علامة تعجّب… كيف يقود «أبو هادي» قافلة الانتصار في زمن الانهيار؟!

فهد الريماوي

ما أروع أن يخرج الحيّ من صلب الميت، وينبجس الماء من عين الصخر، وينبت الخير في بوادي الشرّ، ويطلع الفجر من غياهب الليل، وتنبعث العنقاء من كومة الرماد، وتنطلق البطولة من جراح الشعوب المقهورة، وتنبثق المعجزة من تضاريس الزمن الصعب، وتشرق شمس السيد حسن نصرالله وسط آفاق عربية ملبّدة بالهزائم والهموم وعلامات التعجّب.

هذا الرجل سيّد جليل في قوله وفعله، وليس فقط في حسبه ونسبه… وهو قائد مقدام في المعارك السياسية والإعلامية، وليس فقط في الحروب العسكرية والأمنية… وهو مبدع خلاق في عوالم البلاغة والخطابة والجملة السحرية، وليس فقط في ميادين التعبئة والتنظيم والإدارة اليومية للمستجدات الطارئة والقضايا الواقعية.

هذا الرجل له من اسمه نصيب كبير، فهو نصرالله وناصر العرب الذي ما دخل معركة حربيّة إلا وكان النصر حليفه، وما خاض مساجلة إعلامية إلا وكان النجاح رفيقه، وما أطلّ من الشاشة التلفزيونية إلا وكان مالئ الدنيا وشاغل الناس، وما طرح فكرة أو أطلق رؤية إلا وكانت محلّ اهتمام واحترام العدو قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، والمختلف معها قبل الموافق عليها.

هذا الرجل/ الرمز ليس رئيس دولة وازنة، ولا ارطبون جيوش عرمرمية، ولا زنكيل مليارات نفطية، ولا قيصر إمبراطورية إعلامية، ولا سندباد رحلات وجولات ومؤتمرات دولية… ومع ذلك فقد بزّ كلّ قادة العرب ورؤسائهم وأثريائهم وأدبائهم وجنرالاتهم في الشهرة العابرة للقارات، وفي القدرة على حصد الانتصارات، وفي الشجاعة الطالعة من كربلاء، وفي التضحية البالغة حدّ الجود بالابن البكر، وفي المصداقية التي يشهد العالم بها ويبصم بأصابعه العشرة عليها.

هذا الرجل يشكل منحة سماوية جادت بها الأقدار، ويجسّد صدفة عبقرية وفّرها لنا التاريخ، ويمثل ظاهرة كاريزمية لم تتحقق لغير جمال عبد الناصر بالأمس القريب، ويعبّر عن أعلى درجات النبل والترفع والأريحية، سواء في مواقفه السياسية، أو مبادئه الوطنية والإسلامية، أو شمائله الروحية والأخلاقية والطهرانية.. وسيكون من سوء حظ العرب وبؤس طالعهم، أن يفوّتوا فرصة وجود هذا القائد الملهم في مقدمة صفوفهم، من دون أن يلتفوا حوله ويشدّوا أزره لكي يحرّروا التراب الفلسطيني ويمحقوا الكيان الصهيوني الغازي والدخيل.

من حق أيّ عربي أن يعارض حزب الله، ويختلف مع بعض مواقف السيد نصرالله وطروحاته، فاختلاف الرأي لا يُفسد للودّ قضية، كما تقول الحكمة المعروفة… ولكن من العيب، بل العار، على مَن تسري دماء العروبة في عروقه، أن يمقت هذا الفارس الشهم، ويتحامل عليه، ويشكك في غاياته وولاءاته، ويشترك مع أميركا و»إسرائيل» في محاولات تشويهه واتهامه بما ليس فيه من مثالب ومعايب ونعرات طائفية ومذهبية وجهوية ضيقة.

حسن نصرالله ليس فرداً، بل جمع مذكر سالم، وقاسم مشترك أعلى لأبناء أمته كافة، وليس لطائفته الشيعية، أو ديرته اللبنانية، أو ركيزته الإيرانية… وهو صاحب حضور شعبي هائل يتجاوز الأرقام القياسية لدى ملايين العرب والمسلمين.. وهو على موعد حتمي مع التاريخ الذي طالما فتح صفحاته الذهبية للزعماء العظماء.. وليس في صالح هذا الرجل، أو في حسبانه، أن يهبط من علياء هذه المكانة المرموقة إلى درك المربعات الفئوية والمسطحات المذهبية.

هذا الشيخ المعمّم ليس يسارياً، ولكنه أقرب للكادحين وأحنّ على الفقراء والمظلومين من أساطين اليسار وأقطاب الاشتراكية.. وهو ليس قومياً ولكنه رفع رؤوس العرب عالياً حين هزم «إسرائيل» بالنيابة عنهم جميعاً.. وهو ليس مسيحياً، ولكنه من أشدّ المسلمين احتراماً للمكوّن المسيحي العربي، والتزاماً بالعيش اللبناني المشترك… وهو ليس فلسطينياً، ولكنه أكثر حرصاً وولاء وإخلاصاً لقضية فلسطين من بعض زعاماتها وقياداتها التي سكِرت بكؤوس الوهم، وهرولت لعقد «سلام الشجعان» مع رابين وبيريز ونتنياهو وتسيبي ليفني.

مشكلة هذا الرجل ليست كامنة في ذاته ومواصفاته، بل موجودة لدى أعدائه وغرمائه.. فهم مغتاظون من استقامته وليس اعوجاجه، ومن أمانته وليس انحرافه، ومن تسامحه وليس تزمّته، ومن نجاحه وليس إخفاقه، ومن مجمل فضائله وحسناته وليس سلبياته وسيئاته.. شأنهم في ذلك شأن المثل الشعبي المصري الذي طالما ردّده المرحوم ياسر عرفات: «مالقوش في الورد عيب، قالوا له يا أحمر الخدّين .

أما جريمة هذا الرجل الكبرى التي لا تُغتفر عند الأعداء والعملاء، فتتلخّص في كونه صاحب مشروع كفاحي تحرّري حاسم ومتصادم على طول الخط مع الصهاينة والمتصهينين العرب والأجانب، وليس في حياته وبرامجه وأجنداته ما يتقدّم على هذا المشروع الاستراتيجي العظيم، وليس لديه ذرّة شكّ في أنّ الصراع العربي مع الصهاينة صراع وجود وليس حدود، وأنّ الجغرافيا الفلسطينية وحدة واحدة لا تقبل القسمة على اثنين، وأنّ العدو «الإسرائيلي» لا يفهم سوى لغة واحدة قوامها النار والبارود.

من نقاء العقيدة استخلص «أبو هادي قوة الإرادة، واكتسب مضاء الهمّة والعزيمة، وامتلك بُعد النظر وعمق البصيرة، ورفض الدخول بالمطلق – في لعبة الكلمات المتقاطعة والأواني المستطرقة التي تورّطت فيها منظمة التحرير الفلسطينية… فما هادن ولا ساوم ولا فاوض ولا تنازل ولا اقترب من إثم الصلح والتطبيع مع الكيان الغاصب… ذلك «لأن ما أُخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة».

في خطابه الذي أعقب تحرير جرود عرسال اللبنانية من قبضة جبهة النصرة الإرهابية، زفّ لنا «أبو هادي بشرى الانتصار الوشيك في سورية، ورغم أنّ كلّ الوقائع الميدانية تؤشر الى هذا الاتجاه، إلا أنّ للبشرى الصادرة عن هذا الرجل نكهة عذبة، وعبقاً طيّباً، ومعنىً فصيحاً ومريحاً وباعثاً على الثقة والتفاؤل.. وطوبى لهذا البشير الذي يبصر بعيني «زرقاء اليمامة ، ويرى قبل الآخرين، ويحظى بفراسة المؤمن، ويغشى الوغى ويعفّ عند المغنم!

رئيس تحرير جريدة «المجد» الأردنية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى