على موائد الإفطار.. طرابلس من الداخل

طرابلس ـ البناء

لوهلة، يظن النّاظر إلى إفطارات طرابلس الانتخابية، أنّ المدينة المكتظة بصور سياسييها عادت إليها الحياة لكنّ ضجيج «قهوة موسى» بين أزقة الحدادين عند السحور وزحمة السيارات الفاخرة في «الضم والفرز» عند الإفطار ليس سوى ذلك الضجيج الذي يخفي أنين أبنائها.

استطاعت الخطة الأمنية في طرابلس فرض سيطرتها وضبط المدينة بنجاح نسبي حتى الآن، وتمكّنت من إقصاء بعض الوجوه التكفيرية في المدينة المرتبطة بـ«أبو مالك التلي» وغيره من المرتبطين بالجماعات الإرهابية، لكنّ هذا الاستقرار خلفه الكثير من البؤس يمتد منذ سنوات وفي مستوى تصاعدي.

في التبانة حيث انهارت التنظيمات التكفيرية في أقلّ من 48 ساعة، يوم اتخذ القرار بشنّ العملية العسكرية، تنفس الفقراء الصعداء لكنّ سرعان ما وجدوا أنفسهم خارجين من بؤس الإرهاب إلى بؤس الجوع. أسواقها ما عاد يرتادها أبناء المدينة فظلال الإسلاميين ما زالت تخيّم عليها، وما يرافق ذلك من انعدام الشعور العام بالأمان وبالتالي انكفاء أبناء المدينة عن تأمين حاجياتهم مما كان يعرف سابقاً بـ«باب الدهب» وأصبح اليوم «باب التبانة» بل باب البؤس حيث أعلى مستويات الفقر والجهل، ما يضع الشباب أمام مسارين لا ثالث لهما إما التطرف والانجرار نحو بقايا التكفيريين في المدينة والتي يرعاها سياسيون وأمنيون يؤمّنون لهم الغطاء طالما يوردون لهم المعلومات ويقدمون لهم الطاعة، وإما دخول دوامة تعاطي المخدرات أو الإتجار بها.

يشكل سوق الخضار وبسطاته مصدر الرزق الوحيد الذي يقيت عظام أبناء التبانة، هذه البسطات التي تعتمد بشكل أساسي على نساء القاطع الآخر لشارع سورية، أعداء الماضي وشركاء اليوم بالفقر والجوع، يأتين للتبضع وشراء الحاجيات اليومية بعد انقطاع دام سنوات، إلا أنّ هذه الألفة لا تلبث أن تغيب مع غياب الشمس حيث الغربان السود ما زالوا يتربصون بأي «غريب» فيلقى مصيره بسكينٍ في الخاصرة أو عصاً غليظة تودي به وإذا «زمط» من «أصحاب الذقون» تلتقطه إحدى العصابات. أما أمراء المحاور فقد أصبحوا اليوم مفاتيح انتخابية يقتاتون على موائد سياسيي المدينة الرمضانية متجولين بسياراتهم الفاخرة ويرمون ما يفيض عنهم من فتات لمنطقة تضجّ بالفقر والجهل والموت.

على قاطع الطريق ليس الحال بأفضل، فجبل محسن وهو أحد أحياء طرابس والطرف الشمالي لباب التبانة، تحول طيلة فترة الاشتباكات إلى جزيرة داخل المدينة جرّاء الحصار والعزل الديمغرافي والاعتداءات والتحريض المذهبي، وقد انفتح على مصراعيه أمام القوى والفعاليات الطرابلسية كافة، خصوصاً بعد خروج الحزب العربي الديمقراطي من المنطقة عقب التسوية التي حصلت بعد انتهاء جولات المعارك في المدينة. هذا الانفتاح سمح للأطراف الأمنية والسياسية المتخاصمة كافة التغلغل في هذا الحيّ، فما عادت جهة واحدة تحتكر تمثيل جبل محسن بل دخلت وجوه وشخصيات اجتماعية فاعلة من المدينة في ظلّ انحسار الحزب العربي الديمقراطي الذي حكم هذا الحي سنوات من دون أن يتمكن من تأسيس أي قاعدة نخبوية أو التفاف شعبي معه وهذا ما يأخذه عليه منافسوه حتى أولئك الذين هم من نفس الخط السياسي، فيما تتّهمه نخب جبل محسن بالسلوك الإقصائي. ومع أنّ محاولة إحياء الحزب وتحديثه التي يقوم بها بعض شبابه منذ أشهر تشكّل إمكانية لإعادة تموضعه، إلا أنه يبقى على العربي الديمقراطي أن يكسر ذلك الحاجز بينه وبين أبناء طرابلس من جهة، وبينه وبين أبناء جبل محسن وفعالياته من جهة أخرى.

وإذا كانت أبواب مدينة طرابلس قد اندثرت إلا أنّ أسماءها ما زالت تحدّد اتجاهاتها وأسماء مناطقها، هذه المدينة العريقة بأصالتها والتي تعوم على متحف أثري وبناء هندسي تراثي وخانات تاريخية في أسواقها القديمة حوّلها الإهمال والفوضى وسوء التنظيم إلى خرابة تهدّد أهم المعالم الأثرية حيث تحولت أسواقها التاريخية وأبنيتها إلى مزابل ومناشر غسيل ومعبث لكلّ جاهل كما أنّ المعارك التي شهدتها هذه الأحياء دمرت جمالية المدينة التاريخية، لتصبح حالياً بحاجة إلى خطة طارئة ومستعجلة لإنقاذها من الاندثار تحت أقدام الفوضى.

هذه الخانات والأسواق التي تتميز بأسماء المهن سوق العطارين، النحاسين، الصاغة، الصابون.. مهدّدة بالإقفال بسبب الركود الاقتصادي في المدينة وارتفاع مستويي الفقر والبطالة في ظلّ عدم قدرة التجّار وأصحاب المحلات على الاستمرار حيث مستوى الطلب على كافة أنواع السلع شبه معدوم والسيولة في انخفاض بينما القبضة الأمنية على شدتها ما زالت تتفلت منها بعض الحالات المتزعمة لهذه الأحياء ولو بقدرة أضعف على التأثير من ذي قبل، إلا أنّ حوادث إطلاق النار والتصفيات والاقتتال والتشبيح ما زالت شبه يومية، خاصة مع غياب الشمس.

أما «باب الرمل» التي تعتبر إحدى المناطق الصناعية في طرابلس فلا تختلف عن باقي أنحاء المدينة فلا يمر يوم إلا وتجد أبواب إحدى المحلات قد أغلقت وأصحاب المصالح والمهن والتجار يشكون من انعدام الحركة، حتى أنّ من أراد الهروب من زحمة الطريق العام بات يدخل إلى طرقات هذه الأحياء بسبب فراغها من المارة، هذه الطرقات ذاتها التي كان سالكها، منذ فترة ليست ببعيدة، يحتاج ساعات للخروج منها بسبب زحمة السيارات.

وعلى الطرف الآخر من المدينة، تشكّل الميناء مرفأ طرابلس وشريانها إمكانية جدية قد تكون الوحيدة لإنقاذ المدينة، إلا أنّ قدرة المرفأ على إنعاش المدينة مرتبطة حكماً بالمدى القومي لطرابلس الممتد إلى حمص وإمكانية المرفأ من حيث البنى التحتية على تأمين مستلزمات إعادة إعمار حمص، ومن جهة أخرى تأمين الظروف السياسية البعيدة عن المناكفات السياسية الطائفية الضيقة لربط مرفأ طرابلس بالاستثمارات الضخمة في حمص والتي تتزاحم عليها الشركات من دول العالم كافة. ومع أنه نظرياً ممكن جداً، إلا أنه عملياً وفي ظل السلوك السياسي والنفس المذهبي المسيطر على المدينة فهو بعيد نسبياً عن الواقع والقدرة على التنفيذ، قبل أن يحصل تغيّر جذري في المشهد السياسي الإقليمي وما ستكون له من انعكاسات على المشهد المحلّي الطرابلسي.

الميناء ليست بأفضل حال من باقي أحياء طرابلس، فنفس المشاهد تتكرّر ونفس السلوك السياسي الإقطاعي واللامبالي لنفس للشخصيات السياسية إلا أنّ طابع الميناء يحكمه الواقع العائلي بشكل أكبر، ويشهد كورنيش الميناء حركة ملحوظة حيث أنه المنفس الوحيد لكلّ أبناء المدينة والأقلّ تكلفة مادياً.

من جهة أخرى، قامت «القوات» مؤخراً بمحاولة للتموضع في الميناء وإنشاء فرع حزبي مستفيدة من الوجود المسيحي التاريخي في الميناء والتحريض المذهبي المرتفع في المدينة، حيث استغلت زيارة وزير الصحة القواتي إلى المدينة لتشكيل رافعة في طرابلس، إلا أنّ النفس العام في المدينة ما زال يرفض حزب «القوات» بشكل كبير وما زالت قضية اغتيال الشهيد رشيد كرامي حيّة في الوجدان الطرابلسي وحاجزاً لم تستطع «القوات» تجاوزه، وإذ تسعى من تنظيمها في طرابلس إلى أخذ المقعد المسيحي في الميناء من الكتائب وعلى حساب التيار الوطني الحر، إلا أنّ مرشحها المزعوم يسكن في بيروت وقد يكون لا يدرك كيف يسير في أحياء الميناء. ومن جهة أخرى، ما زالت خليتها لا تتجاوز العشرين حزبياً ومناصراً رغم كلّ الدفق الإعلامي والمالي لخرق الساحة الطرابلسية وفتحها سابقاً شبكة علاقات مع جهات طرابلسية محمّدية متشدّدة كانت قد دعمتها القوات في السنوات السابقة وتحاول استثمارها اليوم في تثبيت حضورها، بالإضافة إلى كون كافة مسؤوليها في الميناء هم من سكان الكورة أو الضنية وهذا ما خلق هوة بينها وبين أحياء ادّعوا حضورهم فيها كالـ groupi وشارع «يعقوب اللبان» في وقت يسعى أبناء هذه المنطقة إلى إحياء الحركة السياحية في «مينو» علّها تساعد في انتشال المدينة من كبوتها الاقتصادية بعيداً عن طموحات البعض النيابية وحضورهم الطارئ والوهمي على أبناء الميناء.

وبينما يتسابق سياسيو المدينة على إقامة الإفطارات الرمضانية الاستعراضية تبقى وعود التنمية وتحريك العجلة الاقتصادية رهينة المنابر وطرطقة الصحون فلا صدى لها خارج القاعات ولا رؤى فعلية يمكنها أن تلامس أمعاء أبناء المدينة الفارغة ولا أقساط طلابها المدرسية والجامعية.

أمام هذا الواقع يزداد حضور عصابات التشليح وعمليات السلب والسرقة المنظمة والفردية مع جهود فعالة نسبياً للقوى الأمنية بكشف الجرائم وإلقاء القبض على مرتكبيها وضبط ذيول أي حادث أمني، إلا أنّ الضغط المتزايد سيؤدي حكماً إلى انفجار قد تصعب السيطرة عليه لاحقاً.

وإذا كانت هذه القبضة الأمنية أراحت المدينة إلاّ أنّ إشكالاً كالذي حصل الأسبوع الماضي في ساحة النجمة بين أنصار الوزير السابق أشرف ريفي والرئيس نجيب ميقاتي على خلفية تعليق صور، تخلله إطلاق نار وأدى إلى مقتل أحد المشتبكين، كان كفيلاً ليشلّ المدينة يوماً كاملاً وتهديد سلامة مئات الطرابلسيين، فكيف إذا تكرّر بشكل شبه يومي؟

قد لا تجالس أي تاجر أو صاحب مهنة في طرابلس إلا ويشكو لك من ركود اقتصادي وجمود في السوق ليس له سابق، بالإضافة إلى تدنٍّ مخيف في المستوى المعيشي، إلا أنّ سؤالاً عن سبب هذه الأزمة الآن، سيلقى جواباً من أحد العارفين بخفايا المدينة بأنّ المال السياسي قد تبخّر والمعابر الشمالية مغلقة، فمن أين تأتي السيولة وبحرنا لم يعد يصلح سوى للتبليط!..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى