في الذكرى السابعة عشر على رحيله في حزيران عام 2000، اخترنا المقدّمة التي أتحف بها الأمين عبد الله قبرصي الجزء الثاني من «سعاده في المهجر»، ففيها إضاءة جيدة، ليس على الكتاب ومؤلفه فقط، إنما على وقائع من تاريخنا الحزبي يفيد ان يطّلع عليها كل رفيق أو مهتم من أبناء شعبنا.

«كان الأمين نوّاف حردان، قد اصدر عام 1989 الجزء الاول من كتاب سعاده في المهجر ليواصل إصدار مؤلفاته القيّمة عن سورية وأبطالها في التاريخ القديم، إلى أن دفع إليّ مخطوطته الجديدة، الجزء الثاني من مؤلف سعاده في المهجر الذي يتناول فيه حياة سعاده بعد عودته إلى البرازيل عام 1938 وانتقاله منها إلى الأرجنتين. وقد أسرّ إليّ الأمين نوّاف انه شارف على إنجاز الجزء الثالث من ذلك الكتاب 1 .

سألت نفسي بعد أن قرأت المخطوطة، ماذا يمكنني أن أكتب عن سعاده وعن المؤلف، والكتاب ينطق بفصاحة وبيان عن جهاد سعاده، وبالوقت نفسه عن جهود الأمين نوّاف لاكتشاف مراحل هذا الجهاد بكل تفاصيله، فكراً ووقائع.

إن المؤلف تابع سعاده ـ لكي لا نقول لاحقه ـ منذ خطواته الاولى، عندما غادر بيروت في 11 حزيران 1938 إلى دمشق، ثم إلى الاردن، ومنها إلى حيفا في فلسطين ثم إلى جزيرة قبرص، ثم إلى روما في إيطاليا، وبرلين في المانيا، ثم إلى سان باولو في البرازيل، وتأسيسه الحزب فيها، وإصداره جريدة سورية الجديدة. ثم انتقاله إلى الارجنتين حيث أسّس أيضاً فرعاً لحزبه وأصدر جريدة الزوبعة. وقد وثّق المؤلف كل مروياته برسائل من توقيع سعاده نفسه، وبشهادات شهود عدول ممن عاونوه في تلك البدايات الصعبة.

المدهش والمذهل في هذا الجزء الثاني من حياة سعاده في المهجر، أن نوّاف حردان تابعه كأنه ظلّه او كأنه ناموسه الأول، فلم تفته شاردة ولا واردة، من حياته الخاصة أو العامة، فجاء كتابه سيرة وكتابة تاريخ معاً، بخاصة أن أحداث الوطن ونشاط الحزب فيه، لم تكن غائبة عنه: بيانات نعمة تابت ومأمون إياس ورسائل فخري معلوف.

لقد قرأت المخطوطة بإمعان نظر ومسؤولية، لأتمكن من ترداد اسماء الرفقاء والأنصار، الذين عاونوا سعاده في عملية التأسيس الشاقة حتى الإرهاق.

الملاحظة الأولى والهامة هي: أن الأمين نوّاف حردان، كتب الجزء الأول من سعاده في المهجر كما كتب هذا الجزء الثاني بعقلية المؤرخ لا بعقلية كاتب السيرة. ويبدو لي أن هذا الاسلوب كان مفروضاً عليه، لارتباط حياة سعاده بحياة الحزب، فكأنهما واحد.

أقول بعقلية المؤرخ، بعد أن اطلعت على مؤلفاته: حفيد النسور وهاني بعل وزنوبيا. لقد أرّخ حياة هؤلاء الأبطال، الذين صنعوا جزءاً من تاريخنا العظيم، كما يؤرّخ حياة أنطون سعاده، بدءاً من المهجر، حيث قضى سنوات شبابه الأولى، لأنه يعتقد ـ كما نعتقد نحن ـ أنه البادئ بصنع تاريخ سورية الجديدة، انطلاقاً من تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي، باعث الأمة السورية من قبر التاريخ. إلى استشهاده لتحقيق غايته».

ولندخل في التفاصيل:

«من التهم المغرضة التي شنّها الفرنسيون وأتباعهم في لبنان والعالم، عند انكشاف أمر الحزب الذي كان سرّياً حتى سنة 1935.. ثم بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية 1939.. أن سعاده.. وبالتالي حزبه، عملاء للنازية والفاشية، لأن علم الحزب يشبه الصليب المعقوف، ولان نظام الحزب دكتاتوري والزعيم هو الفوهرر.

من مسلسل الوقائع التي يرويها الأمين نوّاف حردان، ويفصّل فيها مرور الزعيم في إيطاليا والمانيا، تتضح الحقائق وينقشع الضباب.. سعاده ليس تابعاً لأحد، وليس عاملاً منذ مطلع شبابه، إلا لمصلحة أمته وشعبه.. كاتباً ومحاضراً وصحفياً ومؤسس أحزاب.. إلى أن عاد إلى الوطن سنة 1930..

وراح يدرس ويقارن، إلى أن اقتنع أن الغاية التي رسمها لحياته، في تحديد شخصية أمته، وتحقيق نهوضها ومثلها العليا، لا يمكن أن تنتقل من فكرة وعقيدة إلى حيّز التنفيذ، إلا بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أبصر النور وأصبح حقيقة فاعلة في 16 تشرين ثاني 1932.

لو أن رفيقنا البحّاثة والمؤرخ جان دايه، قرأ الكتاب الذي نحن بصدده، لجاء كتابه الذي صدر هذا العام أكثر توثيقاً، لأن كتاب «سعاده في المهجر» يجسّـد الأدلة، إلى أن تصبح طوداً شامخاً، وتبدد كل الشكوك وكل الريب.

لا بدّ في هذه المقدمة من ذكر بعض أضلاعها.

ألف: شهادة السفارة الفرنسية في الارجنتين، التي تثبت بما لا يقبل الجدل، أن الزعيم كان في الارجنتين لا في برلين.

باء: التحقيق الذي أجراه معه الأمن العام في البرازيل، بعد توقيفه مع ناموسيه، الأمين أسد الاشقر والأمين خالد ديب.

جيم: رسائله إلى القائمين على تحرير جريدة سورية الجديدة، وبخاصة إلى الرفيق الراحل جورج بندقي، وفيها أوامر صريحة، بألا تنحاز إلى أحد الفريقين المتحاربين، لأن قناعته كانت قد ترسّخت، على أن المحور لن يكون أفضل من الإنجليز والفرنسيين، لأنه سلّم أمر الشرق الأوسط والبحر السوري إلى إيطاليا. ولم تبق أوامره في هذا الموضوع أوامر مجردة، بل عمد إلى حلّ الشركة في الجريدة مع السيدين بندقي، بعد أن تأكد من انحيازهما إلى دول المحور.

وهنا ينفسح لي المجال لأضيف إلى هذه الادلة القاطعة، دليلاً جديداً، أدلى به أحد كبار أمناء الحزب عبر الحدود، الأمين الراحل محمد القاضي 2 ، الذي كان في المانيا عند وصول سعاده إليها وإقامته في برلين. قال الأمين محمد إنّ المعلم قابل رئيس الشبيبة الهتلرية ليشرح له مبادئ الحزب وأهدافه، بلغة ألمانية نقية، الأمر الذي أدّى بالرئيس المذكور، أن يأمر بتخصيص فاغون درجة أولى للزعيم العظيم.

وإني لأشهد شخصياً، تعزيزاً لهذه الأدلة الصارخة، بأننا كنا نحن القوميين في معتقل المية ومية، بعد ان احتلت ألمانيا فرنسا، وجاء فان ردرز وفان هانزيل إلى لبنان، ليشتركا في إدارة ومراقبة سورية ولبنان مع الجنرال دانتز المفوض السامي الفرنسي. كانا يحكمان البلدين بصورة غير مباشرة. فلو كانت لنا أي علاقة بالمحور. هل كنا بقينا في المعتقل إلى آخر سنة 1943؟؟

لقد دفنت اضاليل الانتداب ومريديه، بحيث لا تقوم لها قائمة إلى أبد الأبدين».

سعاده في المهجر هو سعاده في الوطن

لنقلها بصوت عالٍ: ليس سعاده إلا شخصية واحدة، وعقيدة واحدة، وغاية واحدة.. وقف حياته في قسَم الزعامة على تحقيقها.. إنها شخصية العبقري العالم ورجل الدولة، والفيلسوف والأديب والخطيب.. إنه في بيروت تماماً كما هو في البرازيل والارجنتين.. وإنه في سجن الرمل تماماً كما هو في سجن سان باولو.. سعاده لا يتلوّن ولا يتغيّر بتبدّل أو تغيّر الامكنة والظروف.. إنه في السلم تماماً كما هو في الحرب.

قد تسوء صحته، قد يعوزه المال، قد يتفرق بعض أتباعه من حوله.. إنه دائماً في ثياب الميدان، في ثياب المصارع المحارب.. في ثياب المعلم والقائد.

هل يمكن ان نصدّق لو لم نكن شهوداً.. ان العبقري البطل يطلب من جلاديه، وهو مجبر على الركوع أمام خشبة الإعدام ان تظل عيناه مفتوحتين ليرى الرصاص يخرق صدره؟

هل يمكن أن نصدّق.. وهو السجين في سجن الرمل، الموبوء بالأوساخ والجراثيم، بانه يكتب شرح مبادئ الحزب التي هي بعض غذائنا الروحي حتى اليوم، ويتابع تأليف الجزء الاكبر من كتابه الفريد من نوعه في عالمنا العربي «نشوء الأمم».. الذي لا يزال الأوحد في علم الاجتماع، وبخاصة في علم نشوء الأمة وتحديد شخصيتها، كما مقاصدها في الحياة ومثلها العليا.

كان قد أعدّ العدة وحصل على المراجع والاسانيد، ليؤلف الجزء الثاني من نشوء الأمم أي نشوء الأمة السورية، ولكن رجال الأمن اللبنانيين صادروها ووضعت في ملف.. رحنا، الزعيم وأنا، نبحث عنه في محكمة البداية الجزائية في بيروت، وكان رئيس قلمها السيد لمع لمع، فوجدنا الملف ولكن فارغاً.. لقد سرقوا المراجع.. اللهم إغفر لهم هذه الجريمة.

سعاده المعلّم

لا يمكن أن يعلّم من لا يعلم.. يحدثنا أهالي الشوير، الشيوخ الذين غاب أكثرهم، وخاصة الأمين المارد الجبّار وديع الياس مجاعص، عن انكباب سعاده على الدرس والمطالعة وهو في الخامسة عشرة من عمره.

لقد دخلنا إلى السجن معاً في 16 تشرين ثاني 1935 ليلة عرسي.. كلنا كنا نتأبط الفراغ.. اما سعاده فحمل معه إلى السجن، مؤلفات الفيلسوف الألماني «كانط».. وكتاب ابن المقفع «كليلة ودمنة».

كان انطون سعاده موسوعة حقيقية، كان موسوعة في لغات العالم الحضاري، وكان موسوعة في علم الاجتماع، وموسوعة في علم السياسة، وموسوعة في الآدب والفلسفة.. لقد كان محيط المحيط.. لذلك لا يستغرب القارئ كل ما جاء في كتاب الأمين نوّاف حردان، عن خطبه ومقالاته وحواراته.. الذين رافقوا سعاده مثلي في نقاشه مع شارل مالك ست ساعات، وفي نقاشه مع المحامي والوزير جورج عقل خمس ساعات، ومع المحأمين اميل لحود وجان تيان وبهيج تقي الدين أربع ساعات، يستطيعون أن يجزموا، أن نوّاف حردان أعطى سعاده بعض حقوقه على حزبه وشعبه وأمته.

إن آثار سعاده الكاملة وقد صارت بين أيدينا، تحتاج فقط إلى «فهرسة»، لكي يرى كل مشكك أننا لا نؤله سعاده ولا نضخّمه.. إننا نقول عنه الحقائق التي اكتشفناها بأنفسنا في حياته وبعد استشهاده.

ورد في كتاب الأمين نوّاف خبر عن حيازة سعاده قصب السبق في هضاب كوردوبا ـ الارجنتين 3 ، يوم كان في ضيافة المهندس النابغة عبود سعاده. لقد كان أدهش الرفقاء والمواطنين بفروسيته في ركوب الخيل في «تلكلخ»، ونحن في ضيافة رفقائنا من آل دندشي، كذلك أدهش الناس في كوردوبا، في نيله قصب السباق على جواده العربي.

نوّاف حردان تاريخ يكتب تاريخاً

لم أكن قد عرفت في العمق نوّاف حردان، قبل كتابة هذه المقدمة، لقد رحت أدرس الرجل واستطلع ماضيه في الوطن والمغترب..

هذا الرجل وهب نفسه للنهضة السورية القومية الاجتماعية.. لقد علّم وخطب وحاضر. ثم ألّف لنا الكتب الخالدة عن تاريخنا القديم: «حفيد النسور»، «هاني بعل»، «زنوبيا»، وأخيراً لا أخراً، هذا الكتاب الثمين «سعاده في المهجر».

إن الذي قاتل بقيادة سعاده أيام الثورة القومية الاجتماعية الاولى عام 1949.. في جبل الشيخ وفي جرود عين عطا وضواحي الكفير، في أشدّ ساعاتنا حرجاً، والذي اضطلع بمهمات إدارية وثقافية عديدة، والذي مارس الصحافة في جرائد الغير ثم في جرائد النهضة، محرراً أو رئيساً للتحرير، وفي مجلة «الرابطة» وجريدة «الأنباء» اللتين أصدرهما في البرازيل، والذي لا يزال وقد قطع السبعين، يؤلف ويناضل بالفكر والقلم.. وهو تاريخ بحد ذاته.. لذلك قلت وأنا شاهد عدل، أنه تاريخ يكتب تاريخاً.

وأخيراً، بإصدار جزئين من تاريخ سعاده في المهجر، وبانتظار الجزء الثالث، نجزم أن الأمين نوّاف حردان.. سدّ فراغاً كبيراً..

صحيح أن سعاده واحد في الوطن وعبر الحدود.. ولكن الادلة التي وضعها نوّاف حردان بين أيدينا، أصبحت سلاحاً نمتشقه نحن القوميين، في وجوه من لا يعرفون.

لقد أصبحنا نعرف سعاده.. من ألفه إلى يائه.. بفضل نوّاف حردان.

آب 1995

عبد الله قبرصي

هوامش:

1 – لم يصدر مع الأسف، الجزء الثالث، كما مؤلفات عدّة كان يمكن للأمين نوّاف حردان أن ينجزها لو أوتي له المديد من العمر. إلا أنه رحل عام 2000 وفي جعبته الكثير ممّا لم يرَ النور.

2 – الأمين محمد القاضي: للاطّلاع على ما نشرت عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

3 – كنّا قد نشرنا عن السباق المشار إليه كما عن المهندس النابغة عبود سعاده. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى