المعركة… كما يرويها مجاهد

رنا صادق

المرحلة المقبلة لا تقلّ عن سابقاتها أهميّة، فمع تحرير جرود عرسال واقتلاع وكر الإرهاب من شرايينه، نارٌ خفيفة ستوقَد على المقاومة… عادت عرسال اليوم لأهلها، وبلدها ورجالها ونسائها وأطفالها، «رجع الحقّ لصحابو» بالعاميّة، وعاد الأمن والسلام إلى أزقّة الطرقات وحيطان البيوت، وأثمرت الأرض مجدّداً بعدما زاح عنها وشاح الإرهاب… ينساق الحديث حين ترى العين هذا الانتصار الدامي على الإرهاب، هذه المنطقة بقيت خارج حساباتِ دولةٍ بأمّها وأبيها، ولم تستطع الدولة تحريك ساكنٍ طيلة تواجد هذه المجموعات المسلّحة في الجرود اللبنانية. بعدما أعدمت «جبهة النصرة» الجنديَّين علي البزال ومهدي مدلج ازدادت نقمة الشعب على هؤلاء، إلى حين جاء اليوم الذي خسرت فيه هذه المجموعات كلّ رهاناتها.

يوم 2 آب 2017، تلاشت أحلام جماعة «جبهة النصرة»، واندحرت معها أوهامها والأوهام الإقليميّة التي رعتها طيلة الفترة الماضية. «النصرة» اتّخذت طيلة السنوات الثلاث الماضية هذه البقعة اللبنانية موقعاً لعدوانها وترهيبها… لكنّ هذا التاريخ سيُحفر في أذهان اللبنانيين المعارضين للمقاومة قبل المؤيّدين، بعد أن أُعيدت عرسال وجرودها لأهلها وأصحاب الأرزاق فيها.

مقاتلو حزب الله عادوا وراية العزّ والحق مرفوعةٌ فوق روؤسهم، حاملين انتصارهم لكلّ اللبنانيين، بقدرات لا مثيل لها، صادقين على الوعد باقين على العهد.

شعور المجاهد المنتصر لا يمكن وصفه خلال الحديث من أحرف الشفاه فقط، بل العيون الصارخة بالفخر والرّوح المفعمة بالكرامة، كلّها تفاصيل تروي المعركة.

بعيداً عمّا سمعناه على وسائل الإعلام والبيانات العسكرية عن سير المعركة، مجاهدٌ من المقاومة روى لـ«البناء» تفاصيل المعركة وسَير العمليات الميدانية في الجهة المحاذية للبنان في جرود الفليطة السورية. منذ انطلاقة المعركة وإحكام المقاومة سيطرتها على المناطق والتلال التي جهّز فيها المسلّحون غرف عملياتهم، وأعدّوا مخطّطاتهم التفجيرية والإرهابية، وأصدروا من تلك المعاقل معظم قراراتهم.

على مساحة 5 كلم مربّع شرق عرسال، ثبّت مقاتلو حزب الله مواقع لهم على مقربة من مواقع المسلّحين، المنطقة هناك معروفة بطبيعتها القاسية، مليئة بالتضاريس الصعبة والمعقّدة، والارتفاعات الشاهقة والأراضي الوعرة، ناهيك عن ارتفاع درجات الحرارة وقرب الشمس من الأرض. كلّ هذه التفاصيل هي من خاصيّة عوالم الطبيعة في تلك المنطقة، تجعل من المواجهة والاشتباكات شبه مُحالة بحسب بعض آراء المحلّلين العسكريّين، خصوصاً أنّ تلك الجماعات قد اعتادت في السنوات الأخيرة على خصائص المنطقة وتأقلمت على الحياة فيها. وقد كانت أعدّت التحصينات والمغاور والدشم للدفاع والحماية، وهي بالتالي صعوبة أخرى كانت ستواجه مجاهدي حزب الله والجيش السوري في التقدّم.

انطلقت في اليوم الأول من المعركة عند الساعة 5:20 دوريّةُ تسلّل تابعة للمقاومة من الفليطة باتجاه تلّة البركان التي كانت خالية ليلاً من المسلّحين، ويعنى بالتسلّل أن يسيطر المحارب على منطقة العدو من دون إطلاق نار خلال فترة غيابه، كما يذكر المصدر العسكري.

يتابع: استقرّت الدوريّة على تلّة البركان من دون أيّة مواجهة مع المسلّحين الذين كانوا يقصدونها نهاراً فقط، لأنّ عددهم لا يسمح لهم بالتمركز ليلاً ولنقص المعدّات والتجهيز للرؤية الليلية لديهم. استخدم المسلّحون سلاح «هاون» من صنعهم لضرب مراكز المقاومة في البركان، المواجهة كانت خفيفة وتمكنّا من السيطرة على البركان بين الفجر والصباح.

عند الساعة 7:00 توجّهنا إلى حقل الكرز يقول المجاهد، الذي يقع بين تلّة البركان ومرتفع الكرّة 1 وهو اسم عسكري أطلقته المقاومة على تلك التلّة ، أحكمت السيطرة عليه، وبدأنا العمل للتوجّه إلى الكرّة 1 الذي يطلّ على الكرّة 2، وذلك عند الساعة 11:00، ثم بدأت فرق الإسناد التوجّه إلى الكرّة 2 الذي يقابله من جهة الشرق مرتفع الضليل الأسود والدشمة الشرقية. في الكرّة 1 هُوجمنا من قِبل المسلحين وجرت اشتباكات، أدّت إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوفهم.

وذكر المقاوم الذي شارك في المعركة، أنّ مسلّحي «النصرة» استخدموا سلاح «هاون» عيار 82، وعلى الأرجّح أنّ هذه الأسلحة من صنعهم، لأنّ تشظيته خفيفة وسطحيّة.

ويضيف: في الكرّة 1 بسطنا سيطرتنا بعد حوالى ثلاث ساعات من المواجهة والاشتباكات، بعدها انسحبوا إلى الخلف، لذا أقمنا مواقع على تلك التلّة للتمركز، وثبّتنا الدشم وأسلحة 107 مباشرة وقنّاصات بعيدة المدى، وسيطرنا على الموقع كاملاً، الذي يكشف على تلّة الكرّة 2 من الأمام، الضليل الأسود من الشمال وتلّة البركان من الخلف.

أما من تلّة الكرّة 1 بدأت الرماية صوب الكرّة 2 عند الساعة 14:00، باتجاه المسلّحين المتواجدين هناك، وفي الوقت عينه كانت فرقة أخرى من المقاومة على وشك السيطرة على الضليل الأسود عبر الرماية، ومنها إلى تلّة العلم والدشمة الشرقية، وبذلك حُوصر المسلّحون في الكرّة 2 من جميع الأطراف، لم يعد بمقدورهم المواجهة والدفاع أو حتى الهروب، احتُجزوا في الكرّة 2 ما اضطرّهم إلى التسليم.

لم يكن عدد مسلّحي «جبهة النصرة» واضحاً، لكنّهم في اليوم الأول اعترفوا بـ17 قتيلاً و50 جريحاً في صفوفهم كما يذكر المجاهد. خلال عمليات الاستطلاع التي كانت فرق المقاومة تقيمها بعد تطهير المناطق، عُثر على نفق بطول 400 متر ومخازن للأسلحة كان قد استخدمه التنظيم كثيراً.

وفي السياق عينه، أشار مصدر عسكري لـ«البناء» عبر معلومات خاصة رصدتها المقاومة، أنّ الحالة النفسيّة للقتال والمواجهة بين مسلّحي «النصرة» ضعيفة وسيئة، إذ كانوا يعانون من حالة انهيار معنوي وميداني في ما بينهم، رغم أعدادهم الكبيرة. لم تعد هناك ثقة في ما بينهم في الدفاع والهجوم، برز ذلك خلال المعركة. انهيار داخليّ حادّ لدى الجماعات بسبب الخوف من بعضهم البعض، وتراجع رغبة المواجهة في صفوفهم.

استناداً لما ذُكر من تفاصيل للمعركة، التي برزت معالم نجاحها منذ اليوم الأول وتثبيت أرضيّتها في اليوم الثاني، يمكن استنتاج ما يلي:

1- المقاومة تعتمد في كلّ معركة ستخوضها تكتيكاً وتخطيطاً منظّمين ومختلفين عن طرق سير العمليات العسكريّة السابقة، بالإضافة إلى تنسيق فعّال مع القيادة ورسم خطط جديدة، واستعدادات لوجستيّة على مستويات عالية، الأمر الذي يعاظم قوة المقاومة ميدانياً وعسكرياً، ويجعل كلّ معركة يخوضها الحزب منبراً جديداً لانتصارٍ أكبر.

2- صعوبة مواجهة الحزب ميدانياً وعسكرياً من قِبل أيّ عدوّ كان، بسسب اختلاف منظومة الفكر العسكريّة وكيفيّة تطبيقها ميدانياً، واستحالة معرفة ما يدور خلف جدران المقاومة من جهوزيّة واستعدادات للعمليات. وتجدر الإشارة، إلى أنّ المقاومة باتت أكثر خبرة في التعامل مع هذه المجموعات الإرهابيّة ومواجهتها بشكلٍ مدروس ومتقن للقضاء عليها.

أسلحة جديدة من نوعها استخدمتها المقاومة في معركة جرود عرسال، أثبتت فعّاليتها وقدرتها العالية في المعارك، والمرجّح أن تُستخدم في المعارك المقبلة، بالإضافة إلى أنّ هذه الأسلحة عبارة عن قواذف 107 مباشرة، وقنّاصات عيار 12.7 99 ميليمتر، بالإضافة إلى سلاح «هاون» وصواريخ جديدة من صنع حزب الله، نجحت في إصابة أهدافها، وبالطبع «الكورنيت» الذي كان له صدىً كبيراً في هذه المعركة إلى جانب «الدوشكا» الروسيّة.

في سياقٍ آخر، مرحلة ما بعد تحرير الجرود، وتحديداً مرحلة توجّه «جبهة النصرة» إلى إدلب الواقعة جنوب غربي مدينة حلب وتبعد عنها 60 كم، يلوح في الأفق توافق روسي – أميركي للقضاء على «تنظيم داعش»، أمّا زوال «النصرة» لا يناسب المخطّط الأميركي في سورية وذلك أولاً، لأنّ «النصرة» مدعومة من تركيا بقوة. ثانياً والأهمّ، أنّ أوسع تواجد لهذه التنظيمات هو في شرق آسيا بالقرب من روسيا، من ناحية الشيشان، الأمر الذي لا تقبله روسيا إطلاقاً.

وعليه، فإنّ حرب روسيا في الشام لم تعد فقط في الشام، بل إنّها معركة سيادة روسية تتساوق مع مجمل الحرب الدائرة في منطقة المشرق. وروسيا ترفض أيّ امتداد لـ«النصرة» باتجاه شرق آسيا، الأمر الذي يقابله دعم أميركي لهذه الفصائل في التوجّه إلى تلك المناطق. فهل ستستفيد روسيا من تجربة المقاومة في عرسال ومعاركها في الشام؟ وكيف ستمنع التمدّد الإرهابي نحو المناطق التي تجاورها؟ وهل ستوجّه طيرانها نحو إدلب لقلب المجريات بقرار سياسي وإنهاء «النصرة»؟ وما حجم الدور الإيراني في هذا السياق؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى