النزوح السوري إلى لبنان ملف واجب الحلّ… وإلا؟

العميد د. أمين محمد حطيط

عندما اعتمدت حكومة لبنان بدعة «النأي بالنفس» كان موقفها واضحاً بالنسبة لنا. ومنذ البدء ولهذا أدنّاه ورفضناه جملة وتفصيلاً، لأننا رأينا فيه مناورة احتيالية يُقصد منها تفلت لبنان من التزاماته العَقْدية والاتفاقية مع الدولة السورية خدمة للعدوان عليها وتسهيلاً لعمل معسكر العدوان ضدّ سورية ومحور المقاومة، رغم أنّ في الأمر إضراراً شديداً بلبنان.

وفي الممارسة العملية جاءت مواقف أطراف لبنانيين في منتهى العداء للدولة السورية، حيث وفرت هذه الأطراف للمسلحين والمتمرّدين والإرهابيين وسائل العمل كلّها للإضرار بالأمن السوري وبتسهيل وتشجيع من جهات رسمية لبنانية، ممارسة دفع الجيش اللبناني ثمنها، وتضرّر لبنانيون منها، وأخطر مثل يضرب على هذا ما حدث في عرسال وأدّى إلى استباحة المدينة وخطف جنود لبنانيين لا يزال عدد منهم رهائن لدى التنظيمات الإرهابية التي احتضنها لبنانيون وسهّلت سياسة «النأي بالنفس» الخادعة عملها على الأرض اللبنانية.

وفي سياق الإضرار بسورية سعت أطراف لبنانية محدّدة وفي طليعتها تيار المستقبل وباختيار ذاتي معزّزاً بتوجيه وإملاء خارجي وخليجي خصوصاً. سعت هذه الأطراف إلى تشجيع نزوح السوريين إلى لبنان مؤملة بأن تتمكّن في لحظة معيّنة من اتخاذهم ورقة ضغط وابتزاز لا بل وتهديد لخصومها في الداخل اللبناني وللحكومة السورية التي اتخذت منها عدواً يتقدّم عداؤها لا بل يحجب العداء لـ«إسرائيل». وعندما كانت أصوات لبنانية تعلو مطالبة بضبط موضوع النزوح حتى لا يتفاقم ويتضخم ويتعدّى قدرة لبنان على احتماله، كانت تلك الأطراف تتصدّى بشراسة وفجور متهمة أصحابها بالعنصرية والطائفية…

وهكذا وبنتيجة سياسة العدوان الأجنبي على سورية التي انخرط فيها قسم من اللبنانيين وبنتيجة خدعة سياسة «النأي بالنفس» التي برّرت فيها حكومة نجيب ميقاتي امتناعها عن التنسيق مع الحكومة السورية، ونتيجة للديماغوجية والإعلام التحريضي، تفاقمت مشكلة النزوح والنازحين السوريين إلى لبنان حتى وصلت الى الحدّ الذي جعل رئيس تيار المستقبل نفسه يقرّ بأنها مشكلة باتت تهدّد الأمن والاستقرار والاقتصاد ونواحي شتى أخرى من الوضع اللبناني، إقرار اتبعه بتوصيف لو صدر عن غيره لكان عرضة لأبشع هجوم إعلامي وسياسي وأخلاقي مقترناً باتهام بالعنصرية والطائفية.

لقد ظنّ البعض أنّ إقرار رئيس تيار المستقبل بأخطار النزوح السوري على لبنان، سيشكل أرضية مناسبة لإطلاق يد الحكومة اللبنانية التي تولّى رئاستها في السعي لحلّ هذا الملف، عزّز هذا الظنّ بتعيين وزير لشؤون النازحين تمّ اختياره من تيار المستقبل ذاته.

ولكن ظنّ أصحاب النيات الحسنة كان في غير محله، إذ سرعان ما تبيّن أنّ وزير النازحين سيكون نسخة منقحة عن وزير المهجرين الذي عيّن لأول مرة منذ 25 سنة، وكان هناك اتجاه لتصفية ملف المهجّرين اللبنانيين في سنتين فإذا بنا نتخطى العقدين ونشارف على إنهاء الثالث وملف المهجرين قائم لم يُحلّ رغم إنفاق مبالغ متتالية تفوق عشرة أضعاف ما كان مقدّراً في الأصل لحلّها.

والآن وبعد الكشف الأمني الذي ظهر بعد العملية الأمنية العسكرية التي نفذها الجيش اللبناني بنجاح باهر في إطار عملياته الاستباقية ضدّ الإرهاب، اتضح أنّ موضوع النازحين السوريين ومخيماتهم لم يعد شأناً يمكن التساهل به إرضاء لهذا الطرف المحلي او لذاك الطرف الإقليمي أو لتلك الجهة الدولية. فقد أظهرت العملية الأمنية الرشيقة والناجحة جداً التي نفذها الجيش أنّ مخيمات النازحين تتحوّل رويداً رويداً الى معسكرات وبؤر لإيواء الإرهابيين ولتجنيدهم وتدريبهم وانطلاقهم بعمليات إرهابية ضخمة تهدّد لبنان بأمنه واستقراره. وقد يصل التهديد الى مستوى يتعدّى قدرة لبنان على احتوائه، ويتضح حجم الخطر والكارثة الأمنية إذا عطفنا الواقع على علاقة هذه التنظيمات الإرهابية بـ»إسرائيل» وراقبنا ما يحصل في الجولان من إسناد «إسرائيلي» لإرهابها.

مع هذه الحقائق ومضافاً لاعتبارات لبنانية مختلفة اجتماعياً واقتصادياً ومالياً ومعيشياً، معطوفاً على اعتبارات تتصل بمصالح السوريين لجهة كرامة النازحين ومصالحهم ومصلحة الدولة السورية، مع كلّ هذه العناصر مجتمعة ظهر جلياّ انّ ملف النازحين السوريين بات حله ملحاً وضرورياً لمصلحة لبنان أولاً، ولمصلحة سورية ثانياً، ولمصلحة النازحين أنفسهم ثالثاً، بخاصة بعدما سجل من حالات تدنّي الخدمات والرعاية في المخيمات، حيث التهمت النيران مخيمين ذهب ضحية الحريق فيهما أكثر من 40 شخصاً بين قتيل أو مصاب.

هكذا نرى وبعد كلّ ما ذكر أنه لم يعد موضوع حلّ ملف النازحين السوريين الى لبنان قابلاً للنقاش أو التسويف او المماطلة، لأنه لا يناقش فيه إلا من يريد إضراراً بمصلحة لبنان خدمة لمآرب الآخرين بشتى وجوهها، ما يعني انّ الملف يجب أن ينتقل الى دائرة أخرى عنوانها: «كيف يكون الحلّ؟».

إذا أراد الباحث عن حلّ لقضية النازحين السوريين أن يتصرّف بشكل موضوعي ومنطقي، فعليه أن يقارب المسألة ببساطة كلية ينطلق فيها من القول: إنّ النازحين السوريين هم سوريون على أرض لبنانية، وتكون تسوية أوضاعهم مستوجبة تنسيقاً بين صاحب السيادة على الأرض، حيث هم أيّ الحكومة اللبنانية، مع صاحب الولاية على النفس والاختصاص في رعاية شؤون مواطنيه أيّ الحكومة السورية، تنسيقاً يؤدّي إلى تحديد آلية استعادة النازحين الى بلدهم وتنظيم تلك العودة بشكل يحفظ أمنهم وسلامتهم وكرامتهم أولاً ولا يشكّل ضغطاً على الحكومة السورية يعرقل عملها في التنفيذ، كما لا يمسّ بصورة لبنان إنسانياً وأخلاقياً واجتماعياً وأمنياً أو سياسياً.

غنّ حكومتي الدولتين هما وحدهما المرجع الصالح لحلّ مشكلة النازحين السوريين، بدءاً من الإحصاء الدقيق لواقعهم في لبنان مع كلّ تفصيلات الإقامة الحالية والحجم والظروف، وتحديد مواطنهم الأصلية في سورية، وعما إذا كانوا قادرين على العودة إليها، او الانتقال الى أماكن آمنة داخل سورية بإقامة المواطن الموقتة وتحديد سبل الإغاثة والإعاشة اللازمة لتخطي الظروف القائمة، وصولاً الى وضع جداول زمنية للعودة وتحديد وسائل النقل ومعابر الانتقال.

ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة المركبة والمعقدة نوعاً ما، الا الجهات الرسمية في كلتا الدولتين. هذا هو المنطق السليم، لكن لدعاة العدوان على سورية منطق آخر، يجافي المنطق السليم هذا، ومنطقهم المخالف للمنطق يشكل امتداداً لموقفهم الأول الذي به شجّعوا النزوح، وبه غلّوا يد الجيش، وبه فتحوا مخيمات تحوّلت بؤراً للإرهاب. منطقهم هو نفسه الذي جعلهم يهاجمون الجيش، لأنه قام بعملية استباقية لحماية لبنان من الإرهاب، منطق يرفض الحديث مع الحكومة السورية لأنّ مرجعياتهم الخارجية لا تريد أن تحلّ مشكلة النازحين عملاً بسياسة «إطالة أمد الصراع في سورية». وهو الشعار الذي وضعته أميركا وتفرضه على أدواتها.

إنّ رفض التنسيق مع الحكومة السورية هو بكلّ بساطة رفض لحلّ ملف النازحين السوريين. وهذا ما يرتب على الفريق الوطني في لبنان مسؤوليات جساماً، بما يخدم مصالح لبنان ومصالح الدولة السورية الشقيقة على حدّ سواء. وهي المصالح التي يبدو أنها لا تشكل في ميزان فريق رفض التنسيق مع سورية أيّ وزن أو اعتبار.

قبل عقدين أغرقت سياسات تيار المستقبل لبنان بالديون وحرمت اللبنانيين من فرص العمل في الداخل ما فرض عليهم الهجرة وبكثافة. واليوم يغامر التيار نفسه مع حلفائه المعروفين بتاريخهم ضدّ الجيش اللبناني، يغامرون بالأمن والاستقرار والحالة المعيشية في لبنان خدمة لمصالح إقليمية وأجنبية، فهل يُترَكون يعبثون بالمصالح الوطنية والقومية ويرضخ لبنان لارتهانهم الخارجي؟ أم يكون الردّ عليهم، كما تجب حماية لهذه المصالح؟ ولا أعتقد انّ الأمر يحتمل التساهل هذه المرة.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى