«كمين»… ما بين المقدّس والمدنّس خيط رفيع عبرنا من خلاله!

محمد رستم

بدراية الخبير، أجاد طلال مرتضى نصب كمينه، ليوقع ذائقتنا في فخّ غواية الكلام. ولكي يضمن استسلام متلقّيه مخدّراً لحالة الأسر، فإنه لا يني يرشّ بين الفينة والفينة بعضاً من روائع عطر الكلام، كقنبس يغوي بمتابعة الرحلة، حين مضينا بعيداً في الصلاة… أعلن النهد قيام القصيدة… لثماً حتى آخر شهقة… .

المروية ترتدي مئزر الرواية التسجيلية، بل تقترب في بعض لوحاتها من الرواية الواقعية التوثيقية.

من حيث المعنون نبدأ… «كمين»، والعنوان كما نعلم يرخي بظلاله على مفاصل العمل بالكامل، لا بل يحدّد سمت المروية. «الكمين»، كمصطلح عسكري معروف المعنى، وهو ما نفّذه رجال المقاومة عندما كمنوا بجوار طريق تمرّ به دوريات العدو وفاجأوها بالنار، فقتلوا ما قتلوا وغنموا أسيرين، إشارة إلى كمين «خلة وردة» وهذا الحدث هو لبّ رواية «كمين».

لكن الكاتب نصب أكثر من كمين في كمينه هذا. فهناك القصيدة التي حملت عنوان «كمين» للشاعر اللبناني عصام العبد الله، وطريقة توظيفها داخل النصّ السردي، و«صوفي» التي نصبت كميناً لـ«ربيع» وأوقعته في حبائل عشقها، فمنحته من بهاء لذّتها الجسدية، لكنها لم تخبره أنّها «إسرائيلية»، وأن الزواج بينهما غير وارد أصلاً، إلى أن صارحته بذلك في رسالتها الأخيرة، وأنّ «وطنها» بحاجة إليها كما وطنه بحاجة إليه.

ولعلّ الكمين الأكثر وقعاً، هو ما افتعله الكاتب حين فاجأنا أنّ الأسير «إيغال» هو ابن «صوفي» من «ربيع»، وبالتالي فإنّ «سجاد» قد قام بأسر أخيه من أبيه. والمروية بهذا المضمون تدلف إلى الساحة الأدبية من باب أدب الحرب، وإن كانت نافذة الحبّ تمثّل القلب الذي ضخّ الدم في شرايينها، هذا وقد اتكأ الكاتب على تقانة الحداثة ففصلها على أسلوب اللوحات، وبعنونات متباينة، حتى ليكاد خيط السرد ينقطع فيتوه المتلقي، حين يتوهّم أن لا رابط بين هذه العنونات لولا أنّ الراوي يوحّد المخارج أخيراً، ويوضح أنّ أبا «سجاد» هو نفسه «ربيع»، والكاتب يتقن وببراعة فنّ «الكات»، فيطلّ برأسه من داخل النصّ، وعلى مرأى من القرّاء، فيبدو كشرطيّ السير يعلن بالألوان ما يجب وما لا يجب، وينصّب نفسه راوياً فوق الراوي تحت لافتة «من خارج النصّ» ص 57، 96، و123 . وهذا من التقانات الحديثة وما يعرف بـ«المسرح داخل المسرح».

هذا، وقد تناول الكاتب حدثاً على غاية من الأهمية، «حرب تمّوز» الوطنية بامتياز، هذه الحرب التي حطّمت سلاسل الخوف والانكسارات واقتلعت جذور الهزيمة من أعماق وطن نزف حدّ السبات، ودفنت في قبر النسيان غيوم الخيبات والهزائم، وألبست الوطن فساتين الأمل والثقة بالنصر. وواضح أنّ الكاتب تحكمه شهوة لتوثيق انتصارات المقاومة لذا فقد تأبط مقاومة، وسال حبره مبجلاً لها، مدافعاً عنها برمش العين، مبيّناً ما تمثّل فيها من قيم الفروسية من شجاعة وتضحية وإيثار وإنسانية. و«الحدّوتة» في المروية صغيرة استطاع الكاتب باتكائه على الشعر أن يكسو جناحيها ريشاً لتحلّق في عالم الأدب. والمروية تطرح وبقوة فكرة اللقاء المحرّم بين الضحية «ربيع»، والجلاد «صوفي»، لكنّها تؤكّد أنّ ذلك لا يتم إلّا خارج الشرعية، إذ لا مستقبل له، كما تتناول انشغال بعض الناس عن الحرب الدائرة وشارع الحمرا مثال. كما وجّهت الرواية إدانة إلى أمراء الرمال، الذين يتناسلون من الحوافر المنكسة ومن نهايات الذلّ والتبعية. لكنّ المقاومة جاءت لتبثّ طاقة انبعاثية محرّضة في الموت الحاضر من خلال كشف حقيقة بيت العنكبوت الواهي. فخلقت فسحة شاسعة تمتد من أقاصي الوجع وغابات الشوك واليباس حتى عرس النصر والفرح.

ولا تخلو الرواية من عزف منفرد على وتر الإنسانية حيث جمع الكاتب وبقلب لونه البياض بين «ربيع العربي المسلم» و«صوفي الأوكرانية اليهودية»، والتي كشّرت أخيراً عن أنيابها الصهيونية لتقطع قول كلّ خطيب وتعلن على الملأ أنّ «فلسطين وطنها»، كما لبنان وطن «ربيع». وبعودتها فإنّ الطيور عادت إلى أعشاشها ولتمرّر ذلك لـ«ربيع» بكلّ ودّ وتحنان ولطف وثقة وكأنّه من المسلّمات ، ونسأل كيف تقول هذا وهي أوكرانية أباً عن جدّ؟

الرواية تلبّسها الموقف الإشكالي، فباتت تحتقب إمكانيات جمّة لمسارب التأويل في علاقة «صوفي» بـ«ربيع»، وما نتج عن هذه العلاقة ومثل هذه التعالق سبق وطرح. فقصّة محمود درويش «بين ريتا وعيوني بندقية» معروفة، وثمة روائيّ في قصّة له يجعل اللقاء بين الفلسطيني و«الإسرائيلية» أمراً مستحيلاً، إذ يتواعدان على اللقاء في حالة من عشق في مكان وزمان محدّدين لكنّهما لا يلتقيان أبداً لاختلاف في التوقيت… هناك فارق بين الزمن العربي والزمن الإسرائيلي ، ولعل الكاتب أراد من جعل «صوفي» حبيبة «ربيع» يهودية ليؤكد أنّ الصراع ليس دينياً. وهو ليس خلافاً في وجهات النظر، بل هو قضية وطن سلب في غفلة من الزمن، ومأساة شعب شُرّد في الأصقاع.

ولأنّ الأديب طلال مرتضى يدرك أنّ الكتابة هي فعل الحياة الأكثر كثافة، لذا، فقد حرص ألّا تغادر شخصياته أديم الأرض. فأبطاله رغم ما فيهم من قوة إيمانيّة تعطيهم زخماً بطولياً لا حدود له. إلّا أنه لم يخرج بهم باتجاه الخارق المجاني بل أبقاهم ضمن الشرطين الاجتماعي والإنساني، وبدت شخصياته مرسومة بريشة خبيرة وكأنه التقطهم من سهوب الواقع وعرض عالميهم الداخلي والخارجي ببراعة ومن دون ماكياجات مزيّفة.

هذا، وقد جاء الإيقاع في السياق الروائي مشحوناً وفي الحالة العليا من توتّره، وذلك انسجاماً مع الجو العام للرواية، حيث الحرب والموت. وحتى في شطر الحبّ بين «ربيع» و«صوفي»، فقد جاء العشق في أوج توقّده. كما أنّ نهاية العلاقة شكّلت قمة من قمم الإيقاع الصاخب الملتهب.

الأديب طلال مرتضى يدرك طبيعة الفنّ بشكل عام والأدب بشكل خاص، بأنّه نصوص غير قابلة للتموضع، فهو في حالة توق دائب نحو الحداثوية ونحو تحقيق ذاته بأشكال وأنماط جديدة. لذا، فقد خرج علينا بتجربة دمج الأنواع الأدبية شعر قصة مسرح مقالة نقد ، ليسكبها في حلّة روائية ممتعة.

كما يدرك أنّ الأدباء هم سدنة الوطن الحقيقيّون، فحبرهم يحمل شرف الكلام السامي، يمهّدون لمسيرته برمايات فكرية مركزة، تنير له الدرب ويشكّلون قلاع تثبيت تصدّ رياح السموم. لذا، فالهدف الإشاري يلوح منذ البدء متجسّداً في تبيان طهارة المطلب الوطنيّ والقائمين على هذا المطلب المقاومة وفضح أضاليل العدوّ.

هذا، وقد تباينت لغة المروية، فحين تتناول المقاومة وبطولاتها يعتمد الكاتب الأسلوب الروائي في سرده، بل يقشّر الكلام من زخارفه ويأتي الحكي بلا رتوش، ويقترب من لغة البيانات التوثيقية أحياناً. في السطور الأولى من الرواية ، وكذا في ص 86 و87 ، أردتموها حرباً مفتوحة . وحين يعتمد الحوار، ينقله بلغة الشخصيات العامية الجنوبية. وعلى امتداد الرواية اعتمد الكاتب الكولاج أي اقتران الشعر بالنثر، فجاءت حروفه أضواء كاشفة حتى لتكاد الرواية في غالبيتها أن تكون ديوان شعر مكتمل البهاء مكتفياً بحروفه لا تأخذه في البوح لومة شاعر. لقد أحال الكاتب متوالياته السردية إلى بهاء الشعر. لذا ليس لي إلّا أن أهمس: أيها الطلال، في أعماق كلّ حرف من حروفك يقبع شاعر مارد ينتظر قيامة القصيدة… أيها الطلال، شاعر أنت والكون نثر.

لقد وظّف الكاتب خبرته الثقافية وحدسه الشعري مرتفع الوتيرة، وفتح النوافذ على أشرعة الخيال وبوابات الروح وبعبارات متمرّدة على المألوف في اللغة السردية.

ومع أنّ رحيق حبره جعلنا نسند قلبنا بثمر العشق الملتهب بين «ربيع» و«صوفي»، وفي لحظات اللقاء الحميم بينهما، ومع ذلك فقد كان الأجدر بأسلوبه أن يراوح بين لغة الإبلاغ ولغة الشعر، أي في منطقة وسطى بين السائد والشعري، تيمناً بلغة السرد الروائية. هذا وقد أودع الكاتب مرويته طيّ لعبة القدر ليجعل من «صوفي» أمّ الأسير «إيغال»، وأبي سجاد والده. وهنا يضعك الكاتب أمام نفسك وجهاً لوجه، يبعثرك، يتركك عند المفارق، وتغدو في رابعة التيه أمام الخاتمة التي جاءت صادمة، مناوئة، مفارقة، وتعزّي نفسك بعد لأي، بقولك إنّ الكاتب ركّبها إذ لا يسرّك من البدء علاقة «صوفي» بـ«ربيع».

وثمة ملاحظات لا بدّ منها: واضح أنّ هناك مبالغة في توصيف إنسانية المقاومة، فالعدوّ الذي اقتنص اقتناصاً من خلف الأسلاك، لا يسمّى ضيفاً ولا أدري هل وُفّق الكاتب في جعل قصيدة «كمين» تتناول الحدث قبل وقوعه. وفي ص 96 معلّقاً على حالة من اللقاء الحميم بين «ربيع» و«صوفي»، يقول من خارج النصّ: «أجزم أنّ تلك اللحظات التي عبرت تواً هي الأكثر صدقاً في هذه المروية…». سؤال: لِم تقول هذا أيها الطلال وأنت تعلم أنّ تلك اللحظات لا تقوم على الصراحة، بل على لغم من المراوغة إخفاء «صوفي» حقيقتها ، وهو كما أسلفنا كمين من نوع خازوق مكين ، أم قصدت أنّ غربة الإنسان عن شرطيه الاجتماعي والوطني هي الأكثر عمقاً وصدقاً. لقد هفوت هنا صديقي. فأنت لست كذلك. ثم كيف بدت «صوفي» فاعلة، أخفت بحذر وخبث حقيقتها مدة عشقهما، بينما بدا «ربيع» منفعلاً وآخر من يعلم . ولا أدري إن تعمّد الكاتب تسمية بطله «ربيع» الذي يشي بالنماء والحياة، و«صوفي» التي تعني الحكمة، واقترانهما يشير إلى مرحلة مدّ الفكر العلماني الاشتراكي بأبعاده الإنسانية. لكن ماذا كانت النتيجة؟

هو أنجب «سجّاد» المتديّن جداً، وهي أنجبت «إيغال» المتصهين جداً، هذا احتمال لا أحمّله للكاتب. والرواية لم توضح موقف «أبي سجّاد» ورأيه بهذا الصهيوني «ابن الحرام.. إيغال» والنظرة السطحية للرواية، قد توقع المتلقي في سوء التأويل، إذ يعتقد أنّ الكاتب يروّج لفكرة التعايش بين العرب والصهاينة، لكن التعمق فيها يضعها في حقل الأدب الإشكالي حيث تتعدّد القراءات لمثل هذا الجمع بين «ربيع» و«صوفي»، ولعلّي أقول كلمة فصل مهمة الآن، أنّ الرسالة الأهم هي، دقّ جرس الإنذار المبكر، وذلك بعدما غدا كل شبابنا اليوم في المغترب أوروبا ، وأنّ مثل هذه العلاقات قد تحصل في كل يوم. وأجزم بأنه الكمين ذاته الذي أراد الكاتب جرّنا إليه.

ولعل إلقاء الرواية بالنار من قبل «أبي سجّاد»، دلالة إفلاس ووصول الأمر إلى طريق مسدود… كما يرى الكاتب .

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى