عايدة صبرا لـ«البناء»: الضحك هو الوسيلة الأكثر جدوى وجدّية في التعامل مع إيقاع الحياة المتسارع والمتغيّر

حاورتها رنا صادق

عاشقة التمثيل محبوبة الإيماء، يتنفّس المسرح سعادةً ما أن تطأ خطواتُها الخشبة، تداعب الحنين برقّتها وتثبّت الفكر بحقيقتها… حقيقية إلى حدّ لم يعد موجوداً. ثابتة الأداء والحضور، عزيمتها سرمديّة لم ولن ترضخ للظروف، لا بل قاومت الصعاب كلّها التي أحاطت بأعمالها ومشوارها الفنّي، وذلك لإنتاج فنّ يؤرّخ مجداً للبنان.

هي «الستّ نجاح»، الممثلة عايدة صبرا، فنانةٌ من الدرجة الأولى، مخرجة ذات رؤية إبداعية ثابتة، ممثلة كاملة شاملة، وأستاذة جامعية، وفي حُسن حضورها يضمحلّ الكلام.

بابتسامة عريضة لا تخفي غصّةً خجولة تستقبل صبرا زوّارها ومحبّيها، بابتسامة عريضة لا تخفي خلفها حسرةً على الفنّ والثقافة بعد أن حاصرتهما التجارة كأولوية في غالبية الأعمال الفنية الحديثة.

خاضت صبرا منذ فترة وجيزة تجربة تركت أصداء إيجابية، حيث أدخلت خيالها في عمل فنّي جديد يتلاءم مع الحداثة، وأرجعت «الستّ نجاح» من جديد إلى الساحة تحت عنوان «الستّ نجاح في كندا». «نجاح» التي لم يعجبها الوضع في مونتريال، عبّرت دائماً عن انزعاجا من النظام في محطّة المترو ومن نظافة الشوارع، وأزعجها مشهد اللون الأخضر الذي تراه صباحاً من شرفتها. هذه التفاصيل المضحكة كلّها، عرضتها صبرا بجمالية خلّابة شوّقتنا لانتظار فيديواتها اللاحقة.

«البناء» التقت المبدعة القديرة عايدة صبرا، التي تحدّثت عن أعمالها الأخيرة، وعن «الستّ نجاح»، كما تحدّثت عمّا يعتريها من ألم وأمل إزاء الوضع الفنّي الثقافي في لبنان.

وقبل الغوص في حديث اللقاء، نقول لـ«الستّ نجاح» اشتقنا إليك، لا تطيلي الغيبة، جمهورك بحاجة إليك اليوم أكثر وأكثر.

«المسافر»… والبحث في غرائب البلاد

بدايةً، مع فيلم «المسافر»، العمل السينمائي الخفيف والمضحك، والذي كتبه وأخرجه هادي غندور. هادي ولد وترعرع في الخارج، يتردّد إلى لبنان بين الحين والآخر ليطلّ على والديه.

تقول عايدة صبرا: «المسافر» شخص يعيش في قرية من القرى اللبنانية، يعمل في إحدى شركات السفريات، حلمه السفر، ملمٌّ بكافة المناطق السياحية في العالم، من فنادق، مطاعم، ومواقع الاستجمام، عِلماً أنه لم يسافر قطّ. «عدنان»، بطل القّصة الذي يؤدّي دوره الممثل رودريغ سليمان، موظّف في وكالة سفر، يضطر مدير الشركة لإرساله إلى مؤتمر في فرنسا بدلاً عنه. ومن هنا تبدأ قصّته مع الحلم. يبحث في غرائب البلاد عن ذاته وهويته، التي ظنّ أنه يفقدها، آملاً في إيجاد متنفّسه في «وسعة» الدنيا الغريبة. بيئته الشرقية الطاغية تُدخله في صراع من منطقه العام إلى تجزئة لا مهرب منها. أحداث الفيلم شيّقة إلى حدّ كبير، شقّ منها اجتماعي والآخر نفسي، وهو موجّه إلى الشباب. شاء من خلاله المخرج أن يعكس الصورة الحقيقية للخارج وللمشقّات التي تواجه المهاجر على عكس ما يعتقد البعض.

«الستّ نجاح» تطوّع التطوّر!

«الست نجاح» على «يوتيوب» أغوت صبرا ولفتتها، بعدما لاحظت أنّ العالم ذاهب باتّجاه السوشيل ميديا والإنترنت، أو باتّجاه الوسيلة في التعبير التي أثبتت الدراسات أنها محطّ تداول للسنوات العشر المقبلة. فالناس انكفأوا عن شاشات التلفزة لفقرها للمادة أولاً، ولعدم تلبيتها احتياجات المُشاهد في هذا العصر ثانياً، خصوصاً أنها لا تقدّم أي جديد. بينما «يوتيوب» اجتاح معظم دول العالم، و«يكسح» كلّ وسائل التواصل القديمة، وأصبح الفاعل المؤثّر الأبرز للسنوات المقبلة.

تقول صبرا: العالم متّجه نحو عنصر اتصال جديد، عالم افتراضيّ شيّق وواسع وغامض، يترك أثره على المجتمع في الأصعدة كافة. كان واضحاً منذ خمس سنوات على الأقل أنّ المشروع المستقبلي للعالم هو الإنترنت ومعه وسائل الاتصال والتواصل كلها. فالناس بدأوا يبتعدون عن استخدامات الشاشة، التي لا تقدّم ما يرضي الجمهور ولا تشبع احتياجاته. مشروع العصر هو الإنترنت واحتياجاته. بعد أن كان التلفزيون وسيلة الجمهور المفضلة لتلقّي المعلومة، باتت برامج الإنترنت عابرة الحدود في متناوله بكامل جهوزيتها.

خلال تجربتها «الستّ نجاح»، سنحت الفرصة لهذا النوع الجديد من التقديم، تمثيل قائم على السخرية من الوضع. واختارت صبرا «الستّ نجاح» لأنها قريبة من الجمهور الذي اكتسبته، ونقلت فيه هموم الناس.

عاشت صبرا في مونتريال من قبل، لذلك تعرف أدقّ تفاصيل الاختلافات مع لبنان على الأصعدة المعيشية الاجتماعية الصحية البيئية، فكل ما هنالك هو بحدّ ذاته مادة. مادة ساخرة ودسمة لتقديمها ومقارنة وضعها بالوضع الذي يعيش فيه اللبنانيون. تبلورت الفكرة مع المخرج علي ماجد الذي كان تلميذ صبرا أيام الجامعة سابقاً، واتفقا على خطوط العمل العريضة.

عُرض الفيديو الأول على الإنترنت ولم يكن لدى صبرا أيّ توقّع حول النتيجة، معتبرةً أنه لن ينجح. وخلال يومين، حقّق الفيديو نجاحاً هائلاً حيث وصلت نسبة المشاهدة إلى نصف المليون.

من ناحية ثانية، وظّفت صبرا هذا النوع من التمثيل الساخر للإضاءة على الخطأ بمفارقة عكسية بين الغرب ولبنان. حصدت اهتماماً من الجمهور خصوصاً من قبل الشباب، في حين كانت ردود الفعل إيجابية مع هذا النوع.

تشير صبرا إلى أن انجذاب اللبنانيين إلى الأفلام المضحكة والابتعاد عن الأفلام الحزينة والعلمية، هو نوع من التنفيس عن الأوضاع المعيشية المزرية والفساد الذي يعيشونه. كما تعتبر صبرا أنّ الضحك هو الوسيلة الأكثر جدوى وجدّية في التعامل مع إيقاع الحياة المتسارع والمتغيّر، ومواجهة المواقف المحرجة أو المحزنة أحياناً، وبالتالي يساعد في إخراج الشحنات النفسية والطاقات الداخلية الموجودة لدى الإنسان، والتي تؤثّر بالتأكيد على حالتيه النفسية والعضوية.

المسرح

في ما يخصّ المسرح، تعتبر صبرأ أن الإخراج المسرحي هو تطوّر من مجرّد نسق متكامل من المعلومات إلي نسق يفيض بالإبداع والخلق الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمتغيّرات المجتمع. وأدوات المسرحية وعناصرها كافة تعمل على ضوء الإخراج، أي أنّ الرؤية الإخراجية هي التي تحكم. يمكن للمخرج أن يحوّل النصّ الكلاسيكي إلى مسرحية لا علاقة بالكلاسيكية، أو اختصار الأدوار ووضعها ضمن أطر وظروف مغايرة عن النصّ.

أما عن دور المخرج المسرحي فتقول: تختلف آراء عدّة مهتمّة بشؤون الفنّ التشخيصي ومتخصّصة فيه، عن أهمية دور المخرج. فيعتقد البعض أنّ دوره يأتي بالدرجة الثانية بعد أهمية الممثل في العملية الإبداعية. لذا، يتطلّب الانتباه الكبير إلى هذا الدور مع دراسة المهام والواجبات التي يضطلع بها من خلال تجزئة العمل الإخراجي. في حين، تقع على المخرج مسؤولية تمرين الممثلين وإعدادهم فنّياً نفسياً وبدنياً، بمستوى يؤهّلهم فيه للعب مختلف الأدوار المسرحية والعمل مع الكاتب المسرحي، ثم العمل مع الرسّام لإبراز الشخصية الحقيقة للمسرحية التي تكشف عن الرؤية الاجتماعية والفلسفية للنصّ المسرحي.

وتضيف بطلة مسرحية «فيترين»: العمل الإخراجي المتقن يزيد من أهمية القصّة، ويستطيع إيصال الرسالة بسهولة وتشويق، ولا يفقد قيمته الفنية بل على العكس يبرز جدارة المخرج التي تظهر حين يتمكّن من تحويل النصوص إلى حلّة فنّية تلامس المُشاهد وتترك آثاراً لديه.

تُرجع صبرا سبب تقلّص الأعمال المسرحية التجريبية والسينوغرافيا في لبنان إلى أنّ الجمهور لا يهتمّ لهذا النوع، لأنه يميل إلى القصص الأكثر تشويقاً وبساطة. وتشير صبرا هنا إلى أنّ العمل المسرحي التجريبي تقوم فكرته على تجاوز ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية لتقيم فكرة متقدّمة عما هو موجود بالفعل، وكلمة تجريب مرتبطة بالتحديث. كما أن التجريب يخاطب مختلف التيارات الفكرية والسياسية والعقائدية.

وتضيف: تاريخياً، تجدر الإشارة إلى أن اسم آلِكسندر تايروف اقترن بالسينوغرافيا التجريدية. حيث جعل تايروف ممثّليه يستخدمون ماكياجاً غريباً لا يشبهون به أحداً في الواقع. وبهذا يصبحون أشخاصاً منفردين في عيون المتفرّجين في أزيائهم الغريبة الفانتازتيكية. ومن ثمّ، يكثرون من الألعاب البهلوانية والماكياج الساخر والشقلبة التهريجية والتشخيص الكاريكاتيري الهزلي.

وتقول: «الميم»، أو التمثيل المسرحي الصامت، يعدّ من أهمّ الأشكال التعبيرية التي يمكن الاستعانة بها في المسرح من أجل تقديم «فُرجة» درامية مثيرة، تجذب المُشاهدين بطريقة إبداعية ساحرة، وتخلب ذهنهم فنّياً وجمالياً. ومن هنا، إذا كان المسرح العادي يعتمد كثيراً على الحوار التواصلي وتبادل الكلام، فإن المسرح الصامت أو ما يسمّى بـ«الميم»، يشغل كثيراً خطاب الصمت الذي يعبّر سيميائياً ورمزياً عن مجموعة من القضايا الذاتية والموضوعية أكثر ممّا يعبّر عنها الحوار المباشر.

أما عن المشاكل التي يعاني منها المسرح فتقول صبرا: يعاني المسرح من إهمالٍ حادّ، ويندرج ذلك ضمن إهمال المسؤولين، إضافة إلى إهمال شركات الإنتاج للأعمال الفنّية المتميّزة وتركيزها على الأعمال ذات صفة خاصّة تجارية. حتى المسرح في لبنان تعمّه الوساطة والمحسوبيات. الأمر الذي يعيق الحياة المسرحية ويؤثر على جميع نواحيها.

إلى جانب المسرح والتمثيل، اهتمّت صبرا بالرقص، الباليه الكلاسيكي، والجاز والرقص الحديث، كما اتّجهت إلى تعليم رقص الباليه الكلاسيكي في المركز الثقافي الروسي، كما استغلته في أعمالها المسرحية.

إذاً، مشكلة إهمال الأعمال الفنية المسرحية القيّمة من جهة المهتمين هي أبرز ما تعانيه صبرا اليوم في بلدٍ يصبح فيه الفنّان كلمات في صفحات التاريخ ومقدّمات البرامج. إلى متى سيبقى وضع المسرحيين والممثلين الكبار يسبح في فلكٍ مجهول؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى