ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

الزيارتان اللتان قام بهما الزعيم إلى دمشق عام 1948

في 3 تشرين الثاني 1948، قام الزعيم يرافقه عميد الداخلية الأمين الياس جرجي بجولة حزبية لتفقد فروع الحزب في الشام. وكان القوميون الاجتماعيون في المناطق الشامية ينتظرون هذه الزيارة بلهفة واهتمام منذ ألقى الزعيم خطابه التاريخي في 2 آذار 1947 عند عودته إلى الوطن الذي وعد فيه بزيارة كل المناطق القومية الاجتماعية.

عن مجموعة الأعمال الرسمية، شباط 1949 ننقل التالي عن زيارة سعاده إلى دمشق:

«كان في استقبال الزعيم في دّمر ما يقرب من خمسين سيارة ترجّل منها القوميون الاجتماعيون واصطفّوا صفوفاً بديعة الانسجام منتظرين وصول سعاده. وما أطلّ موكب الزعامة حتى انشقت الحناجر: يحيا سعاده، فترجل حضرة الزعيم يرافقه الأمينان الياس جرجي وأديب قدوره واستعرض صفوف القوميين الاجتماعيين. وبعد أن قضى الزعيم بضع دقائق استراح فيها من عناء السفر تابع الموكب مسيره متجهاً إلى دمشق تتقدمه الدراجات النارية فاخترقت الأحياء الرئيسية من الصالحية إلى شارع «سعاده» حيث يوجد مكتب الحزب.

والطريف أن شارع «سعاده» قد أطلق عليه هذا الاسم حين شقّه بعد أن تكررت تسمية القوميين الاجتماعيين له بهذا الاسم العزيز على قلب كل رفيق.

وفي شارع «سعاده» أمام مكتب الحزب كانت صفوف الرفقاء الذين لم يلحقوا بالفِرق المحتشدة في دّمر تستعد لاستقبال زعيم الأمة السورية في شوق الجندي إلى قائده بعد المعارك الطويلة. وبعد أن حيّا الزعيم الصفوف القومية الاجتماعية والجماهير المحتشدة أمام المكتب توجه إلى بيت المنفذ العام المحامي الرفيق عصام محايري. وفي المساء توجه إلى القصر الجمهوري حيث سجل اسمه في سجل التشريفات وبعد ذلك حضر اجتماعاً عاماً للمنفذية عقد خصيصاً لهذه المناسبة.

مكث الزعيم في دمشق حتى 12 تشرين الثاني كان طيلة الوقت موضوع تكريم ليس فقط من قبل القوميين الاجتماعيين بل استهدف أيضاً لتكريم متواصل من قبل رجال السياسة الدمشقيين الذين لمسوا لمس اليد أن لا خلاص لهذه الأمة إلا بقيادة سعاده وبزعامة الحركة القومية الاجتماعية، الحركة الوحيدة التي لا تعمل للخصوصيات الفانية بل لكل ما هو عام وخيّر. فقد أدب الصديق الوجيه عفيف بيهم مأدبة فاخرة دعا إليها الكثيرين من وجهاء دمشق ورجالات السياسة فيها».

رحلة الزعيم إلى دمشق

قبل ذلك كان سعاده زار دمشق في آذار 1948، وقد أوردت النشرة الرسمية تاريخ 30 آذار 1948 العدد السابع المجلد الأول عن تلك الزيارة ما يلي:

«كان الزعيم قد عزم على زيارة مفاجئة لمنفذية دمشق العامة للاطّلاع على أعمالها ومدى نشاطها وسهرها على مصلحة الحزب في منطقتها. ولكن حدث ما استوجب تأجيل الزيارة التي كانت تقررت لليوم الرابع من آذار.

بعد ذلك قدم إلى بيروت منفذ دمشق العام وقابل الزعيم ووقف منه على عزمه على زيارة منفذية دمشق زيارة خصوصية واطلعه الزعيم على أنه سيقوم قريباً بالزيارة التي تأجلت. ثم أن الزعيم عدل عن السفر يوم الجمعة الواقع في 12 آذار وكلّف حضرة عميد الداخلية بسبقه إلى هناك تمهيداً للنظر في ما يريد الزعيم النظر فيه. وفي صباح اليوم المعيّن سافر الزعيم باكراً نحو الساعة السابعة، فبلغ دمشق نحو الساعة التاسعة والنصف فعلم أنه، بناء على رغبة متبادلة بين المنفذية وحضرة وزير الدفاع في الدولة الشامية السيد أحمد الشراباتي، ضرب موعد لاستقبال حضرة الوزير في دار السيد نسيب سكر، والد الرفيق رياض سكر، حيث حل الزعيم ضيفاً.

في الموعد المعين، الساعة الحادية عشرة، أقبل حضرة الوزير فاستقبله الزعيم بترحاب ثم أن الزعيم والوزير اختليا لمحادثة استغرقت نحو ساعة جرى فيها استعراض للقضية القومية والعلاقات فيما بين الأمم العربية، وللمسألة السورية والمسألة «العربية» أو العروبية وللعلاقات بين الحزب والحكومة الشامية.

جلت المحادثة الكثير من المسائل التي كانت مشوشة بالأخبار الملفقة أو الناقصة أو المتحاملة. ومن المسائل التي وافق الزعيم والوزير على جلائها أنه ليست للحزب السوري القومي الاجتماعي أية مصلحة عدائية لشخصية فخامة رئيس الجمهورية الشامية ولا أي قصد لتعكير مجرى الأمور وأعمال الحكومة وأن الحزب أظهر تعاوناً وتضامناً في جميع المواقف التي رأى فيها ما يساعد في توطيد الأمن، وأنه ليست للحكومة الشامية أيّ مصلحة عدائية أو مقاومة لقضية الحزب وعمله وأنه بعد جلاء المسائل التي كانت موضع شك وقلق من الجهتين الحزبية والحكومية، الذي تم في المقابلة، يمكن الوصول إلى الترخيص للحزب بالعمل في الجمهورية الشامية.

وقد كانت المقابلة، موفقة للجهتين. وأظهر الزعيم تقديره للخطوة الطيبة التي قام بها حضرة الوزير ودلّت على رجاحة رأي وحُسن بادرة. ويجدر بالذكر الوصول إلى التفاهم الشخصي في صدد القضية القومية والعمل في العالم العربي وكان شرح الزعيم لوضع سورية ووضع العالم العربي والمرامي العملية مساعداً كبيراً للوصول إلى التفاهم المذكور.

ولما كان الزعيم قد نفى للوزير وقوف الحزب السوري القومي الاجتماعي في جانب أية شخصية شامية أخرى ضد شخصية رئيس الجمهورية الحاضر، وأكد له أن قضية الحزب هي قضية غاية عظمى لا تدخل في نزاع الأشخاص وأن الحزب لا يرى، لذلك، أيّ مصلحة في محاربة الرئيس الحاضر شخصياً أو في تفضيل أحد من رجال الوضع الحاضر عليه، خصوصاً وأن للزعيم معرفة شخصية وصلة طيبة سابقة بشخص فخامة الرئيس، فقد أثبت الزعيم هذا الموقف في تصريح سريع لبعض الصحافيين الذين قابلوه وهذا نصه، نقلاً عن جريدة «القبس»:

قدم إلى دمشق الأستاذ أنطون سعاده رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي وقد اتصل به مندوب «القبس» وسأله بضعة أسئلة أجاب عليها بصراحة.

فقد سأله عن الغاية من زيارته لدمشق فقال إنه قدم إليها لتفقد شؤون فروع حزبه في الداخل.

ثم سأله عن رأيه في إعادة انتخاب فخامة رئيس الجمهورية فقال: إنني لا أرى أيّ مانع من إعادة انتخاب فخامة الرئيس القوتلي دستورياً فإني أعرفه شخصياً وأعرف أهليته، وأقدّر أعماله. إن الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يتدخّل في مسألة تفضيل شخصيّ لأجل الأشخاص، إن التفضيل عندنا هو على أساس تسهيل حرية العمل للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي هو نهضة قومية اجتماعية للأمة لتحقيق الوعي القومي والإصلاح الاجتماعي، نحن حزب قضية لا حزب أشخاص.

ثم سأله عن رأيه في الانفصال النقدي والاقتصادي بين سورية ولبنان فأجاب: إننا لا نرى أيّ مصلحة في الفصل المادي والاقتصادي بين لبنان والشام، إن ما يبدو مصلحة للبعض من الطرفين ليس سوى عارض وقتي يترك خيبة ورد فعل سيء في المستقبل.

وقد دعا الوجيه السيد نسيب آغا سكر الأستاذ سعاده إلى مأدبة غداء حضرها بعض الشخصيات وتخللها بحث شؤون الساعة».

من جهته يتحدث الرفيق إياد موصللي في الصفحات 30-35 من مؤلفه «أنطون سعاده… ماذا فعلت؟» عن الزيارة التي قام بها سعاده إلى دمشق، نختار منها المقاطع التالية:

«لم يكد يمر على انتمائي أكثر من 17 يوماً، عندما تبلغنا أن الزعيم سعاده سوف يأتي إلى الشام ويزور المنفذيات ويتفقد القوميين. في اليوم المحدّد 3 تشرين الثاني 1948، اجتمعنا في المنفذية صباحاً ومن هناك انطلقنا إلى منطقة دمّر، مدخل دمشق للقادمين من بيروت، وعند سكة القطار توقفنا صفوفاً نظامية نرفع بأيدينا أعلاماً حزبية صغيرة وما أن أطلّ الزعيم بسيارته حتى دوّى صوت ناظر التدريب بالتأهب والاستعداد ورُفعت الايدي بالتحية وعلت الهتافات تحيا سورية، يحيا سعاده، ترّجل الزعيم ومرّ وسط جموعنا محيياً، واستعرض صفوفنا…».

«وبعد انتهاء الاستعراض ركب سيارته وتوّجه نحو دمشق إلى مركز المنفذية، أمامه بضع درجات يقودها قوميون وخلفه أرتال سيارات تحمل القوميين ترفرف من نوافذها أعلام الحزب، وبدا الناس مدهوشين لهذا المنظر الجديد يشاهدونه للمرّة الأولى وكثرت الاسئلة من جمهرة الناس: من هذا؟ فكنا نجيب بصوت أشبه بالصراخ لبعد المسافة بين الموكب وسط الطريق، والناس على الارصفة: الزعيم سعاده، وبعفوية فورية يجيب السامعون يعيش الزعيم ويصفقون… وصل الموكب إلى مركز المنفذية فجلس الزعيم لبعض الوقت ثم انتقل إلى منزل المنفذ العام عصام محايري، وتبعاً لبرنامج الزيارة الحافل حلّ ضيفاً في بيتنا في حيّ المهاجرين شارع ناظم باشا المعروف بالشمسية. وقد مكث الزعيم ضيفاً طيلة زيارته لدمشق التي استمرت 12 يوماً».

«وكانت هذه الزيارة والاقامة حافلة باللقاءات والمقابلات مع شخصيات علمية وأدبية وسياسية وحزبية، تخللتها دعوات للزعيم، اهمها دعوة من عفيف «بك» بيهم السياسي البارز آنذاك وكان من حضورها نبيه «بك» العظمة رئيس الحزب الوطني الحاكم وصبري العسلي وزير الداخلية وأبو الهدى الحسيني من السياسيين البارزين، كما أقيمت دعوات عدّة أقامها، الأمين معروف صعب، الأمين عصام محايري، بشير موصللي، مظهر شوقي، صبحي فرحات، جورج غناجة وبقي الزعيم في دمشق إلى 15 تشرين تاني 1 حيث غادرها متابعاً جولته في بقية المدن والمحافظات الشامية».

سعاده القدوة

«الحي الذي كنا نسكنه هادئ، سكانه طيبون، محافظون، متضامنون، التواجد السياسي في المنطقة هو للحزب الوطني والتأييد لشكري القوتلي وصبري العسلي وفيصل عسلي وحزبه التعاوني الاشتراكي. لم يكن في الحي وجود للحزب القومي سوى اخي الأمين بشير وأنا وعدد لا يتجاوز اصابع اليد موزعين في المنطقة كلها… عندما وصل الزعيم وبعد ان حلّ بغرفته لينام، ومن شدة المحبة والقلق غير المبرر اتيتُ إلى قرب باب غرفته ووضعتُ كرسياً هزازاً يحول دون الدخول للغرفة، ونمتُ على الكرسي ومسدسي بقربي. احسست ليلاً بالكرسي يتحرك بفعل محاولة فتح الباب من الداخل ويبدو أن الزعيم أراد الخروج فوجد الباب شبه مقفل. وقفتُ وأزحتُ الكرسي، خرج الزعيم فشاهدني والمسدس بيدي فسألني: رفيق إياد ماذا تفعل هنا؟ كنت أمامه بوضعية الاستعداد وقلت: أحرس الزعيم فابتسم وربّت على كتفي وقال اذهب إلى فراشك ونم، فالزعيم يحرس نفسه وكرّر الابتسامة، أدّيت التحية وذهبت.

ومرة ثانية كنا في مكتب الحزب عندما وقفت سيارة يقودها الرفيق زكي نظام الدين 2 امام المكتب ونزل منها الزعيم، زيارة مفاجئة بعد زيارته الرسمية بمدة شهرين تقريباً، ببشاشته المعهودة حيّا الموجودين ودخل المكتب، كنا نلعب كرة طاولة «بينغ بونغ» وبدا يلاعبنا واحداً واحداً… ناداني الزعيم وطلب مني الذهاب عند المنفذ العام وإبلاغه بمجيء الزعيم وتوجهه لعنده… وغادر في اليوم نفسه إلى بيروت، وقد وقف امام باب المكتب وأخذنا صورة معه…».

«قبل هذه الزيارة، وقعت حادثة هامة جداً. كان حزب البعث يعقد اجتماعاً في مكتبه في حي السبكي في منطقة الشعلان وكان هنالك حشد من الناس وكان يحضر هذا الاجتماع الاحتفالي قياديو الحزب وفي طليعتهم الاستاذان ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار. أثناء الاجتماع هاجمت مجموعة تنتمي للاخوان المسلمين مكان الاجتماع واعتدوا على من فيه، حتى القادة، وفرّقوا المجتمعين!

أثناء وجود الزعيم في دمشق جاءت تسريبات عن تفكير «الاخوان» بتكرار العملية التي قاموا بها مع البعث بمثلها مع القوميين».

«كان الزعيم في المكتب في شارع بغداد وكانت الوفود الشعبية تؤمّ المكتب للتعرّف إليه والتحدث إليه والوقت ليلاً، الرفيق عبد الهادي حماد 3 يرأس مجموعة الحماية وكنت في عدادها… وزعنا في المنطقة وفي احد الزواريب المطلّة من بعيد على الشارع الذي يقع فيه المكتب شاهدتُ ثلاثة اشخاص بعثوا الريبة في نفسي، تسللت خلفهم فسمعت أحدهم يعطي تعليمات عن كيفية المراقبة وما يتبعها تحضيراً لعمل عدوانيّ ضدّنا.

عدتُ وأبلغت الرفيق عبد الهادي، توجهنا نحوهم وقبضنا عليهم وبعد التحقيق اعترفوا أنهم من «الإخوان» وهم جزء من مجموعة ستهاجم المكتب حيث يوجد الزعيم! قمنا بجمعهم من الشوارع بمداهمات هادئة ثم اتصل المسؤولون الحزبيون بقيادتهم وابلغوهم ما لدينا، وبأننا لسنا مثل غيرنا فنحن كما قال سعاده: «لا نعتدي على أحد ولكننا أسود إذا هوجمنا..». وبدأت الوساطات والتوسلات فأفرجنا عنهم مذلولين ولم يعودوا، لا هم ولا سواهم، لمثلها أبداً…».

هوامش:

1 هناك تباين في التاريخ الوارد مع «مجموعة الأعمال الرسمية». نأمل من الرفيق إياد موصلي أن يوضّح، وإلا سنعتمد التاريخ 12 تشرين الثاني حسبما جاء في «مجموعة الأعمال الرسمية».

2 زكي نظام الدين: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

3 عبد الهادي حماد: للاطّلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى الموقع المذكور آنفاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى