أوقفوا تصفية قضية فلسطين بأيدي أبنائها…

د. عصام نعمان

ماذا بقي من فلسطين وقضيتها بعد نحو 70 عاماً من زرع الكيان الصهيوني في قلب عالم العرب؟

لم يبقَ منها سوى شعب منكوب شُرّد تحت كلّ كوكب، يعاني شظف العيش وانعدام الأمن والأمان وضمور مركزية القضية وانسداد أفق الحرية والخلاص الوطني من جهة، ومن جهة أخرى احتدام الصراع بين سلطتين تدّعيان تمثيل الشعب والقضية، واحدة في الضفة الغربية أضحت بعد اتفاق أوسلو للعام 1993 ذراع «إسرائيل» الأمنية في ما تبقّى من أرضٍ وشعب، وأخرى في غزة تكافح لإبقاء مليوني فلسطيني على قيد الحياة ونحو 370 كيلومتراً مربعاً من ترابها بمأمن من قضمٍ صهيوني زاحف على مستوى فلسطين برمّتها من النهر إلى البحر.

في إطار هذا المشهد الفلسطيني البائس، لا يفتأ أبناء القضية، ولا سيما مَن أضحى منهم ذا وظيفة وإمرة في كِلتا السلطتين، عن متابعة الصراع على أنقاض سلطة شكلية محبوسة في سجن الاحتلال الصهيوني بلغت أدنى درجات التناحر والتنابذ وقطع الأرزاق الذي هو من قطع الأعناق. فمن خفض رواتب الموظفين العاملين في قطاع غزة، الى إحالة

آلاف منهم على تقاعد مبكر، الى فرض الضرائب على الوقود المخصّص لتوليد الكهرباء، الى تقليص المبالغ التي تُدفع شهرياً لتزويد القطاع بـِ 120 ميغاواط من التيار الكهربائي المستمَدّ من «إسرائيل»، الى خفض التحويلات الطبية الخارجية.

كلّ هذه العقوبات من أجل الضغط على حركة «حماس» في قطاع غزة التي تتمسّك بالسلطة وترفض تسليمها الى حكومة السلطة الأخرى في رام الله. وفيما تتهم سلطة محمود عباس سلطة «حماس» برعاية الانقسام الفلسطيني واتخاذ خطوات تقود الى الانفصال، تردّ «حماس» بأن إجراءات السلطة في رام الله غير أخلاقية وغير إنسانية ولا علاقة لها بإنهاء الانقسام.

«إسرائيل» تراقب المشهد المأساوي الفلسطيني بارتياح وغبطة. لكنها تراقب أيضاً بارتياب، لدواعٍ أمنية، ما يمكن ان يرافق تداعياته من تطورات سياسية تتناول العلاقات بين مصر و«حماس» من جهة و«حماس» وإيران من جهة أخرى. تتساءل: ما سرّ هذا التقارب المستجدّ بين مصر و«حماس»؟ ماذا بعد فتح معبر رفح بين القطاع ومصر وتسليم أمر مراقبته إلى جماعة خصم محمود عباس اللدود محمد دحلان؟ وما ثمن موافقة «حماس» على كلّ هذه التحركات؟

«اسرائيل» لا يهمّها تراجع «حماس» عن مواقفها السابقة برفض إقامة دولة فلسطينية على خطوط وقف النار للعام 1967 واستعدادها تالياً للقبول بها حاليّاً؟ فحكومة نتنياهو تخلّت عن مشروع الدولتين وهي جادّة في تعميم الاستيطان على كامل الضفة الغربية كي لا يبقى لسلطة محمود عباس إلاّ بضع مناطق من الكثافة الفلسطينية. ما يهمّ «إسرائيل» هو ألاّ يؤدّي التعاون السياسي والاقتصادي بين مصر و«حماس» الى فكّ ضائقة هذه الأخيرة ما يفضي تالياً الى تصليب إرادتها السياسية وتشجيعها على معاودة عملياتها القتالية ضدّ المستعمرات الصهيونية المحيطة بالقطاع. ثم مَن يدري، فلعلّ القاهرة التي تتحسّب لتداعيات فتح قناة بن غوريون بين البحر الأحمر والبحر المتوسط عبر صحراء النقب، قد تتفاهم مع «حماس» على مضاعفة عملياتها ضدّ «إسرائيل» لحملها على صرف النظر عن مشروعها المنافس لقناة السويس او لتأخير إنجازه في الأقلّ.

ثمة أمر آخر يُقلق «إسرائيل»: هل يكون ثمن تخلّي «حماس» عن علاقتها التاريخية مع الاخوان المسلمين، وبالتالي عن قطر، قبول مصر بالتغاضي عن تنمية العلاقات بين «حماس» وإيران؟

أياً ما تكون المضاعفات الناجمة عن تحسّن العلاقة بين «حماس» ومصر، وتفعيل العلاقة بين «حماس» وإيران، فإنّ ثمة تحدّياً ماثلاً يستوجب معالجة سريعة وفاعلة. إنها مخاطر أن يُسهم الفلسطينيون، مسؤولين ومواطنين، بوعي أو من دون وعي، في تصفية القضية من خلال هذا الصراع، بل التناحر، المرير والمأساوي على السلطة بين مجموعة محمود عباس وحركة «حماس». إنّ القوى الوطنية الحيّة في الشعب الفلسطيني، المستقلة عن السلطتين المتصارعتين، مدعوةٌ الى التفكير والتدبير: التفكير في مقتضيات مواجهة هذا التحدّي المعضلة، وإقرار منهجية فعالة للمباشرة في المواجهة الوطنية المطلوبة.

أرى، في هذا المجال، أن تتوافق القوى الحيّة ذات المعرفة والخبرة على هيئة نوعية من أهل التفكير والتدبير تتولى بلا إبطاء وضع دراسة وثيقة معمّقة ومتكاملة لقضية فلسطين في واقعها ومرتجاها، واقتراح برنامج عمل مرحلي وآخر استراتيجي وبالتالي تنظيم مؤتمر وطني جامع يضمّ ممثلين عن القوى الحيّة في الوطن والشتات لمناقشة الدراسة الوثيقة والخروج بقرارات ومناهج فاعلة للعمل وواعدة بالأمل.

آن أوان الارتقاء الى مستوى الأخطار والتحديات التي تواجه الامة، وفي مقدّمها قضية فلسطين، واجتراح منهجية نوعية للعمل والكفاح تعيد وضعها في قلب الصراع ومسار التاريخ وتؤسس لمرحلة جديدة فارقة في حاضر الأمة ومستقبلها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى