تناسل العنصرية اليهودية.. إغراق العالم بالدم

هاني الحلبي

افتتحت اليهودية، كما أشاع تاريخُها وسلوكها، عهداً من التمييز القاتل بين البشر، على أساس أوهام مفروضة بنَسْبِها إلى قوة «إلهية»، لتكسبها سلطة مطلقة غير قابلة للنقاش والمراجعة.

تصاعد التمييز القاتل ليصبح عنصرية مدمّرة، أولاً لأصحابها، ومن بعد للبشرية كافة.

أول مظهر للعنصرية اليهودية أدّى إلى مجزرة في مدينة نابلس، مسكن الحويين زمنذاك، ليرفض يعقوب زواج ابنته دينا من شكيم بن حامور الحويّ، لأننا «نحن غير هم». فاشترط، كما تقول الحكاية التوراتية على الملك حامور، ختان الذكور كافة ليصحّ زواج ذكور الحويين من إناث يعقوب.

وفي آلام اليوم الثالث، هاجم أبناء يعقوب بالسيوف رقاب الحويين، فأبادوهم، بعدما قبل يعقوب المصالحة مع الحويين الذين قالوا له: اطلب وكثّر لنصير شعباً واحداً. فكان طلبه قليلاً جداً وغير مكلف، لكنه خبيث لدرجة أهلك به مدينة.

هكذا تأسست أول عنصرية قاتلة في التاريخ المكتوب، ويقول بها من يستحقون الإدانة التاريخية، أول قتلة في التاريخ، على أساس عنصري وادعاء التفوق، ولكن بالجريمة والدم والغدر والفساد.

لم يقتصر الرهاب العنصري على مَن يقولون به ويدعون إليه، بل تسلل إلى نصوص مؤسسة للدين والفكر البشري، ولسبب أو لآخر تقاعس المعنيون عن تنقيتها، كحال أيّ نص ديني يتم تقديسه بفواصله ونقاطه، فضلاً عن حروفه وعباراته، ولو خالف الجوهر الكلي للدين. فشرع الحرفيون في تكييف الأفكار والمعاني ليتّسق الجزء المدسوس المخالف مع النسق العام.

من هذا النمط التمييز الذي تناقلته نصوص في الإنجيل، ومنسوبة للمسيح، عندما رفض علاج المرأة التي من صيدا، بقوله إن ما يعطى لأبناء الناس لا يعطى لأبناء الكلاب.. مثل صارخ يفضح دسّ سمّ العنصرية في طحين المسيحية، تشويهاً ونقضاً من داخل.

لكن ما يكون نافراً عن السياق الجوهري تفضحه غرابته، ولو نسب للمسيح نفسه، أو لغيره من أنبياء ومصلحين ومؤسسين كبار، إذ لا يُعقل لمن قال أحبب أعداءك. بارك قاتليك. مَن ضربك على خدك الأيسر در له الأيمن. من طلب أن تمشي معه ميلاً فامشِ ميلين.. أن يصنّف بين البشر أبناء ناس وأبناء كلاب.. ما يعني التفاوت في الحقوق والواجبات والمكانة والماهية..

وإذا كان الادعاء اليهودي على أساس ديني أسس عنصرية تفوق موهومة، فحاكته أمم وجماعات كثيرة، ترى في نفسها ومجموعها ما توهّمه اليهود في أنفسهم ومجموعهم، لكنها استحدثت تعديلات في معيار عنصريتها. كانت أثينا المسماة ديمقراطية ترفض للغرباء أن يبيتوا داخل أسوارها، فلا حقّ لهم بمواطنيتها، لأنها تصفهم بأنهم برابرة. وكانت ترى أهل المشرق، واستطراداً الشرق كله، برابرة. بينما المشرق علّم الإغريق، وكبار فلاسفتها تتلمذوا في الإسكندرية وفي بابل قبل ان يقدموا حرفاً واحداً في تراثهم.

ولم تكن روما بأقل عنصرية من أثينا. بل اعتبرت أن الغاب الذي بنت شرعته على القوة والجيوش الجرارة لا قانون فيه إلا للتفاوت، ورغم هذا تمكّن في مراحل لاحقة من تحديث عنصرية فحكمها أباطرة سوريون وقاد جيوشها شيبيو المملوك ضد هانيبعل برقة فانتصرت روما على سيدة البحار حينذاك قرطاجة، التي سقطت بنظام الطبقات المدمّر وعنصريته.

مركزية روما، أسست لوهم أوروبي أن أوروبا هي المركز، وكل ما حولها مجرد امصار للفتح وأسواق للتجارة ومصدر للعبيد والجواري، حتى انقسمت على نفسها، على أساس إقطاعي اجتماعي حيناً، وعلى أساس ديني ثانياً، فنشأت القوميات الأوروبية التي أسست لعصر الدولة الوطنية الحديثة.

لم تسلم العروبة من وهم عنصري، بخاصة لما نظرت إلى ذاتها فرأت النبوة عربية، وأرومته قرشية، وأوجدت باقي الطيف من الذرائع والمسوّغات للخلافة والإمارة والملك الذي لم يقم عند العرب إلا بوازع ديني، لبقاء تطورهم النفسي والسياسي والاجتماعي عند حالة الضرورات الأولية ومستواها المتخلّف. العنصرية العربية كادت تفقد قوة الإسلام اندفاعه بما افتعلته من شعوبية استنزفت طاقة هائلة، ولو تلوّنت تلك الشعوبية، القديمة والمتجددة، بمذهبية احياناً.

اعتبار بعض التفاسير الإسلامية العربية الرسمية أن الإسلام نَسَخَ كل ما قبله، أفقد العرب في انظمتهم الرسمية، وفي مذاهبهم المتكاثرة قدرة الاضطراد الفلسفي والفكري والسياسي إلى مرحلة متقدمة، بدلاً من العودة إلى الصفر التاريخي الذي بقوا عنده. ومعظم ما بذلوه من جهود افتقد لأسس رفيعة للتأسيس الجديد. بقي إرهاصات وصرخات أودية، لأنها لم تكن في سياق خطة نهوض شاملة لدورة حضارية جديدة.

استُعيد التحجّر العنصري، مجدداً مع الدورة التي أطلقتها الوهابية، منذ أكثر من ثلاثة قرون، على يد محمد بن عبدالوهاب المولود 1703م. ، ثم تلتها غزوة نابوليون للمشرق بعد مئة عام 1798-1801م ، بفعل ضخامة وغزارة الدعم الخليجي دولاً ومؤسسات شعبية وأمراء متطرفين، ليقود العالم إلى تدحرج متسارع في حرب الدم والتصفية والفرز السكاني، دينياً وعرقياً.

وباكتساب التنظيمات الدموية قوة ورصيداً وخبرات، وخسارتها ميداناً تمّت السيطرة عليه في العراق والجمهورية العربية السورية، سيدفع بها مجدداً بنسق خلايا كامنة وإلى أنفاق وأقبية سرية تحت الأرض لتجدد دمها في حضانة مديدة وتنتهز فرص الانقضاض، ذئاباً منفردة، أو نموراً هائجة، تتصيّد الأبرياء لتفك بفرائسها، بالتعاون مع شركاء كثر تصنعهم صهيونية خبيرة، وماسونية عتيدة، ورجعية بليدة، لتوسيع بقع الدم دولاً وقارات، بين ملوّنين وبيض خالصين، وبين سمر وزنوج ملوّثين بفيروس العبودية والدونية..

لا إنقاذ للبشرية إلا بفلسفة تفاعل يحيي القوى الإنسانية فيها، قدّمها أنطون سعاده، منذ ثمانية عقود، وما زال جلّ العالم الأعشى لا يراها والعالم الأطرش أصمّ لا يسمعها أنغامها..

فهل كل مرة تجني على نفسها براقش، ولا تعيد التبرير والأسباب؟

باحث وناشر موقع حرمون haramoon.com والسوق alssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى