ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

رحيل الأمين سامي حنا خوري… مؤسّس جبهة الفداء القوميّ وقائدها

نعى الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين سامي حنا خوري 1 وقد أوردت عمدة الإعلام البيان التالي:

«ينعي رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمين علي قانصو إلى الأمة وعموم السوريين القوميين الاجتماعيين في الوطن وعبر الحدود، الأمين المناضل سامي حنا خوري، والد الرفيق النائب طارق خوري.

والأمين الراحل الذي توفي في الأردن عن 86 عاماً، من مواليد القدس عام 1931، وانتمى إلى الحزب عام 1949، وقد منح رتبة الأمانة في أوائل سبعينات القرن الماضي.

تميزت مسيرة الأمين الراحل بالمناقبية القومية وبالثبات على المبادئ، فكان مناضلاً حراً مقداماً، مؤمناً بما أقسم عليه بكل عزيمة وإيمان قوميين.

كُلّف بمهام ومسؤوليات عدة، وشارك في عدد من العمليات القتالية ضد العدو الصهيوني.

دخل السجون مرات عديدة بسبب انتمائه ومواقفه، لكن ذلك لم يزده الا إيماناً وصلابة في الموقف، ومواصلة النضال من أجل إنتصار القضية القومية.

عرف الأمين الراحل بصلابته، وقد أدى دوراً رئيساَ إلى جانب قوى وفاعليات وشخصيات في التصدي لمحاولات التطبيع مع العدو الصهيوني.

برحيل الأمين سامي خوري يفقد الحزب السوري القومي الاجتماعي أحد مناضليه من الرعيل الأول، وهو الذي حمل همّ فلسطين وأهلها، فكان حاضراً في في المواقع والمنابر يحفز على النضال من أجل التحرير والعودة، ويرفع لواء الدفاع عن قضية أمته، التي آمن انها تساوي وجوده وعمل في سبيل انتصارها.

البقاء للأمة والخلود لسعاده».

في أواخر ستينات القرن الماضي، وفي فترة توليّ المسؤوليات الحزبية، وقد أشرت إلى ذلك في عددٍ من النبذات، زارنا الأمين سامي خوري في منزل العائلة في المصيطبة، وجلسنا معاً نتحدث في أمور حزبية شتى.

في تلك السنوات كانت جبهة الفداء القومي بدأت عملها في منطقة الاغوار في الاردن، ومن الذين شاركوا في العمليات الرفيق عزمي منصور 2 وقد اصدر بعد خروجه من الاسر، كتاباً بعنوان «الحياة وقفة عزّ».

لم يصلنا ان الأمين سامي حنا خوري كتب مذكراته، او ان أحداً من الرفقاء نشر ما يضيء على تأسيس ونضال «جبهة الفداء القومي». ومن المؤسف اني لم أكن متنبهاً إلى أهمية تاريخ الحزب حين اجتمعت إلى الأمين سامي خوري، وإلا كان بديهياً ان أدوّن له الكثير عن سيرته.

«جبهة الفداء القومي» كانت الخطوة الثانية في عملية الصراع القومي الاجتماعي مع العدو «الإسرائيلي» بعد منظمة الزوبعة التي قادها الأمين مصطفى سليمان. بعد جبهة الفداء القومي ظهرت في الجنوب اللبناني، وتخصيصاً في بلدة راشيا الفخار ومناطق العرقوب، منظمة نسور الزوبعة بقيادة الأمين أسعد حردان، التي يصح ان يُكتب عنها وعن أبرز الرفقاء الذين شاركوا في تأسيسها وفي عملياتها.

ندعو من تعرّف إلى أعمال جبهة الفداء القومي وخاصة الرفيق النائب في المجلس الاردني طارق سامي خوري إلى ان ينشروا ما يفيد تاريخ تلك المنظمة، وفاءً للذين أسّسوا وناضلوا، وقدوة لاجيال نريدها ان ترفع البندقية في مقارعة العدو، فدحره.

هذه النبذة لا تغطّي سيرة ومسيرة الأمين سامي حنا خوري، نكتفي بنشر ما لدينا عنه بانتظار ان تردنا المعلومات المفيدة، او ان نتمكن من جمع ما يفيد سيرته، ومسيرته الغنية بالنضال

لمن لم يطّلع على العملية الفدائية التي شارك فيها الرفيق عزمي منصور بتاريخ 17 آذار 1968 وأدّت إلى اعتقاله وأسره في سجن عسقلان لمدة خمسة عشر عاماً، نورد التالي نقلاً عن كتابه «الحياة وقفة عزّ».

البداية:

«لما فتحت المدارس ابوابها، سجلت في مدرسة اربد الثانوية، اذ انني كنت في التوجيهية ذلك العام، وبعبارة اخرى على اعتاب مرحلة جديدة من الدراسة الجامعية… ورغم انني ملحق بقواعد الاغوار 3 الا انني كنت اجد وقتا للدراسة ايضاً.. وفي المدرسة كنت احرّض الطلاب، ادعوهم للمشاركة والعمل.. وعلى ما يبدو انني لفتُ انتباه احد المدرّسين، فدعاني للحديث معه، ولقد ارتحت لاحاديثه فقد كان يسألني عن القضية الفلسطينية، تاريخها، اسباب الهزائم المتلاحقة وما شابه ذلك… شعرت انه لا بد من الالمام ببعض اقضايا التاريخية، فبدأت أطالع ما تيسر لي من كتب تتعلق بتاريخ الصراع مع الصهيونية معتمداً على تلك الارضية التي اوضحها لي ذلك المدرّس، بأننا ندرس التاريخ للعبرة وليس مجرد قصص وروايات واحداث».

«بُعيد ايام استدعاني ثانية ذلك المدرّس، وقد ناولني عدة نشرات وكراسات، وطلب مني قراءتها والتعليق عليها بعد اسبوع، او ابداء وجهة نظري فيها.. وفعلاً بعد اسبوع ذهبتُ إليه معجباً بما قرأت من تحليل لاسباب الهزيمة، ومن خطر اليهود على المنطقة.. لقد شعرت انها تعبّر عن لسان حالي، وانها صاغت بدقة وترجمت بأمانة ما لم استطع صياغته او ترجمته او التعبير عنه بشكل منسق ومنسجم، وبعد مناقشة وجيزة دعاني مدرّسي للانضمام إلى صفوف … … تحت شعار ان الجيش القومي المسلح بالايمان والسلاح هو الخلاص… وان حرب التحرير القومية هي الوسيلة الناجحة من اجل سيادة الامة على ارض الوطن…».

«وافقتُ على الانضمام، وبعد اجراء بعض الاجراءات، شعرت ان آفاقاً جديدة تفتحت امام مداركي، وبدأتُ اشعر بثقة متزايدة جديدة، الهمتني طاقة جبارة… كنت اوزع المنشورات، أدخلها إلى كل حي وبيت وشارع… واصبحت أنظم الشبيبة وفق مواصفات محددة، وتعليمات كنت اتلقاها من المنفذ العام.. كذلك كنت اجمع التبرعات، وأنفذ كل مهمة توكل إليّ مهما كانت صغيرة ام كبيرة وكنت اداوم بعض الايام في القواعد المتقدمة ومركز التدريب. كنت اشعر انني أنمو في كل يوم اسرع من الزمن… اتمرس من خلال الكفاح اليومي العنيد والدؤوب… وباختصار شعرت انني قد اصبحت انساناً جديداً يتسلح بالمعرفة واسباب القوة…».

العملية

«السابع عشر من آذار لعام 1968.

الاستعداد في قاعدة الانطلاق على قدم وساق.. الاسلحة منظفة جيداً… المخازن مليئة بالرصاص والقنابل معدّة.. والمسؤول العسكري ينفرد بالمجموعة ويشرح مخطط العملية، يليه المسؤول السياسي والتعبوي الذي القى كلمة تشجيعية موضحاً كذلك الهدف من العملية».

«بُعيد الغروب، انطلقنا نعبر الجبال والهضاب والوديان، نتجه نحو الغرب، ومن تلة قريبة القينا نظرة على معسكر العدو الذي ترتفع عليه سارية عالية تحمل علماً بنجمته السداسية والخطين الازرقيين اللذين يرمزان إلى التوسع والعدوان، والاحلام الاجرامية بالسيطرة من النيل إلى الفرات».

«التحصينات في معسكر تل «ابو السوس» تزداد يوماً بعد يوم. والحشودات العسكرية تتكاثر على طول الشريط الحدودي كالخلايا السرطانية في قلب الارض الابية، وطلائع هذه الامة يسمعون انين الارض… ويرقبون الجرح النازف للارض الكنعانية… لا يمكنهم الارجاء او الصمت، فهم المؤمنون بان دماءهم وديعة الامة فيهم… رفضوا الانتظار، وقرروا مصارعة الصعاب الطبيعية وغيرها للوصول.. قرروا البدء، ففي البدء تكمن امكانية الوصول».

«نزلنا نحو نهر الاردن، القى فينا المسؤولون كلمات نضالية موجزة.. تلقينا سر الليل… وقمنا بربط حبل يوصل بين ضفّـتي النهر.. كنا اربعة من نسور هذه الامة، يساندنا ستة من المناضلين الاشاوس الذين اعتلوا القمم المجاورة في الضفة الشرقية من النهر بعد كلمات الحب والامل والوداع.. وما هي الا دقائق حتى شكلنا من اجسادنا همزة الوصل بين الارض العربية، لتمتين عرى الوحدة.. والتأكيد على ان كل حدود رسمها اعداء هذه الامة هي باطلة ومرفوضة.

اعتلينا السفح.. همسنا للارض ان لا تحزن.. فها نحن قادمون.. وبمنتهى الحيطة والحذر وسط جو مشحون بالتوتر والانفعال واصلنا عملية الزحف، رغم ان اصوات طلقات نارية متقطعة كانت تسمع من بعيد.. لا بأس، الايدي على الزناد ولن نؤخذ على حين غرة».

«قبيل الوصول إلى قمة التلة، تمّ الاتصال بيننا عبر كلمة السر الصوتية التي تشبه نقيق الضفادع.. كانت الاستجابات كاملة… وبتفحص دقيق لطبيعة المنطقة، زحف كل مناضل إلى موقعه، بانتظار رصاصة البدء، لنصلي من مواقعنا، التي اتخذت شكل الهلال، ارتال العدو التي ستخرج من بوابة المعسكر. الصمت ثقيل، ولكن ما يعزى النفس ان هذا الصمت ليس صمت الجبناء، وانما صمت طلقة البارود الكامنة في بيت النار».

«مرت دقائق.. اصوات لغط بكلمات غريبة تتناهى إلى مسامعنا.. الاعصاب تتوتر.. والاصابع تداعب الزناد.. نتحد بأمنا الارض.. وللحظات اصبحنا كلنا عيوناً وآذاناً.. اللغط يتعالى، تبرز مقدمة رتل العدو.. نصرف على الاسنان، ويزداد وجيب القلب، وترتفع حرارة الجسد.. وبصمت نعد.. وقبيل ان نقارب الاربعين من العد، انطلقت رشاشاتنا تزغرد في ستر الليل.. اعجاباً وتحية لاغنيات قنابلنا اليديوة التي تعلو على صراخ العدو وبعض عياراته النارية العشوائية».

«الرماية تتركز حول مواقعنا، تكاد تحاصرنا وتشل حركتنا.. لا بد من تغيير الواقع وفتح الدرب بالنيران.. قفزنا الواحد تلو الآخر.. نحمي بعضنا البعض.. وخلال القفز اخترقت صلية غادرة وجه وصدر احد الرفقاء، لم يلفظ بكلمة، ولكن صوت دمه يناغي ارض الوطن.. لم نبكه، بل قذفنا بعض قنابلنا، وفتحنا رشاشاتنا باتجاه مصدر النيران.. لم نعد نسمع كلمة السر «رمان» من فمه، ولا الصوت الشبيه بنقيق الضفادع… ولكن سنجعل صوته مسموعاً لكل العالم.. وسينبت الرمان واللوز والزيتون على الارض التي رواها بدمه».

«واصلت الزحف ببطء بين الحشائش والاعشاب، لم يعد العدو يعرف موقعي بالتحديد، رغم ان نيرانه لم تنقطع وما زالت بنفس الغزارة… وما زالت مدفعيته تشكل حاجز نيران على امتداد اكثر من 5 كلم على طول النهر، في محاولة لمنع الامداد او الخروج.. بنفس الوقت الذي عزّزت فيه حامية معسكر «تل ابو السوس» بقوات اضافية. بدأت تضرب طوقاً، وتقوم بعملية تمشيط بالنيران..

وخلال هذه الفترة واصلتُ الزحف إلى منطقة جرداء ومكشوفة تقريباً. وعلى بعد خمسين متراً مني ناحية الشرق، بالقرب من النهر، تتكاثف اشجار البوص، ومن ناحية الغرب ـ الشمالي يقبع معسكر «تل ابو السوس» المشرف على الغور الشمالي ومن الجنوب تواصل نقاط المراقبة في اعلى الجبال، عمليات الرماية العشوائية ومن الشمال، بدأت اسأل نفسي: هل اتدحرج نحو النهر في ذلك المنحدر الاجرد، ام اشق طريقي نحو الجنوب قليلاً كأفضل نقطة ضعف لدى العدو، ام اتصل بمجموعة الحمياة عبر سرّ الليل بطلقات الخطاط المتفق عليها؟».

«ألصقتُ أذني على الارض الطاهرة، فإذا بها تهمس لي: «تيقظ فالغزاة قادمون» «اولاد قراد الخيل آتون».. غلى الدم في عروقي، فهذه الارض يجب ان تتطهر والى الابد من رجس هؤلاء البرابرة.. النازيين الجدد.. ولا شيء يطهرها سوى الدم… سوى الفعل المصبوغ بالدم فالكبرياء القومي لا تسنده الكلمات الممجوجة والخطابات المكررة في هيئة الامم.. ولا سيل الاستنكار والشجب الخالي من الرصيد، والمصاغة عباراته في الصالونات الوثيرة، وانما تسنده الدماء على ارض الصبار الحزين… تسنده حجارة الارض المقدسة، ويدعمه زيتونها المروي بدماء زكية.. ويدعمه اتحاد الكلمة بالفعل، لا انفصالهما، وحشد الطاقات لا تبديدها… واولا امتلاك ارادة القتال المنطلق من الايمان الاكيد بالحق وعدالة القضية والايمان بالنصر».

«جيش الاحتلال الذي لا يقهر» يتقدم ـ من دون ان يدري ـ نحو موقعي، لا بد ان اسمع صرخات هذا الجيش… انها تطربني، انها اللحن المفضل عندي. انتظرتهم، تناولت قنبلة اخرى من جعبة القنابل اليدوية ووضعتها أمامي.. وما ان اقتربوا مسافة عشرات الامتار فتحت عليهم نيران رشاشي، قذفتهم بقنبلة يدوية، وقنبلة اخرى الحقتها بصلية من رشاشي نحو شجيرات البوص المتكاثفة».

«وجنّ جنون العدو، فأمطر المنطقة التي اتمركز بها بوابل من القذائف ونيران الرشاشات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة. سقطت القذائف بجانبي، عفّرني التراب المتناثر، بدأت اتنقل من حفرة إلى حفرة بين الاعشاب والحشائش، بعد ان اوقفت رمايتي قليلاً.

قذائف الهاون تحاصرني.. انتقلت إلى حفرة اخرى، وكانت صغيرة حيث تبرز رجلي اليمين فوق سطح الارض، وما هي الا لحظات فإذا بشظية قنبلة هاون تمزق بطة الساق وتستقر بها. وينسفح الدم غزيراً… انها نفس الرجل التي أصيبت في بداية الاشتباك… لم اتحرك.. شعرت بالالم والدوار، وعلى ضوء قذائف التنوير رنوت إلى المرتفعات الشرقية. لا ادري كيف مرّ بذهني شريط حياتي سريعاً، ومرّ بخاطري ايضاً زيارة قمت بها قبيل ايام لمجموعة من الجرحى، كانت في المستشفى، كانوا من طلائع الفدائيين الذين ارادوا ان يكون يوم عيد الاضحى في قلب الارض المحتلة، فدكوا مستعمرة «غيشر» في القطاع الشمالي من الغور. ابتسمت من بين الالم، فالآن ستعرف امي واخوتي وابي الذي يعيش في الغربة بحثاً عن لقمة العيش، سيعرفون سرّ المغيب عن البيت في الايام الخوالي، وسيفقدني مدرّسي مدرستي، حيث كنت في الصف التوجيهي ومن الطلبة النشيطين وقلت في نفسي: انهم سيمنحوني النجاح…

الافكار تختلط في ذهني.. قبيل مغادرتي البيت قبلّت اخوتي جميعاً، وخاصة اختي الصغيرة التي ما تزال في مرحلة الرضاعة… عيون امي الحزينة تمثل أمامي كأنها اللحظة، واتخيل نفسي ارقد على السرير بجانب اولئك الاخوة الجرحى، احدث اخي الاصغر مني بأن الوطن لا يسترد بغير الدم والفداء، ومن يروم العزة والمجد، والقضاء على حياة التشرد والاغتراب والمهانة، عليه سلك نفس الدرب، فلسطين غالية يا أخي كانت هذه آخر جملة أتذكرها».

الأسْر

«الثامن عشر من آذار لعام 1968.

الشمس دافئة، تبعث بشعاعها الذهبي على وجهي، فتحت عيناي، واذا بالجنود يحيطون بي من كل جانب، وجوه ليست اليفة، تبعث على الاشمئزاز، أغمضت عينيّ، هل انا في كابوس مزعج ام حقيقة؟ فتحت عيناي مجدداً، وبحركة لا شعورية مددت يدي إلى وسطي حيث كنت اتمنطق بحزام يحمل بعضاً من القنابل اليدوية… لكن لا شيء. اين رشاشي؟ لا أعلم… ماذا جرى؟ لا اعلم، كأنني ما زلت في كابوس مزعج… فحلقي جاف، لا اقوى على الكلام… نظرت إلى جسمي فإذا بالدم يملأ الحمالة التي اتمدد عليها.. والجرح الثاني يتكتل قطعاً قطعاً… النيران متأججة في جوفي، وعلى وخزات الألم نطقت بكلمة «ماء». اللغط يكثر من حولي، العيون تحدق بي تريد ان تحرقني… تدافعات وصياح وشتائم، احدهم يعطي تعليمات ـ هذا ما افهمه من تعبيرات وجهه وحركة يده ـ تندفع مجموعة نحوي…. تنقلني إلى مكان الاشتباك الاول، واحدهم يقوم بتصوير الموقع، متتبعاً خط الدم.. إلى ان يصل إلى مكان الاشتباك الثاني».

«ألمي يشتد.. وأعماقي تشتعل، أريد ماء، ولكن لا مجيب.. أحدهم، يضع شارات على كتفيه، يحاول ان يستجوبني بلغة عربية ركيكة، ولكن ليس بي قدرة على النطق بغير كلمة ماء.. أعادوني إلى سفح المعسكر، وهناك قام احدهم بإسعافات اولية، ثم حملوني اتجاه طائرة الهليكوبتر الجاثمة خلف تل أبو السوس».

«كنت اتوقع الموت بين لحظة واخرى، وتمنيتُ لو كان مصيري كرفيقي الذي شاهدت استشهاده على ثرى الارض الحبيبة… تمنيت ذلك الموت على رؤية هذه الوجوه المكفهرة المجرمة التي تحيط بي… التي تتلذذ على ألمي. لم يكن بي قوة جسدية لاصدار كلمة تعبر عما يجول بخاطري ولا صفع بها وجه العدو فضغطت على اسناني وزفرت ـ ما اصعب ان يجد الفارس نفسه اسيراً.

داخل الطائرة وجدتُ نفسي مطوقاً، فعدد من الضباط وآخرون يرتدون الزي المدني يحيطون بالحمالة التي استلقي عليها، كأنها نعش.. اقترب مني احدهم وسألني ان كنت ادخّن. لم ارد عليه واكتفيتُ بتوجيه نظرة شزراء اليه. أعاد السؤال فاجبتُ بحركة من عيني بأنني لا ادخن. فقال: ان آثار الدخان على اصابعك . لم أعِرْه اهتماماً، ولم أجب. حاول وضع فص من البرتقال بين شفتيّ فصككت اسناني لأمنعه من فعل ذلك.

لا ادري كيف نزلت من طائرة الهليكوبتر، فعلى ما يبدو انني اصبت بإغماءة طويلة، حيث لم اصحُ الا مع المساء فوجدت نفسي مرتدياً مريولاً ازرقاً، مفتوحاً من ظهره، وملقى على سرير مربوط به قدمي اليسرى، ويقف قبالتي جندي يحمل سلاحه، ضمادات بيضاء تلفّ رجلي اليمين من الفخذ والساق. لقد عرفت من احدى الممرضات بأنني في مستشفى هداسا في القدس فهاجت الذكرى ممزوجة بالالم، وتمنيتُ لو اتمكن من القفز من الدور السادس الذي ارقد فيه.

بعد منتصف الليل، جاءني احد الصهاينة، ويرتدي الزي المدني… ذو شوارب كثة طويلة بيضاء.. طويل القامة، حنطي البشرة، يتقن العربية جيداً، وبلهجة منطقة القدس، قال لي انه يدعى زكي ويريد ان يعرف اسمي، وان يتحدث معي قليلاً. اردت ان أجيبه، ولكنني لم افق على الكلام، حيث اشتد بي الالم وتعبت كثيراً، ولم اصح الا بعد ساعات».

هوامش:

1 أمين آخر يحمل اسم سامي الخوري، هو الأمين سامي ايوب الخوري، من بلدة الكفير حاصبيا ، وكان تولى مسؤوليات مركزية منها عمدة الاذاعة. اصدر مذكراته بِاسم «أمل لا يغيب». كتبنا عنه عند رحيله، كما عن شقيقته المذيعة الرفيقة عبلة خوري، مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info .

2 من مواليد المنسي حيفا في 27 ايلول 1950. بعد المرحلة الابتدائية انتقل إلى مدرسة وكالة الغوث. شارك في المظاهرات، ثم راح يقودها. يقول في الصفحة 8 من كتابه: «كنت أفضلّ درس التدريب العسكري، وكانت لحظات سعيدة عندي حينما رميت على أوّل قطعة سلاح بندقية إنكليزية، وفي المدرسة ايضاً احببت دروس الدفاع المدني، وكنت من المتقدمين بها».

3 يقول في مكان آخر من الصفحة 12 انه التحق في جيش التحرير الفلسطيني وساهم في الحراسة ودوريات الاستطلاع وعمليات زرع الالغام في القواعد الامامية من الغور الشمالي من الشريط الحدودي من الارض المحتلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى