«فجر الجرود»… حقائق ودلالات

العميد د. أمين محمد حطيط

شكّل إطلاق الجيش اللبناني معركة «فجر الجرود» لتحرير جرود رأس بعلبك والقاع، شكّل تحوّلاً استراتيجياً هاماً على صعيد لبنان والمشهد الإقليمي العام حتى أنه شكّل انقلاباً على كلّ ما خُطط له ضدّ لبنان وساهمت به جهات لبنانية سياسية رسمية وغير رسمية. فهذه المعركة وبكلّ بساطة نقلت لبنان من موقع خدعة «النأي بالنفس» السياسة المهزلة والبدعة التي ابتدعها طاقم سياسي لبناني ليغطي ما يوفّره لبنان من دعم للإرهابيين، إلى موقع كان فيه سبّاقاً منذ العام 2000، وعُطّل بقرار سياسي، هو موقع محاربة الإرهاب الذي تستمرّ فيه قوى إقليمية ودولية، بقيادة أميركية.

لقد كان كثير من المختصّين يستبعدون أن يُقدم الجيش اللبناني على الانخراط في الحرب ضدّ الإرهاب على الحدود مع سورية، لأنهم كانوا يرون أنّ في مشاركة الجيش اللبناني بهذه المهمة خدمة لما يسمّونه «النظام السوري» الذي يعادونه خدمة لمرجعياتهم ومتبوعيهم، ولهذا كانوا ولا زالوا يجاهرون برفضهم تقديم أيّ دعم للدولة السورية التي تقودها حكومة شرعية بقيادة الرئيس الأسد.

لكن تطوّرات الميدان ومتغيّرات السياسة الدولية، وأخيراً المتغيّرات الداخلية اللبنانية التي حملت العماد ميشال عون

إلى رئاسة الجمهورية والعماد جوزيف عون إلى قيادة الجيش، ثم ما قامت به المقاومة من عمل أدّى إلى اجتثاث جبهة النصرة وسرايا أهل الشام من جرود عرسال، كلّ هذا متراكماً ومتناغماً حمل الجيش اللبناني حتى وبتأييد ودعوة من الأطراف ذاتها التي رفضت أن يتصدّى الجيش لمن أسموهم «ثواراً» وهم في الحقيقة إرهابيون يعتدون على الأمن الوطني والإقليمي، حمل الجيش على شنّ عملية «فجر الجرود» التي نفّذ معظمُها حتى الآن. فكيف تمّت العملية وأين وصلت وما هي نتائجها وتداعياتها؟

بعد أن تشكّل القرار السياسي اللبناني بشكل إجماع على تكليف الجيش اللبناني بمهمة استكمال تنظيف الجرود بعد أن أنجز حزب الله مهمة تنظيف الجرود من الطفيل إلى عرسال شاملاً جرود يونين ونحلة مساحة 600 كلم2 وتبقى 120 كلم2 من الأرض اللبنانية تحت سيطرة داعش، انصرف الجيش بعدها لإعداد معركته مع الأخذ بعين الاعتبار قيود ومحاذير وعوائق لا بدّ من التعامل معها بحذر ودقة.

وقد أتقن الجيش مهمته ووفّر شروط المعركة الناجحة، أمنياً وعملانياً ولوجستياً وسياسياً وميدانياً، بالشكل الذي يريحه ويريح الجميع ويوفر فرص نجاح المهمة، وعمل بمنطق «نريد أكل العنب ولا نريد قتل الناطور»، فتجاوز الاعتراض من البعض على التنسيق مع المقاومة والجيش العربي السوري برفض عملاني للتنسيق وعمل ميداني به تجلّى في تحديد الساعة الصفر، ومحاور العمل وبقع الصلاحية، وخرج الجميع راضين، والعقلاء يعرفون كيف أنّ التنسيق حصل في خدمة المعركة بمجرد أن يدرس عملية «فجر الجرود» التي ينفذها الجيش اللبناني مع عملية «وإنْ عُدتُمْ عُدْنا» التي ينفذها الجيش العربي السوري والمقاومة في اللحظة ذاتها وبدءاً بالساعة الصفر ذاتها.

هذه المعركة المتكاملة والتي تدور في الأرض اللبنانية والأرض السورية المتصلة بها تتمّ في مسرح عمليات واحد ضدّ هدف واحد وتتجه لإنجاز عسكري واحد هو اجتثاث الإرهاب من المنطقة السورية اللبنانية كاملة، تلك إنما هي معركة واحدة تنفذها قوى متعدّدة كلّ منها في بقعة صلاحية وفقاً للقواعد العسكرية، ولأنها كذلك فقد استفاد الجميع من قدرات بعضهم بعضاً، ووضعت داعش بين فكي كماشة من الشرق والغرب، ما حرمها القدرة على المناورة والإسناد المتبادل، وأجبرها منذ الساعات الأولى على اعتماد القتال التراجعي والانكفاء إلى الخلف لسببين: الأول عائد الى نقص في العديد قياساً على المساحة المشغولة 1000 مسلح يشغلون مساحة 300 كلم في لبنان وسورية. وهي تشكل بقعة عمليات واحدة ، والثاني الوضع المعنوي واللوجستي المتردّي الذي يحدّ من قدراتهم القتالية، رغم أنهم محصّنون في جبال وعرة ويدّعون أنهم يملكون عقيدة قتالية تمنعهم من الاستسلام وتدفعهم للقتال المستميت.

لقد سارت المعركة بتسميتيها اللبنانية والسورية ، وفقاً لما خُطّط لها لا بل وأفضل، مما كان متوقّعاً، حتى أننا رأينا فيها معركة نظيفة لم يتكبّد فيها الجيشان والمقاومة خسائر تعادل عشر ما كان متوقعاً، وتسارعت الى حدّ اختصر نصف الوقت المخطط لها، ووصلت الآن الى حصر الإرهابيين في بقعة لا تتعدّى الـ 50 كلم2 في لبنان وسورية منها 20 كلم في الأرض اللبنانية، تراجع إليها ما بين 500 و600 مسلّح. وهنا سيكون على القادة المعنيين إعادة تقدير الموقف وتغيير أسلوب المناورة، لأنّ العدو لم يعُد لديه مجال للعمل بالقتال التراجعي، كما فعل حتى الآن، وسيضطر الى القتال المستميت إذا لم يستسلم وقد لا يستسلم، خاصة أنّ الاستسلام أيضاً مقرون أو مسبوق بالتفاوض الذي وضعت له قيادة الجيش شروطاً لن تتعدّاها تتعلّق بمصير العسكريين المخطوفين، ما يجعل العمل العسكري لاستئناف المعركة هو المرجّح، ولكن بشروط وأنماط أخرى، لن نخوض في توصيفها وهو أمر يجب أن يُترك للقيادة العسكرية من دون أيّ تشويش عليها، وهي أثبتت كفاءة وجدارة وشجاعة واحترافاً رسخت ثقة الجميع بالجيش اللبناني، تلك الثقة التي تسبّب السياسيون بالإضرار بها بشكل كبير.

لقد شكلت معركة فجر الجرود التي دخلها الجيش اللبناني بثقة واقتدار صورة تاريخية هامة ستضيف إلى سجله العسكري صفحة ناصعة مضيئة أخرى، فكانت معركة حقق فيها الجيش إنجازات هامة وأنتجت في الواقع الاستراتيجي والعملاني والسياسي الكثير من الدلالات التي سيكون لها من النتائج والمفاعيل ما لا يمكن إخفاؤه، كما أنها من جهة أخرى فتحت شهية البعض على إطلاق المواقف والإسهال بالنصائح والطروحات. وهنا وبين هذا وذاك لا بدّ من التأكيد على ما يلي:

1 ـ في معركة «فجر الجرود» وبالطريقة التي نُفّذت فيها المعركة، ووفقاً لما رصد في الميدان من قوى، أكد لبنان موقعه في المعسكر الحقيقي لمكافحة الإرهاب والمتشكّل بشكل أساس من محور المقاومة، ونفض عنه ما قيّدته به سياسة النأي بالنفس التي دفع ثمناً باهظاً من هيبته وسلامة جنوده، وفي ميدان المعركة أجلى ما جاء من غموض ولبس حول انتماء لبنان للتحالف الدولي الأميركي لمحاربة الإرهاب، وأكد لبنان التزامه بالحرب على الإرهاب وليس بتحالف أميركي.

2 ـ ترسّخت أكثر معادلة الشعب والجيش والمقاومة، حيث إنّ المقاومة استبقت عملية فجر الجرود بعملية تطهير جرود عرسال فهيأت بيئتها، ثم إنّ المقاومة عملت تزامناً مع الجيش وبشكل منسّق ميدانياً معه، ما وفر له فرصاً أعلى لتحقيق الإنجازات، أما الشعب فقد كان ولا زال حاضناً عنصرَيْ قوة لبنان يرفدهما بالدعم المعنوي وبكلّ ما يتيسّر أضحكَنا من طرح معادلة استبدل فيها المقاومة بالدولة من دون أن يعلم أنّ الدولة تعني الشعب والأرض والسلطة .

3 ـ نجح الجيش في استقطاب تأييد لبناني إجماعي أقله في العلن، حتى من أولئك الذين قاتلوه القوات اللبنانية أو الذين حاصروه في المال والميدان تيار المستقبل ، ومن دون أن نتحرّى عن سبب انقلاب مواقفهم، يكفينا أنهم مع الجيش وخلف الجيش وهذا ما كنا نريده دائماً وأن تتحقق وحدة الكلمة الوطنية دعماً للجيش.

4 ـ سقطت أو ستُحجب طروحات توسيع صلاحيات اليونيفيل وتعديل القرار 1701، حيث أثبت الجيش ومعه المقاومة قدرة على الإمساك بالحدود ولا حاجة لأيّ عامل أجنبي آخر، وبهذا يكون الحلم «الإسرائيلي» بفصل لبنان عن سورية بقوات أجنبية قد دُفن في جرود السلسلة الشرقية.

أستاذ جامعي وباحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى