السيد… ميلادُ زمن العز

هتاف دهام

لا يمكن مقاربة شخصية الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بشكل عابر. العلاقة الخاصة بين السيد نصرالله والمقاومين هي أحد الأسرار الكبرى التي أدّت إلى الانتصارات المتلاحقة من التسعينيات حتى اليوم. علماً أنه عندما بدأ حزب الله مسيرته في العام 1985 وقبل ذلك في العام 1982 وصولاً إلى استشهاد أمينه العام السابق السيد عباس الموسوي، لم تكن مزايا الشخصية الفردية وحدها هي المعايير المؤثرة في هذه المسيرة.

ما أظهره السيد نصرالله من قدرات أخذت موقعها في بنية المؤسسة ومنطقها فاستحق تسمية القائد الفذّ. تسلّم الأمانة العامة لحزب الله وعمره 32 سنة. صفاته القيادية كانت ملموسة في أدائه، بخاصة العسكري منه. كرّس معايير جديدة في مواجهتَيْ 1993 1996 ضدّ العدو «الإسرائيلي»، ومن ثمّ في استحقاق استشهاد نجله السيد هادي العام 1997 في مواجهات دارت بين المقاومة من جهة وجيش العدو «الإسرائيلي» من جهة أخرى في منطقة الجبل الرفيع في الجنوب، وصولاً إلى خطاب بيت العنكبوت في بنت جبيل عام 2000 «إنّ إسرائيل التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جوّ في المنطقة، واللهِ هي أوهنُ من بيت العنكبوت».

كانت حرب تموز 2006 لحظة الذروة الكبرى على هذا المستوى. منطق الشورى الذي يحكم أداء الحزب وقيادته بقي قائماً انطلاقاً من التكوين العقائدي الصلب لحزب الله لكن شخصية السيد نصرالله بَنَت لها حضورها الخاص إرادياً أو لا إرادياً. أصبحت نمطاً خاصاً بالنسبة إلى المقاومين وأهالي الشهداء وجمهور الحزب ومحبّي السيد على مستوى العالم. عبّرت هذه الفئات عنه على سجيتها. فأوجدت من خلاله بعداً تكاملياً بين منطق الشورى وشخصية القائد.

لم يعتد منطق الواقع على منطق المؤسسة، لكن شخصية السيد القيادية لاقت مكانتها الفريدة في المؤسسة الحزبية. لم يحفر الأمين العام لحزب الله تلقائياً في وجدان الجمهور الشيعي واللبناني فحسب، بل كسب الوجدان العربي والإسلامي ووجدان مواطني أميركا اللاتينية وغيرها من الدول، حيث تتردّد أصداء مواقفه في قلوب شرفاء العالم.

انتقل السيد نصرالله في مرحلة الربيع العربي من شخصية ممجَّدة لدى البعض إلى شخصية متّهمة. لم يؤثر فيه هذا التغيّر. أصرّ على التمسك بمقاربة أصيلة ومبدئية للأمور. وإذ به يتألق في هذه المعركة من العام 2011 حتى 2017 نوعياً وكمّياً فتسطع شخصيته القيادية الكاريزمية بسوية إنسانية ورعة متديّنة أخلاقية تختزنها. فتتكامل مسحة الخجل ونعومة اليد بشخصية حازمة صلبة لا تهتزّ. أضافت هذه الجدلية في العلاقة مزيداً من الوهج له إلى درجة أنّ هذه المزايا والإمكانات والقدرات ظهرت جلية أمام المتابعين بأعينهم وقلوبهم إطلالة السيد أول أمس الأربعاء للحديث عن معركة جرود عرسال.

أثبت السيّد مرة جديدة للبنانيين كلهم ولمن يناصبونه الخصومة قبل محبّيه وعاشقيه أنّ لديه القدرة على إعادة وضع الجميع أمام معادلة عدم الإنكار، رغم محاولات الإنكار المتواصلة لما تتمتع به شخصيته.

حبس السيد نصرالله دموعه عندما عرف بخبر استشهاد هادي في العام 1997. بكل تأكيد أحزنه استشهاد بكره، وقد بكاه بدموعه كلها. لكنّه في ذلك الحين تاريخ 13 أيلول، وقف السيد على المنبر شعر أنّه لم يعد يرى، بسبب كثرة العرق المتصبّب من جبينه ووجهه بسبب قرب مصابيح المراسلين والإعلاميين من المنبر، فانهمر العرق على وجهه غزيراً وكاد يغطي زجاج نظارتيه كلياً. همّ أن يمدّ يديه إلى علبة محارم على الطاولة أمامه، لكي يمسح عرقه، على الأقلّ عن نظارتيه.. لكنه فكّر أنّ بين المتابعين والمحطات التي تنقل الحفل مَن هي أجنبية الهوية، وربما تبيع بعضَ إنتاجه لـ «إسرائيل»… وسيفترض الجميع أنه يمسح دموعه لا عرقه، إذا أخذ منديلاً ومرّره على وجهه، جمُدت يداه وفضّل أن يسبح بعرقه على أن يُعطي العدو صورة الأب المفجوع الواقف على المنبر باكياً بكره، بينما هو يدعو الآخرين إلى الشهادة!

أول أمس، غصّ السيد نصرالله أثناء توجيهه التحية والشكر إلى المضحّين، فتوجه إلى المشاهدين: الآن أريد منكم أن تسمحوا لي قليلاً، أنا في حرب تموز أمسكتُ نفسي قليلاً، الآن اشتغلت جيداً قبل أن أخرج لكي أتكلّم لأُمسك نفسي، لأنني أتحدّث بكلّ شيء من القلب، ولكن هنا أتحدّث بمشاعر مختلفة. إلى المضحّين كلهم، إلى الشهداء، أرواح الشهداء، عوائل الشهداء، الجرحى، عائلات الجرحى، المجاهدين، المقاومين في هذا الميدان، وفي كلّ ميادين المقاومة، والقتال، والتضحية، والفداء، ليس فقط الموجودين الآن في جرود عرسال.. هذا خطاب إلى المقاومين والمقاتلين كلهم، في الساحات كلها وفي الميادين كلها..

عند كلّ محطة جديدة يكتشف اللبنانيون المزيد من لألئ سيد المقاومة. سهل جداً أن نجده ينفجر في لحظة عاطفية، لكن لمجموعة اعتبارات موضوعية تُدرك من دون أن تخرج إلى العلن، يتجنّب هذا الانفجارعلى الشاشات. الأمين العام لحزب الله شخصية حساسة متفاعلة مع ذاتها. شخصية تعشق المقاومين، وبتواضعها تقبّل نبل أقدامهم. تشعر بتضحياتهم. فعندما يخاطب السيد أهالي الشهداء يخاطب نفسه.

قد لا تكون معادلة حزب الله الأمين العام واقعية ربطاً بطبيعة حزب الله، لكن بالمنطق الجدلي الواعي لطبيعة المشهد وتفاعل اللبنانيين مع كاريزما السيد وما فاضت به من حقائق من دون قصد او تكلّف أصبحت الكلمتان مترادفتين متكاملتين وبالتالي لا يمكن عزل أيّ منهما عن الأخرى. لقد أصبح إصبع السيد عنصر فعل يوازي إمكانية أن ينطق بآلاف الكلمات.

السيّد… كلمة أمة. لؤلؤة تاريخها المعاصر. إصبعه سيفها الحاسم ليكشح زمن ذلّها ويعلن عصر انتصاراتها المتتالية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى