الطريق إلى دولة الإنتاج والرعاية

د. لور أبو خليل

منذ قيام الجمهورية اللبنانية قبل نحو سبعين عاماً، كان الفساد من أجل الكسب المادي قائماً ويظهر عبر مشاريع مرتبطة بالحكم الإقطاعي، أي أنه كان فساد كارتيلات. وهذا الفساد لم يتوقّف، لأن بعض المحاولات التي حملت عناوين إصلاحية في عهد فؤاد شهاب اقترنت بالدولة البوليسية وممارساتها القمعية والتنكيلية.

مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، عاد الفساد والاحتكارات بقوة، فتمكّن التجار من التحكم بالأسعار وتأسست شركات عائلية خاصة، فتحول النسق السياسي الذي فيه ركائز تحمي المواطن وتحصّنه من الغبن الى نسق اقتصادي يسهل تفاعل فعل الفساد فيه، ويضع المواطن كرهينة بالمصالح الشخصية والذي ساعد بتفاقم المشاكل فتح الاقتصاد على الأسواق العالمية، فأصبحت الصادرات على سلم الاولويات وأدخل ربح المسؤولين الحكوميين في القطاع العام والخاص على شكل رشىً.

ولأن الأجهزة القضائية صارت في حينه مسيّسة وغير خاضعة للمساءلة، تصاعدت المشكلة، ولا ننسى أن القدرات البيروقراطية للدولة في فترة الحرب أصبحت متخلّفة. وهذا ما مكّن المسؤولين من بناء احتكارات فاسدة في المناطق والمجالات الاقتصادية كافة، وظهر عندئذ نظام الأسعار غير المراقب، فكانت النتيجة ظهور مبدأ الاحتكار الذي سمح للمدراء العامين بوضع خطط إنتاج غير نافعة وبتوجّه رجال الأعمال إلى أرباح خيالية في السوق تحت تغطية البيروقراطيين، فسيطر الفاعل الاقتصادي الفاسد على النخب السياسية والثقافية وانتقلنا من منظومة فساد كارتيلات النخب الى منظومة جديدة كارتيلاتها المسؤولون الحكوميون، وأصبحنا نرى أن لبنان يعاني من أزمة سلوك ومن أزمة قيم، إذ إن الشباب تربّوا على أهمية السعي نحو الثروة كمبدأ أساسي ولم يعُد مبدأ الانتماء الى الارض والمحافظة على الثقافة أمراً أساسياً لدى الشباب في لبنان. كما وأصبح من الصعب تحديد أين يبدأ الفساد وأين يبدأ الإصلاح؟ وأضحى الفاسدون يتلقون مديحاً مثل «الشاطر ما يموت».

منذ مطلع التسعينيات أصبح الفساد يرتبط بالانحلال الأخلاقي ويشمل إساءة استعمال الثروة من قبل السلطة. اذ إن فساد المسؤولين الحكوميين يُفسَّر على أنه اختلاط بين السلطة الرسمية والأعمال. وهنا نستطيع أن نحدّد أن الفاعل هو المسؤول الحكومي الذي يسيطر على النسق الإداري والاقتصادي في المرافق والإدارات العامة والخاصة على حد سواء. والفساد يظهر بشكل متزايد عبر التواطؤ بين المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال. وكل هذا أدّى الى مشكلة حكم داخل دولة ضعيفة هزيلة البنى الاقتصادية والإدارية. ونستطيع أن نحلّل من جراء ما ورد، أن النسق الطائفي كان له دور بارز في لبنان، وأن أي تصرّف للنسق السياسي والإداري كانت الطوائف تتحكّم به وتطبّقه حسب مصالحها، فكانت الاعتبارات الطائفية تطغى على التشريعات واستعمل نفوذ الإقطاعيين كأدوات للانضباط السياسي.

لم يكن هناك أي تنفيذ لحكم القانون على الشخصيات الطائفية، خصوصاً أن الدولة كانت ضعيفة ومسيّسة، مما جعل الفساد أسهل. إلا أن الأمل في التغيير والإصلاح والمساءلة يمكن ان يبدأ مع فخامة الرئيس ميشال عون، لخصائص يمتلكها بشخصه ومسيرته، وأعني بذلك أولاً انتماءه الى المؤسسة العسكرية وبما تعطيه هذه المؤسسة لأبنائها من قيم مثل إرساء الحق والعدالة الاجتماعية والعلمانية والمصداقية.

فخامة الرئيس يتحلّى بمميزات القائد الكاريزمي. فهذه الصفة قيمة مضافة له تجاه شعبه، سمحت له بامتلاك بيئة حاضنة واسعة تشمل الطوائف كافة في لبنان. لذا نناشد فخامة الرئيس عون أن الشروع في بناء الدولة المدنية الديمقراطية القوية والعادلة، وكفّ يد الطوائف والمذاهب. فهذا الأمر يعيد الى الناس الثفة بدور الدولة ويقلّص دور أمراء الطوائف ويضعف الجماعات الطائفية والعشائرية كمرحلة أولى. وفي المرحلة الثانية يتم الانتقال إلى إرساء معايير دولة الرعاية التي تضمن للمواطن حقه في التعليم والصحة والحصول على الخدمات الاجتماعية، لأن المواطن يجب عليه أن يضمن أنه سيعيش قبل أن يطلب الخدمات الاجتماعية.

دكتورة في العلوم السياسية والإدارية

باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى