المغربي عبد العالي الوالي في تجربة زجلية ترعى قهْريّة البوح

أحمد الشيخاوي

رغم أنّ الشعر في كلّيته، إذا ما تمّت مقاربته من زوايا سيميائية تصون له القداسة داخل الذاكرة والوعي. ومع سريان ما نزعمه في أفلاك الماهية الشفهية المراعية للإشباع في نهوضه على أولويات سماعية بامتياز مسّوغة لرؤى اختراقية تعيد بلورة فهمنا للذات والغيرية والعالم.

رغم ذلك كلّه، وجب أن نكتب نبوح وإن عن عبثية رافعة وعدمية منجدة من حيف وغبن و تيبّس الراهن.

وهو لبّ ما س نقف عند حدوده في المنجز الزجلي للمبدع المغربي عبد العالي، إذ يطالعنا بنصوص فوضوية مشاكسة، تطغى عليها لكنة عمق الوطن وما يكتسحها من ظلال باستطاعتها رجّ الجملة المفاهيمة في بعدها الهوياتي، من حيث تنامي منسوبها التواصلي المرتكز إلى استنساخ الهامشي والمتداول.

وهي في الأصل متشبّعة بمخزون زجلي وارف وثريّ بتلاقح ثقافي ومجتمعي تراكم عبر حساسيات متنوعة وأجيال تعاقبت، وربما تمتد جذورها إلى ما قبل الموروث المجدوبي، في هذا المضمار.

بيد أن ما نودّ تسجيله هنا هو عصرنة الخطاب الزجلي، وانتشاله من كلاسيكيته، بغرض جعله أكثر مواكبة و توأمة للصيروة الحياتية، وحتميات التوغل والنفاذ في تفاصيل اليومي بشتى تجاوزاته.

وهي خطورة لا تقصي الملمح الجمالي في تمرير المتون المغلّفة بمنظومة ما يرفع الإنسان ليضعه فوق ما سواه بين سائر ما يحتضنه ويحيط به وينتج عنه، بما في ذلك القصيدة بحدّ ذاتها.

لذا، فالإنسان يحظى داخل حدود هذه اللعبة الكلامية، بصلاحيات مطلقة، بوصفة النواة المحيلة على ألوان الحرف المتحرّر والمتنامي خارج تخوم وقيود النّص.

بهذا، نلفي معمار القيمة الحكائية الحكمية، لدى صاحبنا، لا يكتمل بسوى صياغات مستجدة و مستحدثة للذات والعالم، ما يمنح أفقاً خصباً لاستنبات معان حصيفة لا يتكلّفها المعجم الشعبي، تخدم الجانب الرّسالي، على نحو كبير ومقنع يكاد يشي للمتلقي برضا تام للمبدع عن ممارسته الزجلية.

ولعلّ الجاذب أو المغناطيس في حقل الأدبيات قطرياً وعالمياً، ما يذكي فتيل إدهاش القرّاء ويعدّهم لصدمة ما بعد خروج أو انفلات ملكية النصّ من مبدعه، أو كما في عدد من التنظيرات، موت المؤلف بما يفسح للمادة الأدبية وتيح لها ولادات ثانية بحسب تفاوتات الوعي والذائقة:

هاكْ ألبي مدادْ الروحْ فتوحْ

رْسمْ النقطة الأولى فالدمْ

رسمْ الجرحْ الأول

رسمْ القلب الأول اللِّي ك يشبهك فالروحْ.

هكذا، نستشفّ أنه لدى أقصى مستويات الإشكالية الأقدر على تفجير أو تحفيز المكنون صوب ما قد يقترح معالجات تبحث في غائية الإبداع، بالضرورة، يتولّد المعنى المقلق كمعادل لما قد يحاصر المخيلة ويطوّقها بمتوالية استنطاقات وجودية تبرّر الحاجة الإنسانية والعوز الوجودي إلى الكتابة إجمالاً.

وتتحقّق عبرها إرسالية ارتجالية للأجوبة التي وإن تولّدت ناقصة ومشوهة، فهي بمثابة ضمادات للمعاناة، وجرعات بلسمية بمفعول مؤقت ضدّ نوبات الاغتراب الروحي:

شي مراتْ كنكتب غير ضدْ فالسكاتْ

وشي مراتْ كنسكتْ

باش نخلّي للحسْ منينْ يدوزْ للحياةْ.

إن هذه المراوحة في الفعل الإبداعي، ما بين البياض الصائت، وإرهاصات منطوق الذات الماحية، لهو المخول للحياة الرمزية الموازية المنشودة، من حيث تحسّس الأرقى والإذعان لهواجس إنشاد الأفضل الذي من خلاله قد يتحقّق خلاص الروح والآخر والمكان.

زوقني الحالْ بهم حايلْ رفدْني لقوالي

والضّوْ حكايْمْ /رفدني لهبالي

والعقل هايْمْ كنكتب التيهْ لملوية تدّيه

للبحرْ تدّيهْ تدّيهْ

وإلى ما كفاشي تفرقو على الامواجْ

كاملة الناس ترفدْ منُه باش نلقاني.

وعلى نحو حلزوني، يوغل شاعرنا في فصول تعليل فعل الكتابة، متفادياً الوقوع في فخّ الإسفاف التعبيري، والإملال الناجم عن الحشو المعجمي والاستعاري اللازم، فيلتفّ على الفكرة الأم الحافظة للقصيدة وحدتها العضوية، ودالّها الأساس الألصق لحمة بتيمة وضع الإنسان في علياء ما تخطّ يمينه ويسيل له مداد مأساته.

شي مرّاتْ كنفكّرْ نكتبْ باش نكونْ

ولا باش ما نكون والو

ملِّي كنكتبْ كنلقاني معنى هربْ من غديرْ

باش ما يتشربشْ

كنلقاني كلمة طاحت من كتابْ «الغرائب والعجائبْ».

كنلقاني فهم جديدْ للكتابة

كنلقاني وجهْ ديالْ الحلمْ حتى الحقيقة ما كتعرفوشْ.

شي مرّاتْ كنكتبْ باش يشوفوني الناسْ من داخل

وشي مرّاتْ باش يشوفو راسهم

تقدر تكون الكتابة مراية تقدرْ

تكون حكاية لعمرْ فاتْ

تقدر ما تكون والو

الكتابة راحة

الكتابة قوّة للذاتْ

كتخرجْ باش تحيي الموتْ فالسكاتْ .

شي مراتْ ما كنكتبش باش يتحكَّنْ الكلامْ فالقلمْ

باش الراعي يردْ البال للغنمْ

باش العقلْ يلوح شوية من الضوْ لهاد الكون

تكبرْ شحال من حكاية تصْدقْ قبلْ ما تغرق الكتابة فاللونْ

ما نكتبش باش ما نعرفنيش

باش ما نحكيشْ على الضوْ منينْ جا

وإلى كتبتْ كاعْ ما تلومنيش

ا لحروف على السْفرْ إلى ما سلاشْ الشوفة

فالكون فالحلمْ فالحقيقة

كنكتبْ غير محبة

يمكن عشقْ

خرجْ منّي

محنِّي بشوفتكم

شوقْ

كنكتب باش نعيش مهنِّ .

تبعاً للمقتبس أعلاه، يتضح جلياً، ذلكم التضاد الذاتي، وكأنما هما صوتان يتعارضان داخل الذات، يشطرانها ويتقاذفانها بين السّلب والإيجاب، تجري بفعلهما الضاغط وتتدفق الحمولة الوجدانية، لتضفي الشرعية بشكل أو بآخر، على خيار إدمان الكتابة، في زمن الاختناق الروحي الرهيب الذي بتنا نعيشه.

الكتبة حلالْ شربْ بلا قياسْ ونّسْ الراسْ

والناسْ

حاجي وفكْ مسحْ الشّكْ على الحقيقة

فركْ عينيكْ باش تشوف الضوْ سارحْ فعقلكْ

باش تنوّرْ المراسمْ فكل ورقة

تطل المحبة بلا ما تشاورْ فكل قلبْ

الكتبة حلالْ مزال ما بريتْ

ومزال كل يوم نشربْ.

حتى لتغدو الكتابة ضرورة، وحاجة ماسة تنبض بها أسرارنا ويتوقف عليها وجودنا، نتنفسها مثلما الهواء.

كتابة لأجل الكتابة، لأجل الإنسان والعالم سيان.

المهم أنها كتابة تلهج بلسان الحال وكفى، أو بالأحرى جناية يتمّ اجتراحها بيد المحو، وعمق الآني الصارخ بصمتنا، ونشاط هذياني يشبع فضولنا، ويفتح قلوبنا وأذهاننا على رحابة وقزحية أفق الزجليات الهامسة الواشية بكنوز الماوراء، والممسوسة بفصاحة الذات في إخلاصها الغامر للقصيدة الشبابية الجديدة.

تلكم قهْرية البوح، في اعتقاد الذات بجدوى اللاشكل، بغية توسيع دائرة الخلق والابتكار، وفق إيقاعات وأنساق متمرّدة على التبويب الأجناسي، وفاسحة لانسكابات جوانية وهذيانات واقية من تخشّب وإسمنتية الواقع.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى