واشنطن تعرقل في شرق لبنان وعيونُها على جنوبه…!

د. وفيق إبراهيم

تتكاثر علامات الاستفهام الكبيرة حول العرقلة الأميركية المتعمّدة لتحرير مناطق لبنانية متاخمة للحدود السوريّة، يحتلّها الإرهاب الـ «داعشي» منذ 2014 وسط تواطؤ من قوى داخلية، وتجاهل أميركي مكشوف وامتناع الدولة اللبنانية عن إصدار قرار بالتحرير.

وحده حزب الله مدعوماً من الجيش السوري كشف المعادلة، عندما نجح بتحرير المناطق التي كانت تحتلّها «جبهة النصرة» الإرهابية في تلك الجرود، فاضحاً الدور الأميركي في عرقلة صدور قرار لبناني رسميّ بالتحرير، وذلك من خلايا القوى اللبنانية الموالية له وللخليج. هذه القوى الموجودة على رأس الحكومة اللبنانية، التي لا تزال تتذرّع بحجج واهية للتهرّب من واجبات الدولة بالدفاع عن الأرض والمواطن.

وهكذا حشر حزب الله القوى المسيطرة على الدولة ووضعها في زاوية ضيّقة، فابتدأت تتلوّى كثعبان في ظهيرة حارّة، لا تعرف ماذا تفعل وكيف تفرّ.. ترفض تارةً التنسيق مع الجيش السوري في منطقة لا يمكن الحرب فيها من دون التنسيق بين قوى تهاجم عدواً مشتركاً، وهي في حالة «مقابلة جغرافية». وتعلن تارةً أخرى رفضها أيّ دور لحزب الله في المعارك، وتُصاب بهلع عندما أعلن أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله عن استعداد حزبه تسليم المناطق التي حرّرها في الجرود الحدودية للجيش اللبناني، وقبوله مبدأ عدم المشاركة بتحرير ما تبقّى من جرود محتلة من خلال الأراضي اللبنانية.

عند هذا الحدّ، أُسقط في يد القوى اللبنانية الموالية للخليج وواشنطن، لم تعُدْ تعرف ماذا تفعل! حاولت توسيع القرار 1701 ليشمل الحدود في شرق لبنان فتنتشر اليونيفيل قربها، لكنّ قرار التجديد لهذه القوّات الدولية مرّ في الأمم المتحدة من دون أيّ تعديل.

وهنا بدأ الدور الأميركي المباشر تحت عنوان «ممنوع التنسيق مع حزب الله تحت أيّ شكل ومسمّيات»، مع ضرورة «نشر الجيش اللبناني على كامل الحدود اللبنانية السوريّة بعد تحريرها بالكامل». فهل بلغت البساطة بالأميركيين إلى حدود تصديقهم إمكانية إقفال الحدود اللبنانية أمام حزب ينتشر بقوّة في سورية، وله في العراق واليمن كلّ أنواع الوجود والتعاون؟

إنّ أحداً لا يصدّق هذا الزّعم، والأميركيون بدورهم يعرفون هشاشة هذه المطالب.. ما يتوجّب التنقيب عن الأهداف في دوائر أخرى، والبدء بتحديد هويّة لبنان بالنسبة للأميركيين. وعلى عكس الخليج الذي يمتلك أهميّات اقتصادية وجيوبوليتيكية قبالة إيران، فإنّ لبنان بالعين الأميركية يحوز على أهميّتين: دوره في القضية الفلسطينية، وإمكانات حزب الله المرتبطة بجهاد الدفاع ضدّ النفوذ الأميركي والكيان «الإسرائيلي». فإذا كانت واشنطن عاجزة عن لجم دور حزب الله في الإقليم العربي، فلماذا لا تواصل محاولات كبحه في عرينه اللبناني؟

وهنا، فليسمح لنا منظّرو «العظمة اللبنانية والحضارات» بأنّ أهميات لبنان الأميركية لا تزيد عن المذكور، وهما مبدآن مترابطان باعتبار أنّ إجهاض الحزب في لبنان يؤدّي تلقائياً إلى فتح الطريق بهدوء للأطماع «الإسرائيلية»، التي عبّر عنها بن غوريون مؤسّس «إسرائيل» عندما أرسل كتاباً إلى الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، يقول فيه: «أرجوك في اللحظة الأخيرة أن تفرض ضمّ نهر الليطاني إلى إسرائيل!».

إنّ هذا الطلب الموثّق في وزارة الخارجية الفرنسية يكشف ما تفعله واشنطن اليوم على مستوى رعاية «إسرائيل»، وإزالة المعوقات التي تعترض استمرارها.

وإذا كان حزب الله تمكّن من بناء قواعد كبيرة له في البلدان المستهدَفة أميركياً، فهذا لا يجعله قادراً على الاستغناء عن «لبنانه» وجنوبه، اللذين يتعرّضان لتهديد «إسرائيلي» دائم وخطير. هناك إذن ارتباط بين دور حزب الله اللبناني وجهاده الفلسطيني، وهو تلازم تدركه واشنطن وتعمل على خنقه بأسلوبين: الفتنة السنّية الشيعية في الإقليم العربي، وما الحرب السعوديّة على شيعة المنطقة الشرقية فيها إلا بدايات التآمر ضدّ المدنيّين العزَّل بهدف تفجير المنطقة وتحويل الصراعات من الطابع الوطني المعادي للإرهاب ورعاته الأجانب، إلى قتال داخلي طائفي.

ولأنّ السياسة الأميركية تُدرك مدى العلاقة بين القضية الفلسطينية واتّحاد المشاعر العربية، فإنّها مصرّة على تدمير كلّ الأدوات التي تؤدّي إلى العودة لاعتبار فلسطين قضية العرب الأولى. لذلك، فمحاولاتها لعرقلة الحزب تندرج في إطار إلغاء القضية الفلسطينية وتفتيت العالم العربي إلى كانتونات منخفضة الحرارة، على المستويين القومي والإسلامي.

وهكذا يتّضح أنّ مسألة تحرير الحدود الشرقية، ليست أكثر من وسيلة لتفجير الوضع الداخلي اللبناني لأهداف واضحة… وإلا كيف يصادف انطلاق الأبواق السياسية المؤيّدة لواشنطن والخليج بشكل متزامن لاستنكار تحرير حزب الله للجرود في بلدة عرسال اللبنانية؟

وما حكاية النائب عقاب صقر، الذي استنفر كلّ ما يمتلكه من خيال جامح لفبركة قصص وأقاويل لا تنطلي على البسطاء، وبدلاً من الادّعاء عليه من قِبل القوى الوطنيّة بتهمة تمويل الإرهاب لمدة ثلاث سنوات عبر الحدود التركية، فإذا به يسبقهم بالشكوى وادّعاء البراءة في أسلوب لا يخلو من «الفرار إلى الأمام»، متحصّناً في بيت الوسط الحريري اعتقاداً منه أنّه يحميه من اتّهامات الناس له برعاية الإرهاب في سورية!

وبالنتيجة، يتبيّن أنّ واشنطن تريد الإبقاء على الأوضاع الداخلية في لبنان شديدة التجاذب والانقسام، وقد تدفعها إلى «حافة الهاوية» إذا استمرّت الانتصارات في «الإقليم السوري العراقي»، لأنّها وحسب السياسة الأميركية الوسيلة الأمثل لمحاصرة أدوار حزب الله ومنع العودة العربية إلى القضية الفلسطينية، بما يكشف أنّ إدارة ترامب تستعمل تحرير الجرود الشرقية عند الحدود مع سورية وسيلة لتعميق الصراعات الداخلية في لبنان، بما يمنع حزب الله من الاستكانة إلى وضع لبناني مريح لحركته الإقليمية، ومنتج للعودة إلى فلسطين حيث كان العرب يتجمّعون في غابر الأيام.

العين الأميركية إذن، تعمل على تحويل الأنظار عن الحدود الجنوبية، والدليل أنّ السياسة الأميركية هي التي فرضت على «إسرائيل» شيئاً من التراجع أو التأجيل بالنسبة لسياسة تهويد المسجد الأقصى، خوفاً من إعادة تجميع عربية نحو فلسطين. ألَم تعمل أميركا بمعونة خليجية على جعل إيران عدوّاً للعرب، ولأسباب «مقنعة» لم يعرفها أحد حتى اليوم؟!

وأخيراً، لا بدّ للسيد جعجع أن يعي ومعه العقاب المقصوص الجناحين والقوى الأخرى، أنّ واشنطن ترمي الأدوات التي تستعملها عند زوال الحاجة إليها، ويبدو أنّنا ولجنا مرحلة تغيير الأدوات… ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى