كيف يرث آل سعود بني هاشم؟!

د. وفيق إبراهيم

نحن أمام فيلم مصريّ قديم بالأسود والأبيض، يحتكر بدولته الحصرية الرئيس المصري السيسي الذي يعالج التخلّف الاقتصادي لبلاده بالتخلّي للسعودية عن السيادة المصرية عن جزيرتّي تيران وصنافير.

التبريرات المصرية القانونية ليست متماسكة، وخصوصاً في العرض القانونيّ الأخير الذي استند إلى سعوديّة الجزيرتين بدعوى أنّهما كانتا تحت سيادة مملكة الحجاز التي كان يتولاها بنو هاشم ـ أسرة النبي محمّد.

هناك نقاط تاريخية أخرى أوردها التقرير القضائي المصري حول سعوديّة الجزيرتين، لا تبدو بدورها أكثر تماسكاً من سابقاتها، وتتعلّق بأمرين: أنّ مصر القديمة لم تمارس سيادتها عليهما، مقابل اعتراف من الدولة المصرية الحديثة بسعوديّتهما على أن تُرابط عليهما قوّات مصرية للزوم الحرب مع «إسرائيل».

لمناقشة هذا الموضوع، لا بدّ من إطلالة تاريخية بسيطة تبدأ من عدم وجود «دولة محلّية» في جزيرة العرب قبل الإسلام، وذلك لغياب العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية، وهي الأرض الخصبة والمياه العذبة. وهذا لا ينفي وجود مشيخات صغيرة قرب واحات أصغر لم تصل إلى مستوى دويلة، لذلك هناك انعدام كامل لأيّة سيادة من شبه جزيرة العرب على تيران وصنافير. إلا أنّ الفينيقيين استعملوا الجزيرتين عندما كانوا ينطلقون من مراكزهم الأساسية في عُمان على سواحل الخليج ليصلوا إلى مصر وبلاد الشام من خلال خليج العقبة في الأردن.

أمّا دولة الخلافة الراشديّة، فانتشرت على مدىً واسع جداً بإيديولوجيا الدين الرافضة للانتماءات القومية، للشعوب والأرض.

المماليك بدورهم، لم يحكموا المنطقة بالبعد القومي بل بالبعد الإسلامي. وكذلك فعل العثمانيون الذين أخضعوا الإسلام لانتمائهم القومي في «توليفة» أدّت إلى سيطرتهم على جزيرة العرب والشام والعراق نحو أربعة قرون. لذلك، فإنّ الجزيرتين بقيتا في مرحلة ما بعد تشكّل الدول المعاصرة وظهور المفهوم الدقيق للحدود السياسية، ضمن السيادة العثمانية، علماً أنّ هذه المفاهيم لم تتكرّس عالمياً إلا بعد معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر، لذلك سقطت الجزيرتان تحت السيادة العثمانية من 1920، وانتقلتا إلى نفوذ محمد علي باشا عندما استقلّ بحكم مصر وانتزعها من العثمانيين محاولاً القضاء على الحركة الوهابية في هضبة نجد في القرن التاسع عشر.

يتبيّن بالاستنتاج، أنّ الجزيرتين مرّتا في مرحلة بناء الدول بعد معاهدة وستفاليا، وبالتتابع في إطار سيادات مملوكية وعثمانية ومصرية محمد علي وبريطانيّة ومصرية، إلى أن احتلّتهما «إسرائيل» في حرب 1967، لكنّها أعادتهما إلى مصر بعد اتفاقية «السلام» المزعوم مع السادات في 1979.

الملاحظ أنّ لا وجود لأيّ سيادة سعودية على الجزيرتين، والسبب بسيط، ويعود إلى أنّ الدولة السعودية الحقيقية لم تتأسّس قبل ثلاثينيات القرن الماضي. أيّ أنها لم تصل إلى البحر الأحمر قبل النصف الأول من القرن العشرين، مقابل وجود دولة مصرية دائمة منذ آلاف السنين وقبل الإسلام، وهي دولة الفراعنة الذين انتشروا في مصر وبلاد الشام وجزيرة العرب على سواحل البحر الأحمر فارضين سيطرتهم على الجزيرتين أيضاً.

أمّا حكاية مملكة الحجاز، فمردّها إلى أنّ الهاشميين كانوا يديرون مدينتهم مكة المكرّمة بتكليف من السلطان العثماني، وإذا كانت مجموعات من الهاشميين استقرّت في تيران وصنافير، فإنّها كانت لضرورات التجارة والانتقال.

ويكفي القول إنّ المخابرات البريطانية استعملت الهاشميين لدفع العشائر العربية إلى مهاجمة العثمانيين في الحجاز وبلاد الشام، واستخدمت آل سعود للانتشار على مساحة كبيرة من جزيرة العرب، ولأنّها لا تريد تنفيذ وعودها لشريف مكّة الحسين بن علي ببناء مملكة عربية كبيرة له في المشرق العربي، فذهبت نحو دعم آل سعود في هجومهم على الحجاز وتدمير مكة وطرد الهاشميين وأعطتهم ملكاً في العراق والأردن.

فإذا كان آل هاشم يمتلكون جزيرتي صنافير وتيران «عقارياً»، فإنّ هذه الممتلكات تذهب بالقانون إلى الورثة البيولوجيين الأكثر قرباً، وهم أحفاد الحسين بن علي الموجودين في الأردن، ومنهم الملك عبدالله الثاني وأشراف مصر وصولاً إلى السيد حسن نصرالله الهاشمي النسب واللبناني المولد.

أمّا عن السيادة السياسية والوطنيّة، فلها كلام آخر وترتبط بالعادة التاريخية والجزر القريبة من الشواطئ. لجهة الاستعمال، فهي مصريّة صرفة، من الفراعنة إلى عبد الناصر، ولم تكونا مسكونتين إلا لأغراض التدرّب على الغوص والسباحة والسياحة، وواحدة منها تبعد عن الشاطئ المصري ستة كيلومترات فقط، فيما تقترب الثانية من الشاطئ السعودي.

فكيف يمكن إذاً لآل سعود الذين دمّروا حكم آل هاشم أن يرثوهم عقارياً أو سياسياً؟

وباستبعاد الفرضيات القانونية المزعومة للتنازل المصري، يجب التفتيش عن أسباب أكثر موضوعية. فلم يسبق لدولة متشكّلة منذ آلاف عدّة من الأعوام أن تنازلت عن أراضٍ لأسباب غير واضحة، فـ»إسرائيل» مثلاً تذرّعت بأوهام دينية أسطورية لتحتلّ فلسطين، وباع الفرنسيون لويزيانا إلى ولايات الشمال الأميركية في مرحلة تشكّل الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، وكذلك فعل قيصر روسيا الذي باع مناطق آلاسكا لسدّ انهيار اقتصاديّ، لكن هذه البيوعات والتنازلات جرت في مناطق ليست ملتصقة على المستوى الجغرافي بفرنسا وروسيا، وكانت تشكّل دوائر نفوذ استعماريّ لهما.

أمّا لجهة تيران وصنافير، فهما تاريخيّتا التطوّر، وأقرب إلى الساحل المصري في سيناء، ولها أهميّات استراتيجية في قدرتيهما على التحكّم بحركة المرور البحري نحو الأردن وفلسطين المحتلّة وبعض أجزاء السعودية، باعتبار أنّ قناة السويس تكمل السيطرة على كامل العلاقة بين بلدان الخليج والبحر الأحمر مع البحر الأبيض المتوسط ودول في آسيا وأوروبا وأفريقيا.

وتتدنّى قيمة الجزيرتين سعودياً إلى حدود المساواة مع أي أرض سعودية أخرى تطلّ على شواطئ البحر الأحمر، والمعتقد أنّ السعودية تنوي استثمارهما سياحياً.

هذا الفارق بين وجهتي الاستعمال تفرض على الحريصين على دور مصر الأفريقي والآسيوي كتم كلّ مطمع في الجزيرتين من أجل المصلحة العربية العليا، وتلزم نظام السيسي عدم جواز التفريط بهما تحت أيّ مسمّى.

إذا كانت الجزيرتان تحظيان بكلّ هذه الأهمية، فلماذا تتنازل عنهما مصر؟

الأسباب سياسية وبعمق اقتصادي ينتهزها آل سعود لتحقيق مبتغاهم… فهناك نحو خمسين في المئة من المصريين يقبعون تحت خط الفقر مقابل 25 في المئة فقراء. أمّا الباقي فيتوزّعون بين الطبقة الوسطى والأغنياء، وهذا وضع يعتبره علماء الاجتماع مثالياً للانفجارات الاجتماعية الضخمة، بدليل أنّ الإخوان المسلمين يستغلّون هذه الانهيارات الطبقية لتوسيع نفوذهم الشعبي في مصر إلى جانب عشرات التنظيمات المتطرّفة التي تعزو الفقر إلى ابتعاد الدولة عن الله والإيمان، لذلك فضّل السيسي الذهاب إلى الدواء السعودي لمعالجة الانهيار المصري. وكان طبيعياً أن تبدأ رحلة الإذلال بتقديم هدايا على شاكلة الجزيرتين، مقابل قروض وهبات ومعاهدات يعتقد النظام المصري أنّها قد تلجم الاندفاعة نحو الانهيار. فيبدو المشهد مضحكاً: مريض بالسرطان يتعالج بحبوب الأسبرين، وبدلاً من استئصال الأورام يتناول المهدّئات.

إنّ آخر مَن يحق له حيازة الجزيرتين هم الذين باعوا فلسطين لليهود وضربوا الخطوط السياسية الوطنية والقومية والإسلام الصحيح. وإذا كان لا بدّ من توريث الجزيرتين للهاشميين، فأشراف مصر أحقّ بها و«سيّاد» لبنان وسورية والعراق أيضاً. لكن الأفضل أن يبقى المصريّون الشرفاء هم أصحاب السيادة عليهما، لأنّهما خاصرتا بلادهم وبلاد الشام وجزيرة العرب، فلا تتركوهما لمن يمكن أن يقدّمهما للعدو «الإسرائيلي» مقابل مهاجمة إيران وسورية والعراق…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى